الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل رحل كريم مروة حقًّا؟

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2024 / 1 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


يمثل الأستاذ كريم مروة النائب العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني، والماركسي والاشتراكي المجدِّد أو المجتهد، أو بتعبيره هو المتواضع"المدعي التجديد والاجتهاد"، يمثل ظاهرة سياسية وفكرية وإنسانية جديرة بالدراسة والاهتمام؛ بفضل قدرته على فهم التحولات الجِذرية الجارية في البنيات الأنطولوجية والإبستمولوجية والتاريخية للعالم المعاصر.وشجاعته في نقد التجرِبة السوفيتية واستخلاص الدروس المستفادة منها، بل الاختلاف مع مفاهيم أساسية في النظرية الماركسية ذاتها؛ فالماركسية في نظره مثل أي معرفة إنسانية هي نسبية وتاريخية، ولا يمكن أن تكون فكرًا ثابتًا أو عقيدة دينية.
مؤكِّدًا على أهمية"تكريس فكرة التعددية الاشتراكية مقابل النموذج الاشتراكي السوفيتي الواحد، وتكريس فكرة الترابط العضوي بين الاشتراكية والديمقراطية"؛ ومن ثمَّ، راح يشدِّد على أهمية ما قام به مفكرنا الراحل مهدي عامل(حسن حمدان)، وإن رأى أنه كان بحاجة إلى "استكمال مشروعه، ونقله من تجريد لا يخلو من التعسف إلى الواقع الملموس، وهو نقد كنا نواجهه به، ولو بخجل، أو بتهيُّب مني على الأقل".
وكان الأستاذ كريم مروة يسخر دائمًا من أصحاب فكرة أن انهيار التجرِبة السوفيتية أتى بفعل مؤامرة إمبريالية، وأن جورباتشوف وأمثاله هم رموز هذه المؤامرة من الداخل، مؤكِّدًا أن التجرِبة كانت مليئة بعوامل الخلل التي أدت إلى سقوطها.
لذا يذكر الأستاذ مروة بمرارة ما قاله أحد رفاقه القدامى "حسن قريطم" في أحد اجتماعات الحزب الشيوعي اللبناني: إن ثقتنا بالرفاق السوفييت تجعلنا نكتفي بما يرد في بيانات وكالة تاس لكي نحدِّد موقفنا السياسي!
مضيفًا أن"الطبقة العاملة تغيَّرت، ولم تعد كما كانت عليه أيام ماركس، أي في دورها التاريخي لتغيير العالم. وبالتالي علينا أن نفكِّر فيمن حلَّ محلَّ الطبقة العاملة، أو فيمن هي القوى الي حلَّت محلَّ القوى العاملة في ميدان الإنتاج في الحقبة الراهنة من تاريخ العالم"، مشيرًا في هذا السياق إلى أن"هناك كتلة تاريخية جديدة يجب أن تنشأ من أجل إنجاز مهمات تحرير دولنا ومجتمعاتنا من الاستبداد الذي يشكل العائق الأساسي أمام المهمات الأخرى ذات الصلة بالتنمية والتطوير والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العلمي، وهي مهمات ذات صلة مباشرة بتحرير إنسان بلادنا من كل أنواع الصعوبات قديمها وحديثها، وذات صلة بإدخال بلداننا في العصر وفي تحولاته الكبرى".
متابعًا:"إذن هي كتلة مختلفة تمامًا عمَّا كنا نتصوره في أحزابنا الشيوعية من أن أساسها وعمادها وقوتها الأساسية المحددة هي الطبقة العاملة". الأمر الذي دفعه لا شكَّ إلى طرح سؤاله المحوري: هل الحزب الذي ورثناه -في حالتنا نحن الشيوعيين- ما يزال صالحًا للقيام بمهمة صياغة مشروع للتغيير باسم الاشتراكية بالمعنى الإنساني الذي تشير إليه الأفكار الاشتراكية؟
وجوابه الحاسم هو: قطعًا لا. ولكن: أي تنظيم سياسي؟ تلك هي المسألة.
إذ إن هناك"عددًا لا حصر له من المؤسسات والحركات الاجتماعية والثقافية المرتبطة بقوى وفئات اجتماعية مختلفة والمعبِّرة عن قضايا واهتمامات مختلفة، ستكون بالضرورة الرديف لهذه الأحزاب، ولن تكون النقابات وجمعيات المجتمع المدني المعروفة هي وحدها النماذج لهذه المؤسسات".
لذا ثمَّنَ كثيرًا الدور الكبير الذي اضطلع به الرفيق "نقولا شاوي" في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني في ترسيخ الديمقراطية والشرعية وتجديد القيادة والدفع بالعناصر الشابَّة من الكوادر إلى مواقع القيادة.
وخاض الأستاذ مروة مع الرفيق جورج البطل صراعًا ضاريًا ضد الرفيق حسن قريطم الذي قام بالاتفاق مع الرفاق السوفييت بعملية إبرار جوي للانقضاض على حركة التجديد هذه داخل الحزب الشيوعي اللبناني. بل إن الرفاق السوفييت قاموا باحتجاز الرفيق نقولا شاوي في أحد مستشفيات موسكو عقابًا له على خطوته التصحيحية تلك. ولكي تكتمل فصول المهزلة، قام حسن قريطم ومجموعته الموالية للسوفييت داخل الحزب، بعقاب كريم مروة وإرساله إلى المدرسة الحزبية في موسكو لإعادة تأهيله أو استتابته على طريقة الحركات الأصولية المحافظة.
ولا ننسى بالطبع ما جرى مع الرفيق فرج الله الحلو (الرفيق سالم) الذي رفض موقف الاتحاد السوفيتي من مشروع تقسيم فلسطين؛ فأقصيَ تمامًا من قيادة الحزب، وصيَّروه عامل مطبعة جزاء نَكالًا له على تجاسره على الاختلاف مع رب الأرباب"الحزب الشيوعي السوفيتي"!

لهذا كتب مرَّة عن الرفيق "فؤاد زحيل" المفكِّرالماركسي اللبناني يقول:
ماذا يعني أن يكون مثقف ما مفكِّرًا، أو أن يُنعت أو يُعرف، بهذه الصفة؟
إذ ليس المهم في رأيه أن يمتلك مثقف فكرًا، أو أن ينتمي، أو يتعصب لفكر، بل إن المهم هو أن تكون لهذا المثقف إبداعاته في هذا الفكر بالذات، الإبداعات التي تعطي لفكره سمات هي سماته الشخصية. فيستحق بذلك أن يحمل اللقب بامتياز. مؤكِّدًا أن"الحديث عن فؤاد زحيل قد أزال عندي الحيرة القاتلة"؛ فهو "مثقف موسوعي، وهو صاحب رأي وموقف، حدَّدهما بوضوح من موقعه الذي لم يتخلَّ عنه، موقع الماركسي الملتزم الذي عرف كيف كيف يربط ويوحِّد في حياته العملية أنَّى كان، وأيًّا كان نوع عمله، بين الفكر والممارسة، أي بين الفكر والسلوك، أي بين الفكر والأخلاق". ثم راح الأستاذ كريم مروة يستعرض بعضًا من جهود الرفيق فؤاد زحيل في هذا المقام عبر كتاباته القليلة، ولكن المهمة، ومنها "فذلكة النظام الداخلي للحزب الشيوعي اللبناني"، وفي نقاشاته الشفهية مع رفاقه وأصدقائه؛ من أجل تعريب الماركسية، أي الاجتهاد النظري المستند إلى
فكر ماركس الجدلي؛ لجعل الماركسية من خلال تطويرها نظرية علمية، أي فكرًا علميًّا للتغيير في زماننا هذا، وفي بلداننا بالذات، وفي الشروط التاريخية لتطورها.
لا سيما أن التعريب السائد لم يكن كافيًا في الحقبة الماضية، سواء في الحزب الشيوعي اللبناني، أو في كل الحركة الاشتراكية في البلدان العربية، أو لدى المفكِّرين الماركسيين العرب. بالإضافة إلى أن الترجمة السائدة كانت في الأعم الأغلب محصورة فيما كان يُنشر في موسكو من كتابات ماركس وإنجلز بشكل انتقائي في خدمة فكر معين. وهو الدور العظيم الذي نهض به الرفيق فؤاد زحيل إبَّان قيادته لـ"دار الفارابي"؛ كدار للنشر، ومركز للعلاقات مع المثقفين في شتى المدارس الثقافية، اليساريين بعامَّة، وماركسيين متخصِّصين في الفكر النظري، وفي ترجمة النصوص الكلاسيكية لكلاسيكيي الماركسية.
غير أن وجوه إبداع وتميُّز الأستاذ كريم مروة كثيرة ومتعددة ما بين الثقافة والسياسة، ولعل مقالاته في مجلة "الطريق" خير شاهد على ذلك. كما كان لنشاطاته الفكرية ولا سيما ما ارتبط منها بالذكرى الخمسين لنشوء الحزب الشيوعي اللبناني أثر كبير؛ فقد شارك، مثلًا، في إنجاح واحدة من أهم الندوات التي أقيمت في مركز الاحتفالات في مقهى "عروس البحر"، وكانت مكرَّسة للحوار بين العَلمانيين والدينيين، وقد أدارها فؤاد زحيل، وشارك فيها كلٌّ من:الشيخ صبحي الصالح وحسين مروة والشيخ محمد يعقوب والدكتور كلوفيس مقصود.
كما بذل الأستاذ كريم مروة جهدًا عظيمًا في تأسيس عمل ثقافي- مالي مع الرفيق فؤاد زحيل، يسهم في"تعزيز دور دار الفارابي، ليس فقط بوصفها دارًا لنشر الكتب على اختلافها، بل باعتبارها مركزًا للبحث، أي لإنتاج المعرفة. وكان ذلك يحتاج إلى تمويل، أي إلى شركاء يملكون قدرات مالية". وجرت اتصالات مع "دار التقدم" وسائر دور النشر السوفيتية، وغيرها من مؤسسات النشر في البلدان الاشتراكية، وكذلك مؤسسة"14أكتوبر" اليمنية الجنوبية.بَيْدَ أنهم لم يوفقوا إلَّا في إقامة شراكة بسيطة وجزئية بين دار الفارابي ودار مجدونرودنايا كنيجا لتأسيس مكتبة تجارية؛ ومن ثم لم تنجح محاولاتهما - كريم وفؤاد- في تأسيس مركز للأبحاث.
يقول الأستاذ مروة:"أذكر أننا تابعنا هذه المهمة بعد عودة حسين مروة من موسكو، حاملًا معه سفره الكبير"النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"؛ لتأسيس مركز للأبحاث العربية الإسلامية في الفلسفة والتاريخ برئاسته، ومشاركة عدد من الباحثين، وأعددنا دراسة مفصَّلة حول هذا الموضوع، ولكننا لم ننجح في إقناع أحد، لا في موسكو، ولا في البلدان الاشتراكية الأخرى، ولا في عدن، ولا مع أيٍّ من القادرين المهتمين بهذه القضية من العرب".
ولأن الأستاذ كريم مروة مهموم بقضية التنظيم وعلاقتها بالسيرورة التاريخية لتطور الماركسية وتقدمها، وكذلك بالعلم، وبالنضال الطبقي البروليتاري، فقد اضطلع لفترة ليست بالقصيرة بالمسئولية الاقتصادية- المالية للحزب الشيوعي اللبناني، وحاول مع رفيقه فؤاد زحيل وجورج أبو نادر وآخرين، إرساء مشروع مؤسساتي يؤمِّن استمرارية النضال ومجابهة التحديات المفروضة عليهم، لكنه لم يُصب نجاحًا يُذكر في هذا المضمار. ويعزو الأستاذ مروة إخفاقه في هذا المجال، لا إلى النقص الكبير في الخبرة عندهم، ولا إلى المصاعب الموضوعية في هذا الميدان فحسب، بل بشكل أساسي إلى "الفساد الذي كان معشِّشًا في المؤسسات الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية الأخرى، وهي المؤسسات التي كان من الطبيعي أن نتوجَّه إليها للقيام بأعمال اقتصادية معها".
إلَّا أن أهمَّ ما يتسم به الأستاذ كريم مروة هو إحساسه الذي لا ينقطع بمسئوليته كمثقف حيال بلده وأمَّته، فدأبَ في حرب العاميْن في لبنان (1975-1976) على
إصدار نشرة بالفرنسية في باريس باسم(liban en lutte)
مع فؤاد زحيل ونديم عبد الصمد وألبير فرحات، وإرسالها إلى كل أنحاء العالم؛ للتعريف بما يجري على أرض لبنان من حرب أهلية تقودها بالوكالة عن إسرائيل وأميركا القوى الانعزالية اللبنانية بعد الهجوم الكتائبي على فدائيي منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، ونهوضهم بذبح الفلسطينيين في الكرنتينا وتل الزعتر.


إننا نفقد لا ريب برحيل أستاذنا كريم مروة مثقفًا نقديًّا من طراز فريد، إن لم أقل استثنائيًّا في الحقل الفكري والمعرفي المعاصر، فاتحًا لنا جغرافيات تفكيرية جديدة للقرن الحالي، محاولين معه التفكير بصوتٍ عالٍ في قضيته – قضيتنا الأساسية:
إن مهمتنا الكبرى القادمة، مهمة الأجيال كلها، المطروحة على جدول أعمال حركة التاريخ، هي تجاوز الرأسمالية باسم الاشتراكية، أو بأسماء أخرى. وهذا هو في نظري الجواب العام أو مشروع الجواب عن السؤال الكبير الذي يشغلنا، وسوف يظلّ يشغلنا لزمن غير قصير:هل للاشتراكية مستقبل في بلداننا العربية، وفي العالم؟
وهل ستتمكن الأجيال القادمة، عندما تتحرَّر هي ذاتها، وتحرِّر بلداننا من آفات التخلف والاستبداد، من إعادة الاعتبار إليه وإلى الكثيرين من الرواد، ومن إزالة الظلم الذي يلحق بهم وبإبداعاتهم؟ كما كتب هو يومًا عن صديقه الأديب والسياسي الكبير محمد عيتاني.
لكن، هل رحل كريم مروة حقًّا؟
لا، بل سيظلّ راهنًا يفتح أعيننا على حقيقة العالم الذي نعيش فيه، وكيف نتعامل معه بأدواته ومنهجياته المتجدِّدة دومًا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت


.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا




.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و


.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن




.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا