الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان المسحوق في (يوميات قميص) للقاص كامل الدلفي

داود السلمان

2024 / 1 / 12
الادب والفن


سمة القصة القصيرة:
القصة القصيرة، ولاسيما القصيرة جدًا، كما هو واضح، هي لون من أروع الابداع الأدبي، وذلك لاعتبارات كثيرة؛ لعلّ منها قضية "التكثيف" حيث يجب أن تكون القصة القصيرة مكثفة المعاني، مضغوطة الجُمل، مسبوكة سبكا، بمعنى آخر يسودها طابع البلاغة، ويتمركز فيها الروح الفلسفية، ويسيطر على أجوائها "الرمز"، ثمَّ على الكاتب أن يختار الكلمات بعناية ودقة فائقتين، ومن ثم تُصاغ عن حرفة ودراية عاليتين. أضافة إلى "لعبة الكاتب" إذا سُمح لي بأن أطلق هذه العبارة الاخيرة، أو هذا المصطلح الذي أخرجته من عندياتي ومن اختراعاتي. وأعني بلعبة الكاتب هو أن يدهش القارئ ويفاجئه بخاتمة قصته، لتكون ضربة قاصمة للحدس الذي يبيته القارئ في ذهنه، وهو يسيح في حقول القصة تلك، سياحة ذهنية جمالية والتي يظهر إنها اثارت اعجابه، وفتنت لُبه. لأنّه لولاه لم تثر أعجاب القارئ (وهنا لابد أن يلعب الكاتب لعبته الابداعية كي يجر القارئ إلى مرمى الهدف الذي رسمه مسبقا، وهو من أولويات نجاح العمل)، فإن الكاتب قد أخفق، أي أن عمله هذا بسيط جدًا، وسطحي ليس ذا أهمية تُذكر.
كما أن العنوان مهم جدًا، أي لا يكون تقليديا، العنوان الصادم يثير الأهمية لدى القارئ، لا سيما القارئ غير التقليدي، الساذج الغرير، أما القارئ الذكي فأن العنوان المغاير غير التقليدي، فهو مهم جدا لهذا القارئ، حيث يثير حفيظته.
القصة القصيرة جدا، لا تتحمل السّرد الطويل والوصف المتشعب كما هو معلوم، لأنّ ذلك يربك النص القصصي، فيخرج عن النهج المرسوم لشروط كتابة هذا اللون من الابداع.
وإذا كان الأمر ذلك، نستطيع القول بأن روعة القصة القصيرة تأتي من كونها، تجذب القارئ أزره للمتابعة والاستمرار حتى النهاية، للاعتبارات التي ذكرناها آنفا، ونظيف بأنها تكون كوجبة فكرية سريعة، لا تأخذ من وقت القارئ إلّا اللحظات اليسيرة. كذلك من كونها لا تحتاج إلى الدقة وارباك الذهن بالتركيز.
تحليل وتأويل:
كما قلنا في أكثر من مكان، نؤكد هنا، على أن القصة القصيرة لابد وأن تتمتع بطابع الرمز، فالرمزية هي عامل مهم ومن خصوصية منهج هذا اللون من الابداع، بحيث إذا أخلّ الكاتب بشرط من شروط هذا الطابع، سيصبح العمل عبارة عن "حكاية"، بل سيصبح باهتا لا طعم له.
القاص كامل الدلفي في هذا القصة القصيرة، استخدم أعلى سلّم من سلالم الرمز، حيث جعل بطل قصته "قميص" رداء – جلباب، وهذا القميص وظفه الكاتب بـ "السوق، الزمن، الواقع التعيس، تقلبات الحياة التي يعيشها إنسان اليوم، ضياع الإنسان...ألخ.
"القميص" ويرمز به الكاتب للإنسان الذي ملأ الارض بالضجيج، والصخب المفتعل، وكذلك بالطغيان والاستبداد، وراح يفتك بأبن جلدته، بأسباب وبدون أسباب، وهذا هو ديدنه، واخلاقه التي سار عليها منذ وجوده على ظهر البسيطة، يوم كان أشبه بالحيوان الأعجم. بل هو ذلك الكائن المجهول، كم عبر عنه الطبيب ألكسيس كاريل. لكن الانسان، رغم تمرده، على واقعه وعيشه، تعرّض إلى النكبات، والى التصدعات النفسية والفكرية، وإلى العنف والقتل، من قبل أخيه الإنسان، وضاعت حقوقه وهتك كرامته، وسُلبت حريته حتى صار متشردًا، خائفا مندحرًا، يتلفت يميلا وشمالا مرهوبًا لا يأمن على حياته، فالقوي يقتل الضعيف، كالحيوان الذي يعيش في غابة مترامية الاطراف.
هذا هو حال الإنسان، منذ مئات وربما آلاف السنين؛ وكان يتصور إن تلك الحقب المظلمة ولّت حيث لا رجعة، لكن للأسف لم يتغير شيء من واقع هذا الانسان عاثر الحظ، فاليوم يعيش القلق ذاته، والخوف ذاته، والوضع المزري لم يتغير منه قيد أنملة.
إنسان اليوم، انهكته الحروب العبثية التي يفتعلها تجار الحروب، من الذين تعالوا في الأرض، وراحوا يسومونه سوء العذاب، حتى صار لا قيمة له، رغم كون الإنسان هو اعظم قيمة في هذا الوجود، لأنه كائن يفكر ميزته إنه يمتلك عقلا جبارًا، وهو ما يفرقه عن بقية المخلوقات.
تقييم للقصة:
القاص لم يفرض فلسفته في هذه الاطروحة الابداعية "القصة"، بل هي جزء كبير من واقع، عاشه الإنسان وذاق مرارته منذ تاريخه الطويل، وكلما طال به الزمن، وتغيرت الحياة، كلما ازدادت معاناته، وهُضمت حقوقه. فالقاص أبدع في ايصال اطروحته، من خلال رسمه لصورة تمثلت بهذه القصة القصيرة جدا، بسردية أختار فيها كلماته بانتقاء، وبجمل منتظمة لا يشعر فيها القارئ بالسأم وهو يقرأ هذه السطور بوهج، وبمتعة.
نص القصة: يوميات قميص
عاد يحلم بجلد طري، نادما لسوء المآل بعدما أبلت الفوضى نظارته... أُوقف سنتين في خزانة الملابس، ولم يأبه للعزلة، لكنه أُبعد من ترف الموبيليا إلى فوضى العربات.. فهو الآن حسير لسلوكه الفض..
أقدم ذات خلسة، وقاء أزراره بطرا لا لشيء سوى الجبن الذي أصابه من نوبات الكوي..
إنه الآن في حالٍ ليس أقل قسوة من العزلة التي مر بها، فهو يواجه صياح البائع الرث الذي بلبل له ذاكرته، وانحدرت منزلته من واحد بألف الى اثنين، ثم الى عشرة بألف.. منذ شهرين يبات مكشوفا عاريا في الطرقات، بينما آلاف الزملاء من القمصان مروا، ونفقوا إلى أجساد أخرى، بينما نزلت قيمته ليرقد في الرصيف مع أكوام تصلح للمسح.. عشرات الأحذية تتقدم منه كل صباح ينزوي هاربا إلى الأطراف البعيدة من الروائح المحملة فيها، إذ مرت أحذية المطاط بزرائب، وأوحال، وطرقات ترابية عفنة طويلة. صار بمنتهى السوداوية، والانعزال لولا تلك الخربشة التي حدثت بإبطه الأيمن، والصوت الأجش الذي تنسمته روحه المجدبة ذات صباح، وعرفت عن نفسها:
- أنا فكرة افترش الرصيف منذ سنوات في مجلة منزوعة الغلاف.. أتعبني التناص، والتقمص، والرياء، تماما كما أتعبك الارتداء، والغسل، والكوي.
- تشرفنا يا صديقة.. ثم أردفت: إن واقعنا يبدو أبديا فلا حاجة بنا إلى الذكريات لكن، جماليات الأمر ليست محدودة، فلا أحد يمتلك صلاحيتنا في مراقبة العالم من أسفل.
- لولا هذه المتعة لكنت ميتا من زمان.
قالت: أنها مملكة الداخلين إلى عالم كان.
- أرجوك أنها جمهورية..
تباعدا .. تخاصما.. تشاجرا..
صار البائع يكتشف بعض عتاد يُعبئ في أكياس بضاعته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل