الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقاط كثيرة سجلتها جنوب افريقيا بدعواها ضد إسرائيل

نهاد ابو غوش
(Nihad Abughosh)

2024 / 1 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


نهاد أبو غوش
قبل أن تبتّ محكمة العدل الدولية في لاهاي بأي قرار بشأن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، سواء بالطلب المستعجل لوقف إطلاق النار الذي قد يستغرق أسابيع، أو بالنسبة لقضية الإبادة عينها التي ربما يتطلب حسمها شهورا طويلة وسنوات، يمكن القول باطمئنان أن جمهورية جنوب أفريقيا، ومنذ قبول دعواها وصولا لتقديم مرافعاتها سجلت عدة نقاط لصالح مبادئ العدالة والقيم الإنسانية ولصالح الشعب الفلسطيني. وضد جرائم الحرب وسياسات القتل والتهجير والتدمير واستقواء القوة الغاشمة على الضعفاء، وتصرف إسرائيل من منطلق قناعتها بأنها سوف تفلت من العقاب في كل مرة، وأنها فوق القانون وبمنأى عن اي محاسبة.
للصراعات السياسية جبهات عديدة ساخنة لا تقتصر على الميدان والحروب العسكرية والسياسية والإعلامية والنفسية، ثمة جبهة قانونية لا تقل أهمية وأثرا، وإن كانت مثل هذه الحروب تحسم بالنقاط وليس بالضربة قاضية. فإن جنوب أفريقيا التي انتصرت لإنسانيتها وتراثها ومبادئها كما للشعب الفلسطيني وضحاياه تكون قد سجلت نقاطا كثيرة في معركة البشرية ضد أبشع أنواع الاستعمار والاحتلال والتمييز العنصري.
قوة الضمير الإنساني
لعل كثيرا من المراقبين والمتابعين، يتساءلون ويتعجبون ويستنكرون عدم قيام أي دولة عربية أو إسلامية بتقديم الدعاوى والشكاوى ضد إسرائيل في المحاكم الدولية (محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومحاكم الاختصاص الجنائي لبعض الدول وفق قوانيها الوطنية تجاه جرائم الحرب). يمكن تقديم كثير من الأسباب والأعذار ومنها الضعف وما يشبه التواطؤ والخوف من العقوبات وقيود اتفاقيات التطبيع، وربما وجود ملفات مشينة لهذه الدول في قمع خصومها وكبت حرية شعوبها تحرجها عند المثول أمام القضاء الدولي كأطراف مشتكية. ولكن رب ضارة نافعة مع أن التأجيل وعدم استخدام أدوات القانون الدولي المتاحة، جاء على حساب حياة ومعاناة ملايين الفلسطينيين التي كان يمكن تجنبها وتوفيرها. ولكن أن تكون الدعوى مرفوعة من قبل جنوب أفريقيا فذلك يمنحها قوة أدبية وأخلاقية هائلة نظرا لتاريخ هذه الدولة ذات المكانة المرموقة على مستوى العالم، وصاحبة السجلّ الناصع في النضال ضد جرائم الإبادة والتمييز العنصري، الوفية لتراث القائد مانديلا الذي وصل إلى مكانة لم يصلها أي من القادة في العصور الحديثة (حتى منتخب كرة القدم لهذه الدولة يسمونه فريق أبناء مانديلا وليس أسود وأفيال وصقور ونسور كشأن باقي دول القارة).
الدعوى إذن منزّهة عن الأغراض والعصبيات القومية والدينية، وبعيدة عن الأطماع والحسابات الفئوية والإقليمية، وهي تنطلق من الضمير الإنساني والالتزام بجوهر قيم الحق والعدالة ومبادئ القانون وحقوق الإنسان، وذلك ما يمنحها قوة مضاعفة في مواجهة عالم قاس ونظام دولي مجحف تسوده لغة المصالح والحسابات الباردة.
كسر الاعتياد والتسليم بالأمر الواقع
أعادت الدعوى تسليط الأضواء على ما يجري في فلسطين وفي غزة على وجه الخصوص من فظائع وجرائم يفترض بها أن تحرك العالم والضمائر الإنسانية فتدفعها للتدخل من أجل الحرب، لكن شيئا من ذلك لم يحصل. زعماء العالم تقاطر خمسون زعيما منهم فيهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس وعدد من الملوك والرؤساء العرب إلى باريس للاحتجاج على جريمة شارل ايبدو التي وقعت في يناير 2015 وقتل فيها 12 فردا من فريق تحرير الصحيفة الساخرة. لكنهم عجزوا عن إدخال شاحنات الإغاثة الإنسانية لقطاع غزة فضلا عن فشلهم في استصدار قرار ملزم بوقف الحرب واستهداف المدنيين. معظم قادة الغرب زاروا إسرائيل لإظهار التضامن معها لما جرى في السابع من أوكتوبر، وهو ما اعتبرته دولة الاحتلال دعما لحقها المزعوم في الدفاع عن النفس، لكن أحدا من هؤلاء لم يتحرك رفضا لما يجري في غزة من جرائم ومجازر يومية، إلى الدرجة التي اعتاد فيها الرأي العام الدولي والعربي والإسلامي هذه الأخبار، حتى بات يسلّم بها كقدر محتوم على الفلسطينيين، ويجري التعامل معها مثل أي حدث يومي اعتيادي يمكن لحياة البشر والدول أن تستمر وكأن شيئا فظيعا واستثنائيا لم يكن.
جاءت دعوى جنوب أفريقيا لتهزّ العالم ولتوقظه من سباته وبلادته، وتكسر صمته وسكونه واستسلامه ولتؤكد أن ما جرى ويجري من جرائم ليست أمورا اعتيادية ولا يمكن المرور عليها، فجرائم الإبادة لا تستهدف الضحايا وحدهم بل هي موجهة ضد الإنسانية جمعاء، والسكوت عليها يعني العودة بالبشرية آلاف السنين إلى الوراء واعتماد شريعة الغاب أساسا مقبولا للعلاقات الدولية.
هل نقول وداعا لعهد الإفلات من العقاب ؟
تستخدم كل دول العالم قوى خشنة وأخرى ناعمة لتحقيق أهدافها، أما إسرائيل فانفردت منذ إنشائها عن سائر دول العالم باعتماد المذابح والاغتيالات كأدوات رئيسة ضمن ترسانة الأدوات الخشنة التي تملكها كالحروب والحصار والاغتيالات والمؤامرات.
لا تعد المذابح وسيلة نافرة أو استثنائية في تاريخ إسرائيل التي قال رئيس وزرائها الأسبق مناحم بيغين أنه لولا دير ياسين (المذبحة) لما قامت دولة إسرائيل. ويعدد الباحثون والمؤرخون نحو مئة مجزرة متوسطة ( عشرات الضحايا) وكبيرة ( مئات الضحايا) ارتكبتها إسرائيل خلال النكبة لترويع الفلسطينيين وتهجيرهم. ربما نعرف الشهيرة منها كمجازر دير ياسين والطنطورة والدوايمة واللد، وكل هذه المجازر تناقلها الناس شفاهة ووثقت الصحف والإرساليات الدولية جوانب منها، لكن معظم المجازر لم يوثق وظل في نطاق السير والحكايات التي يرثها الأبناء عن آبائهم وأجدادهم. واصلت إسرائيل ارتكاب المجازر حتى بعد أن تحولت العصابات إلى دولة، ركّزت هذه المجازر على الشعب الفلسطيني ولكنها اتسعت لتشمل دولا عربية عديدة ومنها مصر والأردن ولبنان وسوريا وتونس وامتدت على طول العقود الثمانية الماضية. الآن تجري هذه المجازر بالبث الحي والمباشر، ويفاخر بها الضباط والقادة الإسرائيليون، ويحضّ على ارتكاب المزيد منها الساسة والمحللون، ويراها العالم بالصوت والصورة في وقت حدوثها ويعجز عن التدخل والتأثير. كل ذلك دفع إسرائيل إلى الاقتناع بأنها ستنجو وتفلت من العقاب كما في كل مرة، وأن الحماية الأميركية المطلقة توفر لها دائما فرص ارتكاب مزيد من المجازر. مع قبول الدعوى الجنوب افريقية، ظهرت إسرائيل كمن وقع في شرّ أعماله، فتغيرت لهجة الإعلام وكبار المسؤولين الإسرائيليين، وراحوا يوبّخون الوزراء الأغرار والجهلة الذين يطلقون التصريحات الداعية للإبادة الجماعية.
مواجهة بين قوة الحق وحق القوة
أشاد كثير من المتابعين والقانونيين المختصين بقوة الملف الذي قدمته جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية، لجهة مهنيته وشموله، واستناده إلى وقائع مثبتة ودامغة من بينها شهادات كثيرة مدعمة بالأدلة والبيانات للمنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة العاملة في قطاع غزة، والتي كانت تتابع مجريات الحرب بشكل يومي، وتصدر بيانات وإحصائيات يومية وتحذر من هول الكارثة قبل وقوعها. وعززت بلاد مانديلا دعواها بتصريحات موثقة لكبار المسؤولين الإسرائيليين من رئيس الدولة ورئيس الوزراء إلى بقية الوزراء وقادة الجيش ونواب الكنيست مرورا بصناع الرأي العام من صحفيين ومثقفين ومحللين سياسيين وجنرالات احتياط يُطلّون على المشاهدين في كل ليلة ليحرضوا على مزيد من الجرائم، وصولا إلى الضباط والجنود الأفراد الذين يقومون بترجمة "أمينة" لتوجيهات قياداتهم ويوثِّقون، بكل فخر واعتزاز، ما يقومون به من فظائع تشمل البحث عن أطفال فلسطينيين رضّع لقتلهم والتنكيل بالأسرى المدنيين والتمتع بمشاهد نسف البنايات السكنية مع التصفيق والتهليل.
إسرائيل هي الأخرى أعدت عدتها جيدا، وأسندت رئاسة الفريق القانوني إلى واحد من ألدّ خصوم نتنياهو وهو الرئيس السابق للمحكمة العليا أهارون باراك (88 عاما) وهو ناج من المحرقة وقد كرّس خبراته القانونية وعلاقاته الدولية للدفاع عن ملف إسرائيل.
وعلى الرغم من أهمية الملفات القانونية وطريقة إعدادها ودعمها بالبيّنات والوثائق، إلا أن جوهر المواجهة هو بين قضية عادلة تتمثل في القتل اليومي لشعب محاصر ومخنوق وخاضع للاحتلال ومحروم من أبسط حقوقه الإنسانية والوطنية، وبين دولة نووية تتمتع بواحد من أقوى جيوش العالم وتحظى بحماية مطلقة من قبل أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم، إنها بشكل أو بآخر مواجهة بين قوة الحق وبين الحق الذي تريد القوة وآلات القتل الغاشمة أن تنتزعه لنفسها في هذا العالم الظالم. ولهذه المعادلة جانب آخر ظنه البعض مجالا للطعن في دعوى جنوب أفريقيا بزعم أن لا صلة لها ولا مصلحة مباشرة بهذه الدعوى، لكن أي مطالعة لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تنص بشكل صريح لا لبس فيه على واجب الدول الأعضاء في منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها دونما أي صلة بين العضو صاحب الدعوى ومصالحه وبين الجريمة، التي هي في جوهرها موجهة ضد الإنسانية جمعاء، ومَن أحرص على أبناء وأحفاد مانديلا من الاضطلاع بهذا الدور؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -