الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة انطباعية-متعجلة-في قصة قصيرة جدا بعنوان (-رغيف-..مغموس في الوجع) للمبدعة التونسية أ-نعيمة المديوني.

محمد المحسن
كاتب

2024 / 1 / 11
الادب والفن


-"هنالك فرق،فرق كبير بين الكاتب والإنسان العادي،الكاتب فنان،حالم،مليء بالرغبات،بريد أن يهدمَ العالمَ ويبني عالما جديدا،عالما خاصا قد لايعني الآخرين-عبد الرحمن منيف-

تصدير : حين تدفع بنا المبدعة التونسية المتميزة أ-نعيمة المديوني إلى الولوج-قسر الإرادة-إلى فضائها الإبداعي،فإنما نراها تسعى-بجهد غير ملول–إلى أن تكون شاهدة على عصرها وفاعلة فيه بالقدر الذي يحتمله واقع المنع والإباحة،لذلك فهي تجرنا كما أسلفت–دون وعي منّا-إلى ذواتنا أو هي تذكرنا بها مشروخة مشظاة..

هو نص إبداعي لكاتبة تونسية متميزة أتقنت مسك القلم وتشكيل الحروف وقيادة زمام اللّغة بحرفيّة عالية وبلغة متمكّنة.لغة رغم سلاستها واسترسالها إلّا أنّ معجمها ينمي عن تمكّن عميق للّغة وهذا التّمكّن لعمري لم يأت من فراغ،فقد كشف السّتار-في تقديري-عن مطالعات كثيرة، قيّمة،تعود بالتّأكيد لسنيّ طفولتها ممّا لا شكّ فيه..
أتحدّث هنا-دون مجاملة ولا محاباة-عن المبدعة الفذة أ-نعيمة المديوني،التي أبهرتني لوحتها القصصية الموسومة ب"-"رغيف"..مغموس في الوَجَع"..ولولا بقايا شجاعة هاجعة بين ضلوعي لخرجت عن مألوف الرجال وجميل صبرهم..وبكَيت بملء الفم والعقل والقلب والدم..على زمن أخرس كهذا مفروش بالمواجع والأحزان..
وهنا أقول-بموضوعية مطلقة-تحسَب على عفتي النقدية-:ببراعة ووعي وخبرة متنامية،قصة بعد قصة,وخاطرة بعد خاطرة،تنجو أ-نعيمة المديوني من شرك الكتابة وفقا للمعايير "النسوية التقليدية"،أعني أنها لا تحاول أن تركبَ تلك الموجة المغرية والتي تركبها كثير من كاتبات القصة القصيرة هذه الأيام وهن يمسكن بتذكرة الاهتمام النقدي الذي يبديه كثير من النقّاد بكل ما تكتبه النساء،بغض النظر عن مستواه الفني،وبكل ما يكتبه النساء والرجال ويكون موضوعه النساء بغض النظر عن متنه الإبداعي أيضًا.-فنعيمة-لا تلتفت إلا لمحض فكرتها الأساسية،بغض النظر عن جنس أبطالها،وهي تبدو شديدة الإخلاص لذلك الموضوع،حيث تستغرقه بشغف وبساطة وعفوية ملحوظة.
تتجلى البراعة القصصية في "-رغيف-مغموس في الوجع" للمبدعة أ-نعيمة المديوني،في العين الراصدة للواقع ولتفاصيله الصغيرة ومآسيه ومآزقه المختلفة.فالكتابة-هنا-تنشد تحقيق تنوع وتميز وذلك بتوظيف الدراما والمفارقة للدلالة على تنوع طرق هذه الكتابة وتقنياتها.وهكذا نجد أن -القصة-تحقق تلك المسافة بين الواقع والمتخيل حيث المواقف المتعددة التي تصور واقع الإنسان من خلال أفراحه وأحزانه وهمومه تحيل-هنا-على الوفاء للأم والرهان على ارضائها وإسعادها في جانب معين،وعلى نقد الواقع البائس بكل تداعياته الدراماتيكية..هذا الواقع الذي أفرزته الطبقية،المحسوبية والحيف الإجتماعي في جانب آخر.."بلد ضاعت فيه هيبة العلم وارتفعت فيه التّفاهات وبويع التّافهون.. بلد سادة القوم فيه أصحاب الملايين المنهوبة من عرق المضطهدين..بلد لا يقدّس غير أصحاب البنوك المكتنزة والبطون المملوءة."
بعبارات شديدة الإيجاز لكنها تحمل من غنى الدلالة وقوة المعنى ما ينطق صراحة بنضج القصة واستواءها فنيا وبتنوع واتساع ثقافة صاحبتها،واعتمدت الكلمة الدالة الموحية،فهي تحدثت بلسان الراوي في تجسيد حكاية بطل القصة الذي يحاول جاهدا التخلص من عقال البؤس،شظف العيش،ونفض غبار الهموم عنه فيما كان جادا في تغيير حياته نحو الأفضل والأتم من أجل إسعاد أمه التي أنهكتها دروب الحياة المتشعبة وأفنت عمرها ليتبرعم غصنه (الإبن) ويتفتّح في بستان الحياة بمنأى عن الفقر ونابه الأزرق المتوحّش..
لن يستطيع أيٌّ منا أن ينكر أن هذا النص يلامسه،بل يتحدث عنه في صورةٍ من الصور..وهل يكون الإبداع أكثر من هذا ؟!.
نحنُ أمامَ نصٍّ زاخرٍ بلغةٍ فريدةٍ متوهجة..لغة جمعت ما بين النثر والسرد القصصي بكل حنكةٍ واقتدار..
فلا نكاد نقرأ جملةً إلا و يحضر فيها رمزٌ أو تشبيهٌ أو كنايةٌ أو استعارة،ومع ذلك نجد النص لا ينفلتُ من يدِ الكاتبة ليحافظَ بكل مهارةٍ على لغةِ القصة القصيرة جدا حاضرةً ومهيمنةً على كل انتفاضاتِ تلك اللغة الرائعة.
إذن في هذه القصة السلسة يفاجئنا هذا الازدحام من الصور البلاغية الرائعة والتي جاءت خادمةً للنص وموظفة بشكل دقيق للتعبير عن أحداثه وتقديم رسالته،وقد جاءت عفويةً في غالبها غير مقصودةٍ لذاتها،لكنها ألبستِ النَّصَ رداءً حزينا،وموجعا نترك القارئ الكريم يكتشف قفلته وابداء الرأي-فيه،هذا إن لم تخنه دموعه-في هذا الزمن الذي ضلّت فيه-جكوماتنا- الطريق إلى العدل وكرامة الإنسان..
-ثيابه على عجل..ألقى نظرة خاطفة على أمّ أرهقتها السّنون.. لمح في عينيها نظرة أمل استلمتها من شبابه..تدافع وجيف قلبه.. في لحظة من الزّمن امتزجت أحلامهما..رسم على جبينها قبلة أودعها حبّه وحنانه..غادر الدّار يرافقه دعاؤها.. اندسّ بين المنتظرين يستعجل الزّمن.. عساه يستنصر بمباركة أمّه وينال المراد.. رفع عينيه إلى السّماء يستجدي عطفها.. من غيرها يسمع دعاء المحتاجين.. من غيرها يمحو دمعة المقهورين.. وحانت ساعة الصّفر.. ولج غرفة فسيحة يتصدّرها مكتب فاخر.. تبعثرت خطاه.. ازدحمت الأجوبة داخله.. لم يعرف بماذا يجيب.. فقط وجه واحد ملأ كيانه.. وجه أمّه ظلّ ينظر إليه.. يتمتم بالدّعاء.. من أجلها.. من أجل بريق عينين مهزومتين يريد الحصول على هذه الوظيفة.. أدمعت عيناه وآنفطر منهما سائل دافئ.. ماذا لو عدت أجرجر رجليّ خائبا ؟ ماذا لو خيّبت رجاءها وما حصلت على هذه الوظيفة؟ ما فائدة الشّهائد العلميّة في بلد عقيم؟ بلد ضاعت فيه هيبة العلم وارتفعت فيه التّفاهات وبويع التّافهون.. بلد سادة القوم فيه أصحاب الملايين المنهوبة من عرق المضطهدين.. بلد لا يقدّس غير أصحاب البنوك المكتنزة والبطون المملوءة.. مادت الأرض تحت قدميه وهو يرى أمّه ذليلة.. أذلّها الفقر ونهشت عظامها الخيبة.. آستند على الصّبر وهمّ بمغادرة المكان.. جاءه صوت قريب يعيده إلى مكانه.. متى تنطلق معنا في رحلة تجريبيّة قد تحطّ رحالها بيننا أن أنت أجدتها؟.. لم يتمالك نفسه.. قاطع صاحب الصّوت وقال" الآن ".. أبتسم الصّوت وأدرك لهفته على العمل.. تمنّى له إقامة مريحة بينهم وطلب منه العودة بعد أسبوع.. غادر المكتب يملأه النّشاط والإصرار على البقاء.. ألقى بنظرة الإمتنان إلى السّماء.. شكر الله سرّا وعلنا.. أسرع في خطوه ليزفّ الخبر الى حبيبة قلبه.. من غيرها يقاسمه أحلامه؟.. من غيرها أفنى عمره في سبيل أن يفوز بشهادة جامعيّة تقيه غدر الزّمان؟ من غيرها عاش الحرمان ووهبه الأمان؟ وصل الدّار.. دفع الباب.. نادى بأعلى صوته.." أمّي.. أمّي.. ابشري.. حصلت على الوظيفة.. " ما جاءه صوت أمّه.. كرّر النّداء.. "أمّي.. أمّي" ولا يزال يكرّر....
نعيمة المديوني
حافظت القصة بلغة سردية شعرية أنيقة تتناثر كما الورد في الرياض النضيرة دون تكلف ولا شطط مستفيدة من تقنيات القصة القصيرة دون استغراق في البوح الذاتي الذي يحور شكل القصة (العمل الادبي) الى مناجاة ذاتية محضة تتخندق حول الفرد ومشاغله الصغيرة،والسرد عادة يعتمد على الوصف الدقيق والتصوير المبدع وبناء العلاقات التعبيرية في اطار مرن قادر على انتاج الأحداث والأنماط ويصنع الشخوص،ويولد المعاني و-يصقل-المبنى..
ومن هنا،لا أتصور يجانبني الصواب إذا قلت أن هذه القصة القصيرة جدا-وهذا الرأي يخصني-في منتهى الروعة وجيدة الحبك والسبك ومتناغمة لاترى فيها عوجا ولا أمتا..هذا ما يشعرنا بأن الكاتبة تبشر بميلاد أعمال إبداعية كاملة الدسم في مقبل الأيام،وهذه التباشير لا نسوقها جزافا ولكن نستند على ما يتوفر من قدرات حقيقية للكاتبة.
ختاما أقول :لقد كانت-هذه القراءة الإنطباعية المتعجلة-مجرّد استكشاف أولي لخارطة هذه القصّة القصيرة جدا المتكاملة من حيث الشكل والمضمون وإضاءة لما حمله نصُّ الكاتبة المبدعة أ-نعيمة المديوني من فرادة إبداعية وتكاملية شكليةٍ ومضمونية وهو بمثابة جبلٍ من الجليد ما يكون تحت سطح الماء أكثر ممّا يكون فوق سطحه..
ولنا عودة إلى-هذه اللوحة القصصية العذبة رغم مرارة خاتمتها-ريثما يختمرعشب الكلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس