الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن ما لا ندركه

عبد الرحمن جاسم

2006 / 11 / 26
الادب والفن



عرف قديماً أن العرب كانوا يسيرون في الصحراء، مسترشدين بالنجوم، وأنهم أيضاً كانوا يستدلون على الأثر متعاملين مع الأثر الذي ترك على الرمال، وكذلك من خصال الشخص لكي يعرفوا إلى أي المناطق/الشعوب ينتمي. كلها كانت أمورٌ، يا أحبتي، تدل على إدراك ما لا يدرك. ولكي أبسط ما أقوله ههنا، إن الإدراك هو معرفة الشيء، وهذا أمرٌ واضحٌ، يعني أنت تدرك أن الباب أمامك هو باب، من جراء عدة تفاصيل، لا تحسب لها أهمية، إلا أنها هي الأساس في إدراكك لمهمته كباب، هذه بالنسبة للأمور المحسوسة، أما بالنسبة للأمور العقلية، شأن المفاهيم العقلية كالحرية مثلاً، فأنت لا ترى الحرية، ولا تمسكها، بل تشعر بها، وتدركها، إذاً هذا هو الإدراك بأبسط مفاهيمه.
ولكن ما أتحدث عنه ليس ما ندركه، بل ما ليس ندركه، ومع هذا فإننا نتعامل معه على أساس وجوده بيننا. فالخوارق مثلاً، يتحدث الناس فيما بينهم يومياً، عن الخوارق، عن رجلٍ ابيض شعر رأسه لأنه رأى أرواحاً، عن إمرأة حملت طفلاً فأنجبته بأرجل ماعز، وغيرها وغيرها من الأمور التي لا إدراك منطقي لها، ومع هذا نتعامل معها يومياً بمنطق القبول، وليس أبداً بمنطق الرفض، قد نهزء منها أحياناً، وقد نسخر من الأمر ككل، وندعوه بالجهل والتخلّف، ولكن حينما نخلد لأنفسنا، قد نقول، ربما، يمكن، قد يحصل الأمر. إذاً، نلاحظ، أحبتي، أن الأمر ليس مجرد أمراً لا ندركه فحسب، بل هو أكثر من هذا إنه أمرٌ نتعامل معه ونتقبله، ولو خلف الأبواب المغلقة.
كذلك من جراء حديثنا عن الخوارق، نتحدث عن الحب، الحب أمرٌ يسهل إدراكه بطبيعة الأحوال، أو هكذا يعتقد الكثيرون، لكن دعونا من رأي الكثيرين، فلنبقى ضمن المنطق، ما هو الحب؟ هل يستطيع أحدٌ أن يجد تعريفاً منطقياً/عقلياً/ أو حتى شعورياً له؟ نعم، أحبتي، لقد شاهدنا كلنا الكثير من الكتابات، والشعر، والنثر في وصف الأمر، لا تعريفه، وحتى جهد الطبيب الرئيس ابن سينا راح هباءاً وهو يحاول إيجاد تعريفٍ له، إذا ببساطة، لا تعريف للحب، كذلك لا إدراك منطقي له، لأنه ليس واضحاً. فقد يحب الأمير عاملة النظافة لديه، وقد يهوى عالمٌ مثل إينشتاين فتاةً مثل مارلين مونرو، إذا الحب بلا منطق، هكذا نتقبله، ولكن كما أقول، وأعيد، نحن لا ندركه، ومع هذا نتعامل معه على طريقة، أنا لا أدرك الأمر، ولكنني أتقبله.
أمرٌ أكثر بساطة من الأمثلة السابقة، أنتم أنفسكم يا أحبتي، نعم، أجل، لن أخرج إلى البعيد وأبدأ بالحديث عن الآخرين، فلنتحدث عنكم أنفسكم، كم مرةً وقفتم أمام تصرفٍ يجب أن تقوم به، كما يشير المنطق، وفعلتم عكسه؟ ولم تدرك لماذا فعلتم ذلك! كم مرةً تحدثتم بطريقةٍ لا تفهمونها، حتى ولا تحبونها، ومع هذا أكملتم، دون أي إدراكٍ للأمر، وحالما ينتهى الموضوع، تتفاجأون بأنكم أنتم من قام بهذا أو قال هكذا!
فلنشعّب الأمر أكثر، يا أحبتي، الأمر ليس مرتبطاً بما تدركونه أو لا تدركونه، الأمر منطقيٌ أكثر، إذا عرفنا/عرفتم، بأن ما لا ندركه أكثر بكثيرٍ مما ندركه، فنحن ندرك أن هذا الجهاز أمامنا، هو شاشة كمبيوتر، ولكننا لا ندرك أبداً كيفية(منهجية) عملها. كذلك نحن نعرف أن الكهرباء تنير المكان، ولكن كل تفاصيلها بالتأكيد لا ندركها. وكثيرٌ من أمور نتعامل معها، ولا ندرك عنها شيئاً سوى الدور الذي تقوم به. يا أحبتي، نحن حينما نتفاعل مع أي أمرٍ، نراه تبعاً لحاجاتنا وليس لإدراكنا، والإدراك ههنا، يلعب دور المؤرخ للحاجات، وليس المؤرخ للمعرفة. فالإدراك مرتبطٌ بالحاجة، لا بالعلم، ولولا تلك الحاجة، لما عرف العرب كما أسلفت سابقاً أن يستدلوا بالنجوم، فالأمر ليس حباً بالمعرفة، الأمر كان خوفاً من الضياع في مجاهل الصحراء، ومعرفة أنساب العرب، لم يكن أبداً للإستعراض والمباهاة فحسب، بل أيضاً لكي لا تذم ابن قبيلة مشهورة، فيطير رأسك في حرب إحدى العشائر.
يا أحبتي، ما أردت قوله، وضبطه ههنا، إن الإدراك التام للأشياء لا يجعلنا نفهم كل شيء لأنه ليس هناك من إدراكٍ تامٍ للأشياء، وعدم إدراك كل شيء، لا يجعلنا أبداً أقل مما نحن عليه، لأن الكل يدرك ما يحتاجه فحسب. يا أحبتي، بعض الأمور يجب أن تدرك وبعضها يجب ألا تدرك! أوليس في ذلك حكمة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب