الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة الذرائعية العربية واشتراح المصطلح رواية (رحيل السومري الأخير) للأديب والمنظر عبد الرزاق عوده الغالبي إنموذجًا دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2024 / 1 / 18
الادب والفن


إغناء:
الرواية الفلسفية :
يقول (ألبير كامو) في كتابه أسطورة سيزيف: " الروائيون الممتازون العظام، هم الروائيون الفلاسفة - أي أضداد كتّاب البحوث- مثل بلزاك، ومليفيل، وستندال، ودوستويفسكي، وبروت، ومالرو، وكافكا..."
والفلسفة بأقصر تعريف هي دراسة طبيعة الوجود، ودراسة ما يمكن معرفته والسلوك السوي من السلوك الخاطئ، وهي واحدة من أهم مجالات الفكر الإنساني في تطلّعه للوصول إلى معنى الحياة.
والرواية الفلسفية تركز بشدة على الموضوعات الفلسفية العميقة، تتناول الحياة والمجتمع والعالم، من وجهة نظر فلسفية، من خلال الرواية كقالب فني بأحداث وشخصيات مثيرة للاهتمام.
إن الرواية الفلسفية ظهرت قبل اكتمال النظريات الفلسفية، حيث شكّلت الإطار الفني لنشر الأفكار الفلسفية، ونابت عن الإطار الحواري الذي كان، في البداية، قالبًا لإيصالها إلى الناس، مع المشّائين اليونانيين، ثم أصبح المسرح وسيلة النشر في سياقات هزلية وواقعية، إلى أن هبّت رياح الحداثة، التي طرحت الرواية كفنّ أدبي رائد، بل كأم الفنون الأدبية، فاغتنم أدباء الغرب رياحها، فكتب بهذا القالب الروائي كل من جان بول سارتر وألبير كامو، ونشرا عبره أفكارهما وفلسفاتهما الوجودية قبل أن تكتمل نظريتهما الفلسفية، بينما كتب نيتشه روايته " هكذا تكلّم زرداشت" أفكاره في فلسفة الإنسان المتفوّق. صحيح أن الرواية الفلسفية ازدهرت في الغرب، إلا أن بدايات الرواية الفلسفية في شكلها الأكثر نضوجًا تعود إلى المحاولات العربية الأولى، إذ أنتجت العقول العربية أربع صياغات لقصة ( حي بن يقظان) وهي قصة فلسفية كتبها ابن سينا، ثم حوّلها ابن طفيل إلى ما يشبه الرواية، ثم أعاد السهروردي صياغتها على أسس فلسفية مختلفة تحت عنوان ( الغربة الغريبة)، وآخر صياغة كانت على يد ابن النفيس حيث كتبها تحت عنوان ( فاضل بن ناطق)، نشر يوسف زيدان النصوص الأربعة معًا، البطل في النصوص الأربعة يرمز إلى العقل الإنساني، فهو حي من الحياة وابن يقظان، أي ابن العقل اليقظ، والذي تولّى مهمة عرض الآراء الفلسفية لكل فيلسوف من الفلاسفة الأربعة.
ويُحسب لابن طفيل الأندلسي أنه من حوّل القصة إلى شكل روائي، تأثّر بها الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو، في كتابة روايته الرائعة ( روبنسون كروزو).
أما معنى فلسفة الذرائعية العربية، واشتراح المصطلح بالعموم مشتق من الذريعة (pretext)، وهي تقوم على المنفعة التبادلية، وهي سبب وجود الشيء وتعلّقه بواجبه التكويني الملقى على عاتقه كبنية تحقّق مكانة في الوجود أو الفراغ الكوني الذي يشغله الشيء، فلا شيء موجود في تلك الفسحة الكونية دون واجب أو فعل يتعلّق بوجوده ووجود الآخرين معه، بعلاقة تبادلية من كينونات تشغل هذا الفراغ، لذلك فقدان أي مكوَّن في هذا الفراغ الكوني (حتى وإن كان بعوضة)، يشكّل نقصًا فيها ذو تأثير كبير، لذلك كل موجودات الكون هي موجودات مذرّعة بالواجب المتبادل، وتعمل مع غيرها بأتمتة تلقائية عجيبة، كدلالات تبحث عن ذرائعها ومكوّناتها الأساسية لتؤدي هذا الواجب التبادلي في الديمومة، للحفاظ على استمرارية الحياة بشكل سلس وأمين.
سأحاول، من خلال دراسة ذرائعية مستقطعة على الرواية المعنونة ب ( عودة السومري الأخير) للأديب العراقي عبد الرزاق عودة الغالبي الوقوف على أهم المميزات البنائية الفنية والوظيفية لهذه النوع الروائي الموسوم ب ( الرواية الفلسفية الذرائعية).

البؤرة الفكرية:
في البداية، نتساءل:
لماذا لجأ الفلاسفة أو من لهم اهتمام بالفلسفة من الأدباء إلى اختيار الرواية كقالب فني لنشر أيديولوجيتهم الفلسفية أو تصوراتهم التأملية؟!
في هذا الموضوع تقول (أيريس مردوخ) الروائية الفيلسوفة الأكاديمية وأشهر المنظّرين في هذا الإطار:
"الأدب يمكن أن يقرأ من قبل الكثيرين ذوي مشارب ومنازع شتّى؛ أمّا الفلسفة فلا تُقرأ إلا من قِبل نخبة قليلة إذا ما قورنت بقرّاء الأدب" ، ومن هنا تبرز أهمية الرواية في إيصال الفلسفة إلى قاعدة عريضة من القرّاء، كونها تتمتع بإمكانات انتشار كبيرة باختلاف موضوعاتها وأساليبها السردية الإخبارية والتفسيرية التحليلية القادرة على مواكبة النسق الفلسفي في التبسيط والتحليل والاستنتاج، بأسلوب فني مشوّق يجذب القارئ ويشدّه باتجاه الارتواء من المنظومة الفلسفية من غير مباشرة، بلا تنظير، ولا شروحات جافة.
وأديبنا، ومن خلال سيرته الذاتية الزاخرة بالتجارب الحياتية والخبرات الفكرية والعلمية والوظائف التربوية، إضافة إلى أنه المنظّر الذرائعي الذي وضع الأساس والاستراتيجيات للنظرية الذرائعية النقدية اللغوية العربية المستلّة من المنهج اللغوي البراغماتي ل (ريشارد رورتي)، وقام بإسنادها إلى الكثير من العلوم المحيطة بالأدب والعلوم النفسية والفلسفية، أما الأساس فكان النص القرآني الذي لا يأتيه الريب ولا الباطل ( سورة الشعراء)، ولم يكتفِ بالتنظير بل وضع استراتيجيات تمكّن الناقد من تطويع النظرية لتكون في خدمة الجانب التطبيقي العملي وفقًا لمتطلبات النصّ الذي يفرض دراسته من الداخل وفق الجنس الأدبي الفني المكتوب بها النص المعاصر، ودون إغفال السياقات الخارجية التي يشتمل عليها النص.
وأديبنا، ممسوس بفكرة الظلم الإنساني والمجتمعي، كما أنه مفتون بإرث جدّاته وأجداده السومريين الآتين من فجر التاريخ والحضارة، يركن إلى العقل والضمير حين يحتكم بثنائية الصراع الأبدي بين الشر والخير، مأخوذًا بقضية الديمومة وتحقيق التصالح بين الإنسان وذاته لينعم بسلامه الداخلي، وكذلك التصالح بين الإنسان والآخر، الإنسان والمجتمع لإعادة مجد الإنسانية، وبناء حضارتها المعاصرة بما يليق بماضيها التليد.
استخدم أديبنا تقنية العرضExposition : والتي لخّص فيها باحترافية عالية بؤرته الفكرية واستراتيجيته الأدبية في كتابة هذا العمل، كمخطط بياني يظهر مقدرته على تنظيم أفكاره وزمكانية أحداثه وما يودّ إيصاله كرسالة للمجتمع، من خلال إجاباته عن الأسئلة الخمس: من ؟ وماذا؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ .
أقتبس من تلك المقدمة العارضة التالي:
عندما يكون الظلم معيارًا، يأخذ النهب وسفك الدماء جانبًا راجحًا يهدم حياة الفقراء ويخلّف خلفه أشلاء حضارة ستة آلاف عام لأمة ممزقة ودين مجروح، وجثث لآمال وأحلام شباب تحتضر في زوايا الانحراف والحرمان، تمكّن أصحاب القرار منّا، حتى استشهدت خارطة سومر في ميدان الانحراف، ومات في مقل الشرفاء تأريخ أمة علّمت العالم أول حرف.....!!
هو مهموم بالصراع الأزلي، وربما الأبدي، إلى قيام الساعة بين الشر والخير، حينما حجد الإنسان نعمة العقل، عطية الله التي خصّه بها دونًا عن كل مخلوقاته، واعتنق مقولة إبليس ( أنا خير منه)، فتجبّر وطغى على أخيه الإنسان، فقتل قابيلُ هابيلَ، فانتصرت النفس الأمارة بالسوء في غيبة من العقل، فكان القتل باكورة السلوك الإنساني الذي قطع به الإنسان حبل الديمومة بين بني البشر، فانتصبت محكمة العدالة، ونُصِّب الضمير قاضيًا عدلًا ، وهذه الدلالة تؤكد ذلك، اقتباس:
الجهة الراجحة مثقلة بالإفك وتصرّ على هذا الدأب بين مخلوقات الله التي خصّها بالعقل والذكاء، فقد استودع الله الخير والشر في كل نفس من مخلوقاته تلك، وجعل العقل قيّمًا على هذا الثنائي المتخاصم في مسالك الديمومة، وأطلق النفس والضمير في حيّز السلوك، والخير والعدل والصدق والحق، نقيضًا للشر والكذب والرياء والتخلّف، جعل الله الجانب الإيجابي متمثّلًا في الضمير، والسلبي بالنفس ...
فصارت الحياةُ دارَ صراع أبدي، تتناحر فيه الشعوب بحروب شعواء، يقودها زعماء حمقى، غيّبهم الجشع عن الحكمة، فرحوا بغواية الشيطان فسلب الله منهم عطيّته، والسؤال الوجودي الكبير، كيف يمكن إعادة التوازن بين المتناحرَين على كل المستويات على سطح البسيطة؟ كيف يمكن إعادة وصل حبل الاستمرارية بينهما، لنعيد ديمومة الحياة؟ حول هذه القضية دارت أحداث الرواية، كما خطط الكاتب، وفق هذا الاقتباس:
فتحرّك الصراع الأبدي فوق مسرح الواقع، وحصّتنا يقودها جمع متخلّف، اخترناه بمحض إرادتنا، تلبّسه الشيطان، وسكنه الجشع احتلالًا، فصارالفرد من أصحاب القرار لصًا، يسرق حتى جيبه، يده اليمنى تسرق اليسرى، يعيث في الأرض فسادًا.....فكيف يتم الحفاظ على التوازن بين الإنسان والشيطان في هذا الهمّ المدقع، وبين الخير والشر، واجتثات الجهل والتخلّف والكذب والرياء، وزراعة العدل والحق بديلًا ؟ تلك هي مشكلة الأبدية من عصر هابيل وقابيل، عندما ختم الموت مصير الأخوة بينهم، وظلّت الاستمرارية تعاني من هذا الانهيار الأخلاقي، بعد أن امتلك الإنسان زمام القوة في الشر، وتمكّن الظلم من أرض السواد،.... فضاع صوت قيثار شبعاد بين صراخ المظلومين....ومن هنا تنطلق أحداث روايتي.....!؟
ورأيي الذرائعي أن هذا التقديم، رغم أنه فلسفي الطرح، إلا أنه لم ينحَ باللغة باتجاه اللغة التقريرية كما هو معهود في الكتابة الفلسفية، بل هي كافية، بما فيها من انزياحات جمالية وإيحائية، لتقييم أدبية الكاتب بمستوى عال.
وبالنظر إلى المضامين والسياقات سأقتطع دراستي على البعدين :
-البعد الفلسفي بما احتواه أيضًا من بعد تربوي وبعد نفسي.
- والبعد الأدبي.
كما سأستقطع دراستي، فيما يخص لغة السرد، في كلا البعدين، على المستويين الذرائعيين اللساني الجمالي، والديناميكي الفني، بالنظر إلى أنواع التقنيات السردية المستخدمة في كلا المستويين.

أولًا- البعد الفلسفي:
تنوّعت العلاقة بين البعد الأدبي والبعد الفلسفي، هناك روايات اهتمت بعرض أو تبسيط أفكار فلسفية محدّدة، وهناك روايات عبّرت روائيًّا عن تصورات كتّابها، وهذه التصورات متأتّية من خبراتهم الحياتية، أو من اجتهاداتهم التأملية التي لها طابع فلسفي، وأديبنا، من الفريق الثاني، الذين عركتهم الحياة وصقلتهم التجارب، وصانوا عطية الله ( العقل)، فعبدوه به، لأن التفكّر هو المنطلق الأساسي للوصول إلى الحقيقة، والله هو الحق وأسّ الحقيقة، والتفكّر بالنقيضين، الحياة والموت، هو أوّل الفلسفة، وإدراك كنه كل منهما، وما بينهما، هو أول الحكمة، وهي النتيجة المهداة، يقول الكاتب على لسان الراوي في الفصل الأخير:
ليسأل كل واحد منّا السؤال الفلسفي الكبير: من أنا ومن أين جئتُ؟ الجواب هنا : جئتَ صفر اليدين وستخرج صفر اليدين مجرّدًا حتى من اسمك أيها الجنازة التي تمشي على قدمين، بلسان أطول من متر....نحن نعيش كذبة السياسة والديمقراطية والحرية المخملية التى لا تُرى بالعين المجردة، والتي تمطر فقرًا وموتًا وقد لخّصها (سعدون) وهي الحقيقة البيضاء التي لا مفرّ منها، نابعة من تجربة قاسية تعكس نتائج غربتنا عن معقل اليأس، وتشرّد أهله من أجل هدف، وحين توغل الغربة، نعود صفر اليدين فما عاد أحد بزيادة، وما حلّ فينا إلا نقصان لا يقوى على شماتة الضمير.
للكاتب فلسفته في الزمن، في محدودية عمر الإنسان، استهلاله يفضي إلى نهايته، والتنامي ليس باتجاه الأحسن، وإنما باتجاه الشح في كل شيء، هذا ما يطلعنا عليه بشهادة هذا الاقتباس :
أظنّ أننا نسكن زمنًا قصيرًا، الاستهلال فيه بداية للنهاية، والتسارع نحو التشظّي بلغ الخط الأحمر، وقد اكتملت كل مراحله، واختفى الجديد وبدأ التجدّد، صار الأمر شريطًا مكررًا ومزحة سخيفة سردت مرارًا حتى شحّ الابتسام فيها، حين تبحث عن المنطق كأنك تبحث عن نملة تحت بيدر قمح، أو لؤلؤة بمحارة في قعر محيط هائج، انكمش الإبداع، وكثر السخف ونشطت شرانق السذاجة، وهي تتعكز على باكورة التكرار والهشاشة.... ما يثير العجب تفاقم الأخطاء في سوح الحياة المفتوحة أمام النواظر والمسامع والعقول، وبشكل قسري مطرد.... إذًا هو زمن الانهيار.....!
أمّا عن الأخلاق في هذا العصر، فهو منظومة مهددة بالانهيار لأسباب يشرحها في هذا الاقتباس:
هزّات كونية بدأت في أعمدة الأخلاق، وزلازل في مسالك آداب السلوك، حتى تغيّرت الطباع تحت ضغط الانهيار في بنية الإنسان الأخلاقية، التي أمست تتآكل من الداخل، حتى صار الإنسان قرشًا يأكل أبناءه، والحق يقتات نفسه ومن يحيط به، استقام الخطأ والصواب في خط واحد...
والمرأة كما يراها بفكره النير هي فردوس الأرض والسماء، يتوق إليها الجميع، وقد جاء هذا الرأي بأسلوب أدبي مبهر، مستخدمًا تقنيات التصوير الجمالي والمجازي، كما في هذا الاقتباس:
المرأة عالم فسيح وكينونة من جمال وإنسانية وحنان وحب يسير على قدمين فوق هذه الأرض، خلقها الله أعجوبة من أعاجيبه، ثم نقّاها من كل الشوائب، وجعل الجمال حصّتها، زرعه زهورًا وعبقًا في خلاياها ومكوناتها الخلقية، ثم وضع فيها كل مقوّمات الحياة، ومسالك اللذّة، حتى صارت فردوسًا في الأرض والسماء، الكلٌّ يتوق نحوها، لو قسّمت منافع المرأة بشكل منفرد، لا تسعها كواكب مجرّتنا التسعة، وبالكاد، قادرةٌ على احتواء جزء من منافعها الدنيوية دفعة واحدة، لكن الله بقدرته الإلهية، لخّص هذا الكوكب البشري بمخلوق أرضي فائق الجمال، ناعم الملمس، غضٍّ، نضرٍ، وضع سمات الورود ألوانًا ورقة وعبق العطور رائحة، ليتخذ أجمل الأشكال ألوانًا وهيبة آلهية، أمًّا، أختًا، بنتًا، زوجة، ليضمن الله الاستمرار الإنساني على يديها، ويجعل مفاتيح الديمومة بين أناملها الجميلة، جنة أرضية وامتداد لجنته السماوية، لذلك وضع تحت أقدامها جنته السماوية لتكون سيدة الجنتين، واستمر الإله في تقدير الأنثى، حين كرمها بصرخة الإنسان الأولى، لندرك أن الخالق يخلقنا من أحشاء تلك المخلوقة العجيبة، ولولاها ليس لنا كيان أو كينونة، فمن يحترم هذا المخلوق المقدس الجميل سيفوز بجنتين ...
والمرأة، بفلسفته، رغم كل آيات الجمال التي حباها الله بها ليست معفية من واجباتها المجتمعية الهامة، فهي (سادنة الجنتين) كما وصفها، وعلى هذا الوصف يترتّب الكثير من التكاليف والواجبات والوظائف، فهي الحضن والسكن والمدرسة والتربية والتنشئة ووووو، وبالمقابل، فهيلا تستحق من شريكها العزل أو الاستبدال بكلمة (طالق)، لننظر إلى هذا الاقتباس الدلالي:
لينظر الإنسان مليًّا إلى تناصفه الإنساني والنعمة التي تشاركه البيت، سادنة الجنتين خلقها له بأحسن حال من نعومة وجمال، وهي تملك جنان الله في الأرض ورمز الخير ونبع التكوين الجمعي في الحياة، وما المجتمع إلا من نتاج امرأة، ويعزلها ناكر الجميل هذا، بكلمة ليساكن غيرها بطرًا....؟
وبالمقابل، هناك وجه آخر في نظرته الفلسفية إلى المرأة المستهترة بعفّتها ووقارها ومسؤولياتها، يدعوها إلى الأوبة إلى رشدها والتفات إلى فعل التكوين الأسري المنوط بها:
وأمّا هي، لا ننسى بطرها وعصيانها لمن خلقها وأعطاها هذه الصفات والتكوينات العجيبة التي تشكّل مدار جنون هذا العالم، حين تنكر الخير الذي منحها الله، وتبيع هذا الجسد الجميل مقابل مال، بعدما إئتمنها خالقها عليه لتنشأ منه عائلة أخرى نظيفة، وغيرهذا، تتصنّع بقباحة العري جمالًا، وتتصوّر أن العري وكشف المحرمات في الشوارع والمنتديات تحضّر وحرية شخصية، وتناست العفّة الأنثوية والوقار الأنثوي، بينما مسؤوليتها، أصعب المسؤوليات، فعليها أن تنشئ هذا المكوّن الأسري بما يرضي خالقها، ردًّا للجميل، فهو من خلق هذا الجمال وأهداه إياها لتحافظ عليه وليس لتتاجر فيه....
وعن العدل المفقود في هذا العصر المنهار، يتضجّر الراوي من هواجسه اليائسة حياله، كأي فيلسوف نفذ منه الصبر وبدأ يتشكّك في كل قيمة نبيلة في هذا الزمن الذي ينهار فيه كل شيء، أقتبس هذه الدلالة:
لكن العدل وحده، لا يتحمله هذا العالم المنهار، ولا أدري لماذا، أهو كبير جدًّا لدرجة أن عالمًا لا يسعه، أهو قبيح جدًّا لدرجة أن عالمنا لا يستسيغه؟ أم هو مزعج جدًّا لدرجة أن عالمنا لا يستوعبه؟ تلك التساؤلات الفلسفية عاشت معي الخمسين، ولم أعرف جوابًا، وهل سأسكن خمسين أخرى كي يأتي الجواب؟....لا أظن.....؟ هاجس يائس تملكني حدّ النخاع، ربما ستأخذني دقيقة من دقائق هذا الزمن.....!

أما فلسفة السياسة عند الغالبي، فهي العهر بكل مظاهره، زوّق الشيطان سوادها وبيّضها الفاسدون من اللصوص والأغبياء ممن أغواهم عهرها، فقلبوا الحقائق، بذريعة الجهاد تغرّبنا عن أوطاننا، بنية العودة إليها لبنائها وتحسينها، فصرنا عبيدًا في غيرها، وأكلت الغربة منّا الصحة والشباب، ووسمتنا بالاغتراب عن أوطاننا وأهلنا، والدلالة في هذا الاقتباس:
أما السياسة، كذبة الشيطان السوداء التي بيّضها الأغبياء واللصوص، وهي العاهرة التي لا تشبع أحدًا ألّا حرامًا، تصوّرها البعض سلوكًا يهدي له الخير ويفتح له الطريق نحو السمو ما يدري أن سيواجه إبليس في نهاية النفق، وهي الدافع الذي دفعنا للغربة استغلالًا لغبائنا واعتقادنا بأننا نجاهد من أجل الوطن، ولا ندري أننا عبيدًا في أرض غير أرضنا ووطنٍ غير وطننا حتى دفعنا أعزّ ما نملك من شباب وصحة، وحين عدنا من جهادنا الكاذب صفر اليدين ووجدنا وطننا في أسوأ حال؛ أدركنا غباوتنا حين عشنا في وطننا غرباء حتى عن أهلنا....
وأمّا عن الديمقراطية في القرطاس الفلسفي للغالبي، فهي الوقاحة الرسمية والحرية المزيفة، وهي مهداة من جهات مريبة إلى شعوب ليست مؤهلة لها، والدلالة في هذا الاقتباس:
أما الديمقراطية، الوقاحة الرسمية والحرية المزيفة، التي توازي الاستهتار، غلّفوها لنا بقرطاس من ذهب وألقوها في حضن اللصوص وتجار السلاح والماسونية، وخدعوا بها شبابنا الذين ترزح أجسادهم الآن تحت التراب،علموهم أن يواجهوا الظلم في الشارع لتهديه الديمقراطية رصاصة في جسده من مأجور أو فاسد....
بينما التحضّر في عصرنا المنهار هذا محمول على دبابات وصواريخ وطائرات حروب الإبادة، التي تقتل الأطفال وتهجّر الشباب، وتترك الأوطان للخراب، هي فلسفة سوداوية ولكنها حقيقية في واقعنا العربي:
إذًا، فالتحضّر في الألفية الثانية والمتّجه نحو الثالثة بالخراب، فما هو إلا أسنان قروش تأكل الأطفال وتشرد الشباب بالهجرة لتوسع ظهورهم جلدًا بسياط الغربة، وتجعل الأوطان معاقل لليأس ....."

أما فلسفته عن الحياة: فيتقاطع فيها مع أدبيّته، فهي رواية واقعية بأحداث دائمة، وصراع بين أنصار الشر والخير، ومن يحيّد نفسه عن هذا الصراع لا يمكن أن يكون من أهل الحياة، فيخالف بذلك أصحاب فلسفة الاعتزال، إذا لا بدّ للإنسان أن يكون صاحب أثر خيّرٍ في ديمومة الحياة، والدلالة في هذا الاقتباس الفلسفي العميق:
الحياة رواية تقرّر ديمومة واقعيتها الأحداث، نعيش فيها أحداثًا ومشاهدًا نرسمها بتأثيرنا اليومي من فعل صالح أو سلبي وما لا يشترك في هذا الصراع المستبد ليس له مكان فيها، فمن عزل نفسه عن هذا الصراع، كأنه لم يسكن الحياة، كثير من الناس أموات منذ قرون، وهم أحياء بيننا يرزقون بما فعلوا من منجزات علمية وأدبية وموجودات أخرى، يستفيد منها البشر وقد خلدت أسماءهم فيها، وآخرين أحياء وهم بيننا، وهم أموات بانتفاء التأثير في تلك الديمومة، وصاروا عبئًا ثقيلًا عليها فهم مستهلكين فقط، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه نحو إعدام الحياة واستهلاك أعمدة الديمومة من جمال وخير، فبرعوا في صناعة الموت فقط، ونشر الفناء في أرض الله ...
وهنا، لابدّ من العودة إلى موضوع المقاربات والتقاطعات بين الفلسفة كنظريات جافة وآراء فكرية متباينة اتجاه ذات الظاهرة، وبين الرواية كفن أدبي قادر على استيعاب معظم الظواهر، وتحليلها وتفسيرها بل وتمثيلها.
والتحدي الكبير كان في الرهان على قدرة الرواية على القيام بدور الفلسفة، وهل هي مؤهلة للقيام بدور بارز في نقل الفكر الفلسفي من إطاره الجامد وضمن سياقه الحقيقي والسليم ليكون تناوله سهلًا بين يدي الناس؟ وخصوصًا بين الناس غير المتخصصين في الفلسفة؟ وهل الرواية الفلسفية قادرة على نشر الوعي التنويري وتعزيز الإدراك النقدي، وهل تملك إمكانية العلاج والتشافي بها، على صعيد الفرد والمجتمع والعلاقات المتشابكة بينهما؟.......
لننظر كيف قارب الأديب الغالبي بين الفلسفة والأدب في ظاهرة العدل، يتمثّل العدل بميزان بكفتين، تقيسان ثنائيات الحياة الخيرة والشريرة، والأدب هو المؤشر لحركة الكفتين، والأقدار هي التي تحسم النتيجة المتأرجحة بينهما، بدلالة الاقتباس التالي :
في الأدب يتمثل ميزان العدل بكفتيه الراجحة والنازلة، والأدب مؤشر لحركة هاتين الكفتين، فهما يحملان كل ثنائيات الدنيا، وهو عبء ثقيل خلقه الله رزقًا للبشر، فكل ما في الدنيا هو رزق من الله أعطاه بكرم عجيب (فهو الكريم)، ولكن الإنسان ناكر للجميل بالطبع وحتى التطبّع!....قد يظن البعض إن ما أكتبه الآن هو تفلسف، وبنظرة متعقّلة لأحداث الرواية وما عانت شخصياتها من خزين الحياة، سنجد أن هذا هو صلب الحقيقة وقلبها النابض بالصدق، وهي التي نعيشها اليوم بالخداع والنفاق والكذب والتشظّي....
ألا يؤكّد ما تقدّم أن الرواية أدّت دورها كوسيط فني مبسّط للفلسفة؟ بلى، كما أنها لعبت دورًا تنويريًّا، على المستوى التطبيقي، في المجتمع، لأنها أقبتت قدرتها على خلق حالة من التوتر والإرباك عند القارئ، تكسبه الجرأة على إعادة النظر في الأفكار وممارسة النقد الذاتي، كما أنها تضعه في فضائها بحالة التقمص، فيتماهى مع أي مأزق وجودي أو اجتماعي تعيشه الشخصيات.
الرواية الفلسفية تستل قوتها من تعدّد الأصوات والتيارات الفكرية المتناقضة أو المتكاملة فيها، "وفي هذه الحالة يصبح دور الرواية أقرب إلى ترجمة أخلاقية تنقل جوهر الفكر من ماهيته النظرية إلى أفقه التطبيقية" ، عبر إجرائية الأفعال وردود الأفعال والنتائج المترتبة عليها، لأنها ممتلئة بالتجارب والخبرات، وعلى هذه الحيثية عمل الغالبي، فوجّه الدعوة إلى العمل لاكتساب الرزق، وإلى نفض خرافة سوء الحظ، وجذّرحكمة الأجداد (تفاءل بالخير تجده) فلسفيًّا ونفسيًّا، حين أرجعها إلى القاعدة النفسية في الوعي واللاوعي الإنساني، كما في الاقتباس التالي:
إن الله لا يمنح القاعدين رزقًا، إلا من حرّك ذراعه عملًا وسعيًا في أرض الله، وهو من يرزق من يشاء من العاملين وليس القاعدين، فما سرّ من يعمل ويجد، ولا يرزقه الله إلا بالتقتير أو يبتليه بعاديات الزمن وأوجاعه؟ وهذا تساؤل مطروح يطرق أبواب ذهن سعدون باستمرارية سوء الحظ ولا يدري إنه مسببها نفسيًّا، الذي جاب الأرض بالطول والعرض ولا يفهم حقيقة ذلك، وأصابه ما أسماه بسوء الحظ، وسوء الحظ نحن من نخلقه بتطلّعاتنا السوداوية، وأجدادنا علمونا، حينما نتفاءل بالخير نجده وهذه هي القاعدة النفسية التي تتعلق باللاوعي والوعي الإنساني، والعلاقة بينهما في هذا الدرك العميق.
وعلى اعتبار أن " الرواية جهد يرمي إلى فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشري، وقد باتت اليوم مصنعًا يعج بالخبرات وتوصيف خارطة التضاريس التي تواجه الجنس البشري بكل معوّقاتها" حيث تصبح الفكرة الفلسفية في الرواية مفهومة من خلال نقلها إلى الواقع الحسي المعاش، والعالم المجتمعي المحيط، وكأنها خارطة لحل الأزمات، وتناولها من كل الوجوه من خلال انقلابات وتحولات الشخصيات في تعاملها مع واقعها المتأزم، بهدف الوصول إلى الهدف المنشود وهو التصالح مع الذات من جهة، والعالم المحيط من جهة أخرى، وهذا ما يبرز دور الرواية الفلسفية في تعزيز الوعي النقدي المجتمعي والمصالحة مع الذات والمجتمع، والدلالة الاقتباسية التالية توضح ذلك جليًّا:
فكل قوم فوق هذا الكوكب يظنون أنفسهم هم الأفضل والأجدر والأحسن بالحياة من غيرهم، ولهم الحق باستعباد البقية الباقية، وتناسوا أن الإنسان كأي موجود من موجدات الحياة خلقه الله موازيًا لأي ذبابة أو بعوضة بواجب وذريعة، وخلق معه عوالم النبات والحيوان رزقًا له، وجعل له الخيار، وفوق هذا كلّه جعله سيدًا عليها، وفوّضه بالعقل ليدرك المعارف ويعمل في هذه الأرض ليبني ويعمر وليحسّن حاله وحال مساكنيه بإنجاز واجبه الملقى على عاتقه اتجاه العوالم الأخرى، ولكنه بدأ الهدم والعمل عكس إرادة خالقه؛ لأن الإنسان متمثّلًا بالشيطان كرّر خطأ إبليس وخان خالقه، وصار يعيث في الأرض فسادًا، فيما رزقه الله من الممتلكات التي لا يقوى على صناعة ذرّة منها... هل الإنسان هومن خلق العقل ؟....وهل هو من خلق الضمير المتمثّل بالحق وهو مدار روايتنا التي بين أيدينا.....؟ هل هو خالق النفس أم ربّه من خلق النفس وسلّمها الجسد لتكون كينونة البشر التي تعمر هذا العالم؟.....فمن لا يعرف خالقه لينظر في المرآة لنفسه قليلًا ليجد شيئًا خلقه هو في جسده بنفسه، ولينظر حوله من بعوض وذباب وحشرات مكروهة لديه، هل يستطيع خلق واحدة منها.....!؟
نلاحظ أن الكاتب، من خلال الراوي، وعبر كل ما تقدّم من دلالات يؤكد على موضوع الأقدار، وأنها رزق الله لخلقه من البشر، وأنه مؤتمن على هذه الأرزاق، كما أن العقل والضمير هما من عطايا الله للإنسان، وأن الحق يتمثّل بالضمير، بينما كانت النفس حصّة إبليس فيه، فمن زكّاها أفلح وظفر، ومن دسّاها خاب وانكسر، وهذه فلسفة دينية يسعى معتنقوها نحو الحقيقة المطلقة، وتتبع الخالق من خلال أثره على الإنسان أولًا، ثم طمعًا في التجلّي الإلهي.
إضافة إلى أن هذه الروايات الفلسفية تكمن أهميتها في دورها بإلقاء الضوء على ماضي الشخصية وحاضرها، وتقوم بتدريبها على انتهاج منطق فكري أو استراتيجيات تساعدها في اكتشاف ذاتها بكل أزماتها لتتمكّن من حلّها، بمعنى أنها محاولة لإيجاد علاج لليأس والوحدة والألم، نظرة الآخرين إلينا، بكل الأوجه المثيرة للشفقة أو للكره ونظرتنا إلى أنفسنا، كرهنا لذواتنا أو ثقتنا بأنفسنا وإدراكنا لطاقاتنا وقدراتنا وثقافتنا وأخلاقنا، نظرتنا إلى الشيخوخة والهرم والضعف، مواقفنا من الموت ودوافع الانتحار، خوفنا منه، موقفنا من القدر، حبّنا له، والتغلب على اليأس ومحاربة الإحباط، والتحوّل من " هكذا كان" إلى " هكذا أردت أن أكون"، في الاقتباس التالي ترك الكاتب دلالتيه، عن ماضي وحاضر الشخصية البطلة ( خرج) بحال، و(عاد) بحال، وكلا الحالين كان بائسًا وحيدًا مطاردًا، وما بين الحالين عمر خطّ حكايته على الجسد الآدمي، وقرار بالأوبة والاستقرار هذا (ما أريده، فما هي الوسيلة؟), كما في الاقتباس التالي:
خرج من قرية فرحان طفلًا، وقرية فرحان الآن ذهبت، مع أمه وأبيه ومن يحب.
وسعدون صرف عمره وزهرة شبابه وعاد إلى مسقط رأسه ومعقله السومري القديم كما خرج منها وحيدًا ومطاردًا من قبل رجال الظلم والظلام، عاد مندحرًا ومطاردًا، وهذه المرة من قبل عاديات الزمن... أهو حصة أم نوع من مصير أم حظ عاثر كما نعته سعدون...؟ جاء حاملًا همومه وآلامه، و ضربات العمر التي تملأ شعر رأسه، وقرّر أن يجمع شتات نفسه من جديد ويستقر، لكن من أين يبدأ ...؟
المقاربة بين الفلسفة والطب النفسي:
للرواية الفلسفية أيضًا، بهذا المعنى وهذه النتيجة، دور علاجي لا يمكن إنكاره، سيما بعدما ظهرت مؤخرًا ما عُرف بالعيادات الفلسفية، ودورات في فنّ إدارة الحياة تعتمد الفلسفة والآراء والأفكار الفلسفية لفلاسفة اهتموا بفنّ الحياة، حيث تدمج فيها العيادة النفسية والعيادة الفلسفية، من خلال ما تطرحانه معًا من سجالات نفسية فلسفية، تطمح إلى إيجات الحلول اللازمة لإنقاذ الإنسان من أزماته، عن طريق حثّه على البوح والكلام عمّا يعتمل في نفسه من المعضلات النفسية والمآزق الوجودية التي يعاني منها الكثير من الناس، ليصل بذاته إلى ما يشبه الاعتراف، كمرحلة أولى، ثم المتابعة للوصول إلى النتيجة المتوخاة، ألا وهي اكتشاف ذاته، وتحديد تموضعها ومكانتها في هذا العالم، ومن ثم العمل على إقامة علاقات سليمة وصحيحة مع الآخرين.
المقاربة بين الفلسفة والحياة:
يلخّص الفيلسوف المعاصر (لوك فيري) هذه الحيثية الفلسفية في ربطه الفلسفة بالحياة قائلًا:
" أن نحيا جيّدًا ونضفي معنى على وجودنا ونحدد فيم تتمثّل حياة طيبة بالنسبة إلينا نحن البشر الفانون، تلك هي المسألة التي حاولتْ في نظرنا الإجابة عنها كل الفلسفات"
وإلى هذه الحيثية الفلسفية تنتمي الرسالة الأدبية التي أراد الكاتب إيصالها إلى المجتمع، على اعتبار الأدب عرّابًا للمجتمع، كما أن الحياة القيَمية هي المقصد الذي سعى إليه الفلاسفة، للإجابة عن السؤال الفلسفي الكبير حول قيمة الوجود الإنساني وجدواه، ودلالة هذا الاقتباس تشرح ذلك:
"خرجت من وطني مجاهدًا ضد الظلم ولتحسين حال أهلي، وعدت صفر اليدين بعد ثلاث عقود ووطني في أسوأ حال، ما تغيّر سوى الاسم من(حي الصرايف) إلى (حي الصفيح)، فأدركت إن التحضّر أكذوبة غلّفوها لنا بتيارات، فالغربة والفقر مقيمان فينا بشكل دائم، حتى صار الفقر في وطني غربة، والغنى في الغربة وطن....!!! "
المقاربة بين الفلسفة والبعد التربوي:
هناك دور تربوي لهذا النوع من الروايات، يتمثّل في أن موضوع تدريس الفلسفة من خلال الرواية هو موضوع جديد لم يسبق للمناهج التربوية، العربية تحديدًا، تناوله، حيث أن تدريس الرواية الفلسفية ينمّي الحس النقدي من خلال المقارنات والمقاربات والانفتاح على التوليفات الممكنة، لأنها قادرة على طرح التيارات الفلسفية والفكرية المتعددة ضمن سياقاتها الزمنية المتعاقبة أو الواحدة، في مكان جغرافي واحد أو أمكنة متعدّدة، مما يتيح للمناهج النقدية الحديثة إمكانية شرح وتوضيح السياقات التاريخية والزمانية لنشوء وتطور التيار الفلسفي، عبر فضاءات المكان والزمان عند تناولها بالتحليل النقدي، ومن ثم الانتقال إلى دراستها أيديولوجيًّا.
تتجلّى أهمية استثمار الرواية الفلسفية تربويًا، بتمكين الطلاب أو حتى المتلقين النقّاد الحذقين من أدوات نقد الفكر بالفكر، عبر طرح الأسئلة الإشكالية، إضافة إلى استخراج سؤال أو رسالة العالم الروائي، ثم سؤال أو رسالة المنظومة الفلسفية التي تحكم العمل ( الثيمة الفلسفية)، والرسالة الروائية التي نجح الأديب بكتابتها وتوصيلها هي دعوة للتسامح بعد الخصام، والتعقّل بعد البطر، وعدم التسخّط من الأقدار، بنية ضمان استمرارية الحياة وزيادة ديناميكيّتها، وعليها أورد هذا الاقتباس:
الخلافات نهر شحّ الماء فيه وركد، يصبو نحو زلال من ماء ليعيد الحياة فيه، وقد يكون هذا تسامحًا، فيعيد الحلاوة إليه، حين يقنعه بالجريان لينظّفه تمامًا، ويزيل الركود عنه لينقّيه من أدران الحقد والخطأ، أظن زلال زيارة ماريا، باقة ورد من تسامح وتعقّل أعاد الجريان لهذا النهر الراكد برحابة صدر واحترام، فالتسامح كفيل بتجديد الحياة، والخصام ملح العلاقات الإنسانية لما يعقبه من صلح وتسامح، وهو تحديث للعلاقات الراكدة، فهو يزيدها ديناميكية وحيوية كحياة بعد موت محقّق .
ثانيًا- البعد الأدبي:
في حقل اللغة، هناك تحدٍّ كبير يواجهه كاتب الرواية الفلسفية، فالرواية كعمل فني تتطلب اعتماد لغة منزاحة باتجاه العمق الأدبي جماليًّا أو إيحائيًّا أو كلاهما معًا، ما يستلزم استخدامه للمجاز والمحسنات البيانية والبديعية إضافة إلى الجنوح باتجاه علم الجمال، ما يجعل للتأويل الدلالي الكثير من المدلولات المحتملة والمرجأة للدلالة الواحدة، ورغم أن الذرائعية أوقفت فوضى المدلولات وحدّدتها بإطار المفهوم، إلا أن التحدّي الكبير يبقى قائمًا طالما بقيت حالة التباس الدلالة والمبالغات البلاغية أمرًا لا مفرّ له، وهذا ما قد يبعدها عن وضوح اللغة الفلسفية ومصطلحاتها التي هي جزء من ماهيّتها، ولا يمكن حسم هذه القضية إلا بيد كاتب الرواية الفلسفية، حين يكون فيلسوفًا – أديبًا، أو أستاذًا في الفلسفة – أديبًا، يحترم الوضوح الفلسفي ويتقن الحفاظ على نقائه، كما يتقن فن التصوير الحسّي للفكر المجرّد دون أن يمسّ بجوهر الفكرة المطروحة، مبعدًا التباس الدلالة عن طروحاته ومقولاته، بمعنى أدق، محافظًا على البعدين الفلسفي والأدبي في روايته الفلسفية.

• المستوى اللساني الجمالي :
في هذا المستوى، أولى الكاتب التقنيات الأسلوبية الكثير من الاهتمام، كي يحقق الفعل الإجرائي للبناء الجمالي، الذي سيشهد على درجة أدبيّته، وقد وظّف في سبيل ذلك العديد من التقنيات الأسلوبية منها:
1- تقنية التصوير اللغوي:Imagery
استخدم فيها الكاتب لغة وصفية أدبية حيوية جذبت حواس القرّاء لإنشاء صورة أو فكرة في رؤوسهم. من خلال هذه اللغة، لا ترسم الصور صورة فحسب، بل تهدف إلى تصوير التجربة المثيرة والعاطفية داخل النص، ويمكن أن تستهدف الصور المكتوبة حاسة التذوّق أو الشم أو اللمس أو السمع أو البصر لدى القارئ من خلال أوصاف حية.
وسأختار أربع لوحات أو تصاوير لغوية، كلّها مستقاة من علم الجمال :
الأولى : في وصف قرية فرحان، ولنرَ كم هي صورة حية ناطقة، وكأننا في مسرح بانورامي، نحن الواقفون على خشبته، يدور بنا في وسط قرية فرحان:
"وتظلّ قرية فرحان آخر قرية سومرية، تطرق أبواب الرحمة وتحتلّ ذاكرتي حدّ الدقيقة، وتذكّرني بكل شاهد من شواهد الفقر والعوز والمسكنة لكل زائر وعابر سبيل، فهي نموذج حيوي شاخص للبؤس، حين تمرّ عليك شواهد حيّة من البشر، وتتحرك أمامك، تعبّر عن أنواع البؤس بكل وجوهه، عرض سينمي مرعب، عُدّ مسبقًا من عروض شخصيات (دراكولا)، أو أفلام (الفرد هتشكوك)، أعمى يتلمّس الحائط، وآخر برجل واحدة، امرأة عجوز تتوكّأ على طفل يقودها وتخرج من أنفها عصير التبغ، وآخر معصوب العينين مشدود الكاحل يتقافز فوق رجل واحدة، وآخر أثر السكين لا يزال يعمل بنشاط في وجهه المصدوء بلفحة الجوع ......ووو ...."
اللوحة الثانية: في رسم (بورتريه) بالطول الكامل، لشابة تدعى شهلا:
ثم أطلّت امرأة رثّة الثياب، جوهرة ثمينة، لُفّت بخرق بالية، يغطيها البؤس من كل جانب، لكنه فشل في تغطية ما برز من وجهها المبدر، لؤلؤة بيد صياد لؤلؤ خرج توًّا من البحر، تعلن الثياب الرثّة الملتصقة بجسدها جهارًا عن عجزها في إخفاء هيبة هذا الجمال، ولا تمكّنت أن تخفي ولو جزءًا بسيطًا منه عن العيان المارقة، عينان سوداوان واسعتان فوقهما سيفان يمنيّان مسلولان، يتقدّمهما أنف طويل، يطلّ على زهرتين زيّنهما الله بأحمر شفاه طبيعي، وخدود تفاحية المظهر والملمس والرائحة، تعكس الضوء كأنهما مرايا، طويلة القامة معتدلة الجسد، حسنة القوام، يعكس مظهرها الملفت أنوثة أسطورية لعشر نساء معًا.....!
اللوحة الثالثة: سأسميها لوحة (العمر)، لوحة تشكيلية حيّة، تركض وتتهادى، تصرخ وتصمت، تصبر وتضجر، لم يشأ الكاتب أن يختصرها بعبارة تقريرية ( مرّ الزمن وبلغت سن الخمسين)، بل أرادنا أن نرى هذا العمر بملحمة الصورة، يقول:
بدأت الأيام تستنسخ بعضها فوق شاشات التاريخ، ويستمر الصراع، أحيانًا يشتدّ وأخرى يرخي، وأنا أسمع مطرقة الزمن بوضوح، وهي تدقّ الأعناق بوقاحة وقسرية وقسوة مفرطة، وتثبت بمسامير القدر على جدار المصير قوائم أسماء جديدة في سجل الفناء، وأسماء أخرى في سجلات البقاء، وتعود عجلة الاستنساخ إلى مسارها الطبيعي، وكأن شيئًا لم يكن، ويستمر التصادم بين البقاء والفناء، حتى يطفح كيل السنين صبرًا، حتى وجدت نفسي على أعتاب الخمسين.....
اللوحة الرابعة: لموقف رومانسي حميمي، تكاد من حيويّتها أن تثلج وتحرق:
ومسّ جسده فردوسها المفصّل بخرائط هذا العالم المنفلت في أثير الجمال الإلهي، فردوس ثلجي خُلط بالجحيم، هوى فيه سعدون وابتلعته العافية، واحترق كل شيء فيه حتى وصل حدّ الرماد، وغاب في دنيا الفراديس الأنثوية، ودون إحساس، انسابت يده لتصعد جليد بدنها المستعر، وغاب عن الوعي كاملًا.

2- تقنية اللغة المجازية Figurative language:
اللغة المجازية أو التصويرية أو الجمالية : وهي اللغة المستقاة من علم البيان: التشبيه والاستعارة/ الكناية والمبالغة:
التشبيه Simile:
أسوق بعض الأمثلة:
- الزمن عجول ووقح لا يستحي أبدًا، وسعدون يشبهه بالعجالة.
- احمرّت عيناه، وخنقته العبرة التي تكسّرت أجزاؤها في حنجرته، كتكسّر قطعة زجاج يسمع قرقعتها سابع جار، وسال فيض من غيث فوق خديه حتى بللت زلفه الأبيض.

الاستعارة/ الكناية Metaphor:
والأمثلة كثيرة جدًّا، منها:
- تلفّ عباءة الليل القرية بالعتمة.
- تحمله أجنحة السعادة والفرح.
- يرتدي سعدون عجالة الزمن رداءً فضفاضًا، ويقطع الأيام إربًا إربًا بسيف الصبر والإصرار
- تغفو مدينتي الجميلة على ضفتي الفرات، ويمشّط شعرها التمري نسيم الجنوب
- والموقف مبتسم بأسنان بيضاء ناصعة.....
- وتبدأ النسمات العليلة التحرّش بالأنوف والوجوه فتلفحها بهدوء حين تمرّ في مسالك القرية.
- تتهادى الشمس بمشيتها نحو الاختباء خلف بساتين النخيل المحيطة القريبة من الجانبين
- كذراعين لرداء أخضر يلبسه ناسك يزهو بالفخر فوق بساط الله الملون، المفروش بين حقول القمح.
- ويثير هذا المشهد هزيعًا من عناوين الخير والرزق والفرح والبهجة.
- هذا الهدوء المغلف بالجمال يعطي للمرء ما يتوق إليه، وسعدون يتوق نحو استنشاق العلم والمعرفة بأنف التفوق.
- وكان سعدون أول الفرسان الذي كسر أنف المستحيل بعصا العلم الغليظة.
- لا زال المستحيل فاقدًا للوعي من أثر عصا العلم.
- علمت أن النعاس أكثر مني وطنية، يا الله !!، وأقل مني جحودًا، فقد فضّل البقاء في الوطن.
- والصدفة ملعقة القدر.
- بدأت علاقته تشتدّ بها عند وجودها، فكان أوديب قوي الحضور، فلا يتحمّل أن تغيب عنه.
- أيقظ ذلك الوحش الكاسر في نفسه، وبات يعمل كمزيل لألم صحراء الغربة التي تساكن نفسه، ولاحت حكاية الذئب والشاة أمام عينيه.

المبالغة Hyperbole:
- حين تقبل تقودها نملة، وحين تدبر تهزم فيلًا، هي الحياة،
- ووجدت قصاصة الورق الصغيرة أخيرًا، كانت محيطًا من أمل، بحارًا من فرج وانتظار، طوف نجاة لغريق أيقن أنه هالك....

3- تقنية التوازي: Parallelism
التوازي: هو عندما تكون العبارات في الجملة لها نفس البنية النحوية أو المتشابهة، مع الاختلاف بكلمة واحدة في كل عبارة عن أخرى، وفي أبسط استخداماته، يوفّر التوازي عبارة تتّسم بالتوازن والوضوح، ويعمل التوازي أيضًا على إعطاء العبارات نمطًا وإيقاعًا راقيًا، وهذه بعض الاقتباسات:
- يقدّم لهما النفاق والرياء خمرة الفناء المعتقة،
- بسنين يوسف، وسلال الانتظار، وزجاجات المقت،
- حتى ثملت العقول، وترنحت..
- تحت أقدام التاريخ المفزوع، والزمن الموجوع،
- واستمرت الأيام تتناسل بعضها البعض، وتلد أيامًا جديدة ذكورية وأنثوية.
- خرس لسانه، وباع الكلام، ونضبت الأجوبة.
- ومرّت الأيام تتسابق وتتدافع،
- تثبت في كل دقيقة رحيل كيان، وحضور آخر،
- فوق تلك الساحات الواسعة من صحاري المصير، ضحك هنا، وعويل هناك، عسل هنا، ودم هناك، رياء هنا، صدق هناك، ظلم هنا، وعدل هناك.

4- تقنية التجاور Juxtaposition:
هي عبارة عن وضع شيئين أو أكثر جنبًا إلى جنب، غالبًا لإبراز اختلافاتهم، قد يكون التجاور صادمًا أو غريبًا تمامًا. بغض النظر، فإن هذا المصطلح الأدبي يلفت الانتباه إلى شيئين مختلفين تمامًا عن طريق وضعهما جنبًا إلى جنب، بعض الأمثلة المقتبسة من العمل:
- الكذب والصدق يتجوّلان يدًا بيد،
- والخير والشر يتجالسان في ماخور واحد،
- البداية والنهاية في حياتنا فكوك قرش بأسنان ذئب بقوة فيل وبجسارة ليث.


• المستوى الديناميكي الفني:
5- تقنية الزمكانية :Setting

إن المكان هو بطل في هذا العمل الروائي، استهل به الكاتب متن العمل، وكان عنوانًا للفصل الأول ( قرية فرحان) أو( قرية الصرايف)، والتي هُجّر سكانها في العصر الحالي إلى قرية ( الصفيح)، أما زمن الأحداث فهو ممتد على خمسين سنة من عمر الإنسان، تبدأ من نهاية الستينات وبداية السبعينات وتمتد حتى هذا الوقت من الربع الأول من القرن الحادي والعشرين:
(قرية الصرايف) أو (قرية فرحان) الطفل البكر المدلّل للفقر، و تطوّرت حضارتها السلبية البائسة بفعل الزمن وحركاته المختلفة، فولدت تلك الحضارة السوداء، قرية (الصفيح) في عصر حجري حديث.....
وتنتأ نهاية الستينات وبداية السبعينات من المئوية السالفة لهذا القرن، لتكون بوصلة يقف عندها القفز كنتاج حتمي للوعي الثقافي والسياسي المضروب.....
.....أظنّها حقيقته المفقودة (قرية فرحان) أو وليدتها (قرية الصفيح) التي تسكن في عصر العولمة وجنون الاتصالات وخدعة الديمقراطية ونحن في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، قرن التقدم التكنولوجي، لتثبت فشل (دارون) في التطور الاجتماعي والأنثروبولوجي.....
طبعًا كانت هناك أمكنة أخرى، لم يصفها الكاتب كما وصف قرية فرحان أو قرية الصفيح، اكتفى فقط بذكر البلد ( رومانيا، أمريكا، طرابلس ليبيا، إنكلترا).

6- تقنية وجهة النظر السردية Point-of-view:
وجهة نظر: هوية الصوت السردي للشخص أو الكيان الذي يروي الرواية .
وهو هنا الشخص الثالث (لا راوي عالم ولا راوي محدود) بل شخصية مشاركة يروي بضمير المتكلم، ولا يكتفي بالروي فقط بل يحلل ويفسّر ويؤوّل، ويوجّه تربويًّا ونفسيًّا وحتى نقديًّا، ويقدّم معلومات إغنائية وسياقية، ويعطي نتائج.

7- تقنية السياق :Context
السياق: هو الحقائق والظروف والضغوط المحيطة بموقف لغوي معين . وهو كمية المعلومات التي تساعد في فهم رسالة النص الأدبي، حيث يمكن تفسير قطعة من الكتابة بشكل متنوّع اعتمادًا على العوامل السياقية التي يقدّمها المؤلف للمتلقي، وقد استخدم الأديب الغالبي هذه التقنية التعريفية بعناية، ووظّفها في العديد من الفصول، بل أفرد لبعضها فصلًا كاملًا، مثل الفصل الرابع المعنون ب ( لمحة تاريخية عن هوية معقل سومر) والذي كان عبارة عن فصل معلوماتي عن تاريخ مدينة ( الناصرية)، هويتها وحضارتها السومرية، طبيعتها الجغرافية، ديموغرافيتها، عادات أهلها التراثية في المأكل والمشرب والزواج، آدابهم وفنونهم، أخلاقهم، وأمجادهم، قصص جهادهم ضد الاستعمار الإنجليزي، ثوراتهم ورجالاتهم....... مراجعة الفصل 4.
السياق السياسي :
وظّف الكاتب في الفصل السادس المعنون ب ( الجبهة الوطنية ودعوة الغداء) سياقًا سياسيًّا، وتحدّث فيه عن أحداث بدايات السبعينات والمجابهة بين حزب البعث العراقي والحزب الشيوعي والشروط التي وضعها البعث لقبول قيام الجبهة الوطنية.
-"أنت تعرف أحداث بدايات السبعينات، وما حدث في العاشر من تموز، عام 1970 حين تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة وطنية بينهما، طالبًا من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط:
• اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي، ووجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية،
• ثم إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية،
• وعدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والقوات المسلحة، والعمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وحزب البعث، وبعدها القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير كامل الأراضي الفلسطينية...!؟"
..... مراجعة الفصل السادس.

كما نجد ذات السياق في الفصل التاسع المعنون ب ( بعض أحداث انتفاضة 1991 في الناصرية) والتي تأخذنا نحو سياق الانتفاضة الشعبانية الشهيرة ضد ضغيان السلطة الصدّامية :
ويظل الخامس عشر من شعبان الموافق ٢/٣/١٩٩١ هو اليوم المشهود والحاسم، يحفر في ذاكرتنا وفي سفر الانتفاضة الشعبانية، حين بدأت الأخبار تتسرّب عن تحرّك الأحرار ضد الظلم والسلطة الجائرة، وصار الترقب والانتظار سيد الموقف لانطلاق الشرارة الأولى، بعد أن استبشر الناس من أن أزلام الظلم، قد تقيّأتهم الشوارع بعد أن علموا بتجمهر الناس، و انطلقت الشرارة لتضيء العتمة، وكان وليدها انتفاضة الشعب في الرابع عشر من شعبان، وميض نورها قد توهّج من ناحية (الطار) و(الفهود) في حافات الهور وقضاء (الشطرة) وأطراف البصرة، حيث تحرك بعض المجاهدين من عشائر(آل جويبر) بمهاجمة فرقة حزبية في ناحية الطار، وقتلوا أحد أعضاء الفرقة الحزبية، هو مفوض في الشرطة، .... مراجعة الفصل التاسع.

السياق المجتمعي الطبقي:
يتكلم عن الطبقات المجتمع في قرية فرحان في ذلك الزمن من سبعينات القرن الماضي، وما يصاحبها من قيم وشيم تتناسب مع انتمائها الطبقي، بأسلوب تحليلي اجتماعي عميق، وينتهي بنتيجة، هي أن هذا المجتمع مزدوج التفكير، بين التحضر والبداوة، كونه ينحدر من طبقة الفلاحين وطبقة العشائر، إضافة إلى بقاء المجتمع الريفي امتدادًا لمجتمع المدينة :
كان المجتمع في تلك الفترة تسوده الصبغة الفلاحية التي تمتاز بالبساطة والتمسّك بعرى الطبائع العشائرية المقيدة بقيود حديدية، نحو معاني الأخلاق البدوية الأصيلة للقادمين من الغرب، والأخلاق السومرية للقادمين من الجنوب، والتي تكاد أن تكون متحفّظة بالمطلق، وقد هجرت جزئيًّا عند المقياس الحضاري النسبي، كالغيرة والصدق والحمية والتضحية والإيثار والولاء والانتماء، التي لا يعرفها جيل الألفية الثانية، وسحقت بين مطرقة العوز وسندان الفقر والإسفاف الاجتماعي، ظلّ المجتمع الريفي امتدادًا لمجتمع المدينة، وفي صراع متناوب من الانحسار والطغيان، وهو مجتمع مزدوج التفكير، مرة يطغى التحضّر على أسلوب التعامل في العوائل المتحضرة، وأخرى ينحسر عند حدّ التعامل الريفي البدوي، وأخرى يطغى الأول وينحسر الثاني إلى حدّ الانسلاخ، حتى تحوّلت تلك العلاقة إلى ازدواجية نفسية في شخصية الإنسان العربي بشكل عام، والعراقي بشكل خاص ...!

السياق الثقافي والحضاري:
أن نعكس تلك الازدواجية المتأرجحة بين الريف والمدينة على المستوى الثقافي للأفراد، والذي كان محكومًا بالسائد في زمن معين وهو الحقبة التي شهدت ولادة وبداية الحدث الروائي الأول:
عنصر الزمن محدّد لشخصية الفرد بحتمية المألوف، وهو العامل الرابط بين الشخصية والأصالة والطبع والتطبّع، البوصلة التي يقاس بها التاريخ وهوية الفرد، ومديات مساهمته الإنسانية في الجمع، من حيث الاتزان والتمسك بالعادات والتقاليد، وتنتأ نهاية الستينات وبداية السبعينات من المئوية السالفة لهذا القرن، لتكون بوصلة يقف عندها القفز كنتاج حتمي للوعي الثقافي والسياسي المضروب، ونوعيته الكاذبة في صبغته الحضارية للفرد في مجتمعنا، على الأقل، وربما هي ديناميكية حضارية عكسية أو تقدم نحو الخلف والتخلّف والرجعية، ومنها بدأت هجرة عكسية للبعض من أبناء الريف نحو المدينة، وترك أراضيهم الزراعية التي تدر ذهبًا، وحدث ذلك عند الذين أدّوا الخدمة العسكرية الإلزامية، وبهرتهم بهرجة المدنية في المدن،...

السياق العقائدي :
أيضًا، الراوي يحلّل ويعطي النتائج المبنية على طبيعة الشخصية العربية القائمة على الازدواجية العقائدية المنبثقة عن الازدواجية الفكرية:
اختزنت الشخصية العربية الإيمان بفكرتين متناقضتين، وهي التحضر والبداوة، في نفسية واحدة لكل شخص عربي، وهذا النوع من الازدواج يعتبره البعض قوّة في الشخصية، لكونه يفضي نحو التنوّع الأخلاقي في الازدواج بالتصرف كما يعتقد البعض، مع رسوخ فكرة التناسي الكيفي لذلك العنصر بالتصرف وعمق الأنانية الذي يكمن وراء الستار، حين يتمسّك العربي بتقبّل المرفوض لنفسه، يستهجنه بشدّة ورفض عند غيره وخصوصًا أفراد بيته، فيرتكب أفعالًا في السّر يفعلها المجتمع المتحضّر في العلانية، ولا يقف ذلك عند هذا الحدّ بل يتّجه نحو الانقياد، نحو الرفض والاستهجان وبشدّة على ارتكابها، لدرجة أنه يظنّها جريمة عند غيره، وهذا هو جوهر التخلّف، الذي ينتج عن تلك الازدواجية المقيتة.
والمثال على ذلك السعي خلف الثأر و(الگوامة) و(النهوة) والزواج المتقابل (الگصة بگصة) تلك الممارسات لا تزال تسكن مجتمعنا القروي، رغم تماسّها القريب من المدنية....!؟

السياق التاريخي:
يتحدّث عن تاريخ الحي، عن شخصيات عاشت في القرية، وكيف تحوّلت قرية فرحان إلى منطقة حضرية، وماذا حلّ بأهلها، وكيف نشأت قرية الصفيح:
.....فهي تذكّرني بمحطات عصيّة على النسيان، تتعلق بأحداث وشخصيات احتضنتها القرية والكوور، والتي تركت أثرًا وختمًا لا يمسحه أزميل الزمن، وهو مناسبة إدخال قرية فرحان داخل حدود البلدية لمدينة الناصرية، واعتبارها منطقة حضرية، وتلك إحدى الجرافات التي، ربما، ستساعد على اختفاء أثر البؤس وتاريخ الظلم، من ذاكرتي وذاكرة من عاش فيها من الباقي من سكانها والأصدقاء الذين لا يزال القسم منهم حيّ يرزق، وقد انتقل إلى المدينة، أصبحت تلك القرية الآن منطقة مدنية متحضّرة، تسمى بمنطقة (الصالحية)، واختفت الأكواخ والكوور وجدران القصب والبواري، وحلّت محلّها البيوت المزينة بالواجهات الجميلة....أما البؤساء من سكانها الأصليين، فقد انتقلوا خارج المدينة ليستعيدوا أمجاد الفقر والبؤس من جديد، والذي ورّثته تلك القرية لوريثتها الجديدة (قرية الصفيح)،

السياق القومي والعرفي:
يتكلم عن اختلاف الأعراف بين القوميات، العربية والأجنبية بشكل عام، وبين العراقية والرومانية بشكل خاص، على لسان زوجة سعدون الرومانية التي تزوّجت بعد سنوات من غيابه عنها:
-" أنا قرأت عنكم أنتم العراقيون كثيرًا، وعن إخلاص نسائكم لكم، أن تبقى المرأة دون زواج إن مات أو غاب أو هجرها زوجها، لكن هذا خطأ فادح فيكم، فالحياة لا تقف عند الفقدان، والإخلاص لا يعني أن تضيّع حياتك على وهم لا يعود، فطبيعة الحياة واضحة ومعروفة، قادم ومغادر، وهذا ديدنها فوق عقارب الزمن التي لا تقف ولا تلتفت، تستقبل قادمًا وتودّع غاديًا، لا تقف عند حدّ أو عند أحد أو عند محطة، هي ساحة استقبال وتوديع كساحة مطار، المرأة بشر، وهي من تهب الحياة، والحياة لا تنتهي بموت أو غياب بشر، أنا لم أتركك، أنت من تركني، أحد عشر سنة وأكثر، ولم أسمع منك خبرًا، حتى تجاوزت أعراف قومي بانتظارك، ماذا تظنّ أن أفعل...!؟"

8- تقنية الإيقاع العاطفي في السرد :Tone

والإيقاع في الكتابة السردية هو أداة وتقنية أدبية تُظهر لنا كيفية شعور الكاتب اتجاه الموضوع، ويمكن أن تنقل النغمة أيضًا مشاعر الراوي أو وجهة نظر شخصية من شخصيات العمل الأدبي، في هذه الحالة، من المهم التمييز بين موقف الكاتب وموقف الشخصية، (مع الحرص على عدم إسناد آراء للكاتب قد لا يتفق معها في الواقع). يتمّ نقل الإيقاع من خلال الاختيار الدقيق للكلمات، بما في ذلك اللغة التصويرية، مثل الصور والتشخيص، علامات الترقيم، وكذلك بنية الجملة وطول الجملة، يمكن أن تؤثّر أيضًا على الإيقاع السردي. في المقالات الروائية والسردية، يستخدم الراوي لغة معينة ليكشف عن موقفه من الموضوع، وعادة ما يتمّ الخلط بين الإيقاع والمزاج، العاطفة التي يسعى المؤلف لغرسها في القارئ. ومع ذلك، فإن الإيقاع هو في الواقع تقنية تستخدم لإنشاء الحالة المزاجية، واستخدام المؤلف لمشاعره الخاصة لنقل تلك المشاعر إلى القرّاء، ويتمّ إنشاء الإيقاع بعدّة طرق في الكتابة السردية، بما في ذلك اللغة التصويرية ووجهة النظر واختيار الكلمات. ونجد الكثير من الأمثلة على استخدام الكاتب لهذه التقنية، وتوظيفها ببراعة في متن النص الروائي:
ذكّرتُ سعدون بشعور الشيوعيين في تلك الفترة بقولي :
-" كان الشعور العام لدى كل متتبع لسياسة البعثيين، هو أن هذه الجبهة لن يكتب لها النجاح، وأن البعثيين لا يمكن أن يضمروا للشيوعيين الخير، لكنهم لجأوا إلى إقامة الجبهة معهم لمرحلة معينة، يستطيعون من خلالها تثبيت أركان حكمهم أولًا، وإحكام سيطرتهم على الجيش، والقوات المسلحة الأخرى وأجهزة الأمن، فالجبهة في حقيقة الأمر، لم تكن إلا هدفًا استراتيجيًّا لحزب البعث، وتكتيكيًّا يمكّنهم من العبور إلى شاطئ الأمان، وتثبيت حكمهم، أمّا الهدف الأساسي من وراء الجبهة هو كشف تنظيمات الحزب الشيوعي استعدادًا لضربه في اليوم الموعود .....!؟"
و أخذت المحادثة بيننا منحى حزين، ونحن نتذكّر أفعال البعثيين المشينة، وغدرهم للشيوعيين، بكشف جميع كوادر الحزب واعتقالها،
إذًا، لقد استخدم الكاتب هذه التقنية بشكل صريح، ونستطيع أن نقول أن الراوي هو المؤلف فعلًا، ولا أظن أن المؤلف سينكر ذلك لو وجّهنا له السؤال مباشرة، لأنه صدّر لنا مقدّمة أفصح فيها عن تلك العاطفة التي يسعى لغرسها في القارئ:
عندما يكون الظلم معيارًا، يأخذ النهب وسفك الدماء جانبًا راجحًا يهدم حياة الفقراء ويخلف خلفه أشلاء حضارة ستة آلاف عام لأمة ممزقة ودين مجروح، وجثث لآمال وأحلام شباب تحتضر في زوايا الانحراف والحرمان، تمكّن أصحاب القرار منّا، حتى استشهدت خارطة سومر في ميدان الانحراف، ومات في مقل الشرفاء تأريخ أمة علّمت العالم أول حرف.....!!
كما يفصح فيها عن موقفه من موضوع الرواية، بل طرحه كقضية تستحق البحث والحل:
فكيف يتم الحفاظ على التوازن بين الإنسان والشيطان في هذا الهمّ المدقع، وبين الخير والشر، واجتثات الجهل والتخلّف والكذب والرياء، وزراعة العدل والحق بديلًا ؟ تلك هي مشكلة الأبدية من عصر هابيل وقابيل، عندما ختم الموت مصير الأخوة بينهم، وظلّت الاستمرارية تعاني من هذا الانهيار الأخلاقي، بعد أن امتلك الإنسان زمام القوة في الشر، وتمكّن الظلم من أرض السواد،.... فضاع صوت قيثار شبعاد بين صراخ المظلومين....ومن هنا تنطلق أحداث روايتي.....!؟

9- تقنية المأساة :Tragedy
تصوّر تقنية المأساة السردية سقوط الشخصية أو تدميرها عادة نتيجة لأفعالها أو عيوبها، وغالبًا ما تتضمن الروايات المأساوية شخصية مركزية تمتلك صفات رائعة ولكنها في النهاية تتراجع بسبب غطرستها أو جهلها أو ظرفها فتثير المآسي عادةً ومشاعر الشفقة والحزن وحتى الخوف لدى القارئ أو الجمهور، إذ غالبًا ما يُنظر إلى مصير الشخصية على أنه أمر حتمي أو لا مفرّ منه، ويمكن أن يساعد استخدام التراجيديا في الأدب في استكشاف موضوعات عالمية مثل الأخلاق والمصير والطبيعة البشرية، وللتفكير في تعقيدات التجربة الإنسانية:
أمثلة توضح كيف استخدم الكاتب هذه التقنية، من خلال استعراض تراجيدي على لسان الشخصية البطلة (سعدون) يصف فيه غربته في بلاد وجد نفسه فيها وحيدًا منبوذًا من كل شيء إلا يأسه وغمّه وجهله وحيرته :
وبدأ سعدون يغوص بأفكاره ويحدّث نفسه عتبًا على زمنه القاسي، وقال لنفسه بصوت مهموس :
-"ما تجرعت المرّ إلا سقاني الدهر أمرُّ منه، وحطّ بي الرحال، في بقعة غريبة من دنيا الله الواسعة، لا أعرف أرضها ولا سماءها ولا ناسها ولا لسانها، أي شعور يمتطيني الآن، وأنا وحيد محتجز بين جدران الواقع الضيقة، لا أعرف سوى لغة الإشارات، شعور يلغي كل الاعتبارات ويدمي شغاف القلب ويصبغ الأحاسيس بالعتمة والسواد .....!"
-" لماذا أنا هنا....ما الذي جنيته....ألم يقلها العقلاء - من جد وجد- ..... وأنا أجدّ ولا أجد ... وسهمي في آخرها العقبات والأوهام كنت في قمة الجدية....لماذا لا أجد سوى الغربة واليأس....!؟"
- " لقد تقيأك الوطن أيها المنبوذ...! ، افهم وانتبه لنفسك...!"
وغاب سعدون من نفسه، بعدها أجلسته زوجته على الأريكة وتمدّد فوقها، وهو يستمع لضميره ويهمس بصوت شفيف:
- " هي نفس القصة الغريبة التي يسردها علي ضميري كلما سألته، يجيبني مبتسمًا وكأنه يشمت بي : لا راتب، لا بيت، لا عيشة كريمة، جوع، عري، ظلم، هلاك، موت، أضحك أحيانًا، وأعود أبكي بمرارة من طريقة التهكم الغريبة، التي يرمي بها الضمير تلك المفردات بسخرية في قرارة نفسي، فهي مفردات مستفزة، التصقت فوق لسانه وتعوّد أن يقولها لي بصوت مليء بالثقة والانفعال السلبي
شامتي يسكن عقلي ويقول لي بشماتة :
- " اصبر....إنه المستقبل ...!....إنه الوطن...!

10- تقنية المفارقة :Irony
بنقلات سريعة، بين أنواعها الثلاث:
المفارقة الدرامية : وهي مضمنة في بنية العمل كلل، ممتدة على كامل مساحة العمل. سعدون الذي يغادر وطنه معززًّا بالفكر الشيوعي المناوئ للسلطة الحاكمة، بهدف اكتساب العلم على أمل العودة إليه مكرّمًا بالعلم ليساهم في بناء نهضته، ويفقد في تلك الغربة زوجتين وابنة، كما يتعرض للتهديد والاغتيال مرتين على أيدي بني قومه من زبانية السلطة الصدامية يعود إليه وحيدًا كما خرج، ليجد حيّه وأهله وقد أكل الفقر والعوز من بقي منهم، بعد تشريدهم إلى حيّ آخر يقبع منزويًا على هامش الحياة.
المفارقة الظرفية : عندما تكون النتيجة عكس المتوقع تمامًا، الحضارة تتطور بفعل الزمن نحو الأحسن، لكنها في قرية الصفيح سارت عكس التيار:
"وتطوّرت حضارتها السلبية البائسة بفعل الزمن وحركاته المختلفة، فولدت تلك الحضارة السوداء، قرية (الصفيح) في عصر حجري حديث، أجدها فرعًا من نظرية التطوّر للجنس البشري التي انفلتت في غفلة من جيب الزمن المخروم لنظرية (دارون) (النشوء والارتقاء).
ثمّ السخرية اللفظية: كما في الاقتباس التالي:
وربّما هي حلقته المفقودة التي بحث عنها ولم يجدها حتى مات وهي حسرة في قلبه، أظنّها حقيقته المفقودة (قرية فرحان) أو وليدتها (قرية الصفيح) التي تسكن في عصر العولمة وجنون الاتصالات وخدعة الديمقراطية ونحن في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، قرن التقدم التكنولوجي، لتثبت فشل (دارون) في التطور الاجتماعي والأنثروبولوجي، هي حقيقة واقعة لا مفرّ منها.

11- تقنية التشخيص Anthropomorphism/Personification :
يميل التشخيص إلى إضفاء السلوك الحقيقي أو المتخيل للكيانات غير البشرية، ويصفها بخصائص أو دوافع أو نوايا أو عواطف بشرية، على الرغم من شيوعها بشكل مدهش، إلّا أن التجسيم ليس ثابتًا، وهناك ثلاثة محدّدات نفسية تجعل الكاتب يستخدم هذه التقنية، وهي:
• إمكانية الوصول
• وإمكانية تطبيق المعرفة البشرية (معرفة الوكيل المستنيرة)،
والدافع لشرح وفهم سلوك الوكلاء الآخرين (دافع التأثير)، والرغبة في الاتصال والانتماء الاجتماعي (الدافع الاجتماعي).
لذلك نجد الكاتب يشخصن القلم، ويعتبر القلم من وسائل الكتابة، ويمكنه ببساطة أن ينوب عن الضمير، كما يمكن أن يملك إمكانية تطبيق المعرفة البشرية، وشرح سلوك الآخرين، وتحقيق الانتماء الاجتماعي:
.......فقلت مخاطبًا شريكي اللصيق :
- " تصوّر يا قلمي العزيز، سعدون، يفكر بهذا المأزق في رومانيا بطريقة قرية الصرايف في الناصرية المدينة السومرية، ولم ينتبه للاختلاف والبعد الشاسع بينهما، ببعد السماء عن الأرض، ببعد يومين بصاروخ وليس بطائرة، ويندب حظه، قائلًا بصوت عالٍ :
-" يا لسذاجتي القروية، ماذا سأقول لأهلها حينما يكتشفون بأني قضيت ليلتي مع ابنتهم، وكيف سأواجهها، وأنا من أخذها دون أن أسألها حتى عن موافقتها، أنا مجرم فعلًا....!؟"
ضحك قلمي وقال من بين قهقهاته المعهودة:
-"هكذا أنتم يا أبناء أورنمو وقحطان، شرفكم لا يخلع الأردية، عكس شرف هؤلاء الناس، يمقت الملابس وعرق الجبين...!"
قالها وانكبّ من جديد فوق ما يحسنه....

12- تقنية تيار الوعي Stream of consciousness
تدفق لتيار الوعي مثار بعتبة واقعية، وهي تقنية موظفة في هذا العمل توظيفًا ينم عن براعة وحرفنة في فنية الانتقال من واقع خارجي حاضر جامد إلى خيال داخلي ماض حي:
وأنا أقلب صفحات هاتفي جرّني مشهد من بساتين مدينتي، نقلني نحو ذاك الزمن العفوي، السبعينات من القرن المنصرم، كانت ولا تزال عروسًا سومرية بحلتها الخضراء، يطوّقها وشاح ملّون بألوان الحياة من بساتين النخيل من كل جانب، تزهو بفراتها المعطاء، الذي تطرّز مياهه العذبة زوارق صيادي الأسماك، والطيور الحرّة ومهيلات التمر والرطب والعنبر، تشقّ عباب سلسبيله العذب ...!

13- تقنية الاسترجاع Flashback :
وظّفه الكاتب في أكثر من موضع، نختار منها التالي:
استأذن سعدون بالذهاب إلى الحمام الخارجي لغسل وجهه ويديه، وقد استنفرت عبارته الأخيرة مخيلتي، وبثّت العبث فيها، فتهتُ في طيّات ذاكرتي وبدأت أتصفّح زمن الحروب والويلات التي مررنا بها في الثمانينات والتسعينات، والحصار الجائر الذي أنهكنا، فكان زمن معتم، غيومه سواد ورعب، أمطاره دم ورصاص وخوف، صار الموت والسجن وبتر الأوصال شيئًا مألوفًا فيه، آلتهم كقطع الملابس تفصّل حسب مقاسات الإنسان، المعارض فيه للحزب الحاكم، مصيره محتوم ومسكنه الطبيعي السجن، أو المقابر الجماعية.....
14- تقنية الكوميديا السوداء:
أيضًا تقنية مستخدمة في العديد من المواضع، سيما التي يتحدّث فيها الراوي عن طغيان السلطة الحاكمة، وموظفة كما ينبغي أن تكون في عمل فني فلسفي يصور تناقضات المجتمع بتهكمات الرعب والبؤس :
....أو أحد مقرات المخابرات المنتشرة في أنحاء الوطن، وهذه خدماتها الفندقية راقية جدًّا، فنادق من الدرجة الأولى، خمسة نجوم، قتل وتعذيب وقص اللسان والآذان والأطراف، وقعها مرعب في نفوس العراقيين لخدماتها الجليلة الخارجة عن المألوف، الإعدام رميًا بالرصاص، ثرم السجين بمكائن الثرم، أو إذابة جسده في أحواض التيزاب .....!؟...استغرابي لا حدود له لعدم ورود هذه المنجزات الهدامة في كتاب غينيس لغرابتها الإنسانية، لدرجة أن القول جاء فيها: إن الجحيم قد سكن الأرض واستقر في العراق.... !!
يتمركز الجحيم بعدم الانتماء للحزب الحاكم، أو التعرّض لهذا الحزب بكلام سلبي، أو شتم القائد الضرورة أو أحد أبنائه، حينها يرتدي صاحبها أجمل البدل الأنيقة المخاطة عند خياطي المخابرات، من تهم كيدية مفصلة باهتمام وأناقة، الأمر الذي جعل الإنسان العراقي يتلفت حول نفسه مرارًا، ويحسب ألف حساب حين يمسّ الحكومة بحديث أو نقد بسيط، حتى وصل به الأمر إلى الخوف من الحائط، وذهب الاعتقاد في ذلك الزمن بأن للحائط آذان تسمع وعيون ترى ...!؟ أخذ هذا الزمن تقريبًا ربع نفوس الشعب العراقي قتلًا وسجنًا ودفنًا في المقابر الجماعية، وأسرى حرب ومفقودين وشهداء......!
وتذكرت صدفة مرعبة، يوم أودع أحد أقاربي السياسيين في سجن من تلك المنتجعات، ولحسن حظّ قريبي المسكين أن هذا السجن يمتاز باستضافة راقية ومريحة جدًّا لقرابتها الحثيثة من الموت الحتمي....!
ذهبت وعائلته لزيارته، وبعد الإجراءات الثقيلة لدخول ذلك المنتجع، قابلناه بشقّ الأنفس، وبقينا معه بضع سويعات، خلالها تعرّفت على بعض ساكنيه من أبناء مدينتي، وبدأت أسأل كل واحد منهم عن تهمته التي أوصلته إلى هذا المكان الرومانسي، وكأن سؤالي مفتاحًا يفتح كل أبواب الجحيم الموصدة، وبدأ السباق .....


15- تقنية الحوار الداخلي : :Interior Monologue
سأسوق لكم الاقتباس التالي:
فقال مخاطبًا نفسه بألم وحسرة:
- " أليس هؤلاء من دفعت عمري وشبابي أذود عنهم، وشربت كؤوس الحنظل من أجلهم ولم أزدهم إلا بؤسًا ومسكنة.....!؟؟ فقد أخذوا من سوء حظي الكثير وتركوا لي ما تبقى...؟"
صمت قليلًا وعاد لمخاطبة نفسه كالمجنون وهو تائه في أزقة هذا العالم المنهار والغارق بالعوز حتى أذنيه:
- " معقول أن يحدث هذا في بلدي، لابد أن التحضّر صار وحشًا، يأكل الإنسان ويلقيه عظمًا منخورًا، لا يستطيع إعالة نفسه بقوت يوم ... كنت أظنّ أن كفاحي وكفاح أصحاب الفكر السياسي والشهداء منهم، قد يمسح، على الأقل (الصرايف) من مشاهد الوطن، وسررت حين غابت قرية فرحان عن المشهد، الآن خلفت من هو أتعس منها في درجات الفقر والبؤس والحرمان، لقد خلفت وليدًا جديدًا كقاع للظلم وهو المسكنة، أشدها فتكًا و(حي الصفيح) صار يحسد قرية فرحان على درجة الفقر...إنَّا لله وَإنَّا إليه راجعون...!".

الأساليب السردية:
تنوّعت الأساليب السردية في المتن الروائي، بين اللغة التسجيلية التي تعكس المعرفة العلمية والمعلوماتية للكاتب، والوصفية الجمالية التي تعكس أدبيّة الكاتب، بينهما سرد هجين بين اللغة التسجيلية واللغة الأدبية:
أقتبس هاته الفقرة كمثال على الأسلوب الهجين المختلط :
"ونحن في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، قرن التقدم التكنولوجي، لتثبت فشل (دارون) في التطور الاجتماعي والأنثروبولوجي، هي حقيقة واقعة لا مفرّ منها، وميّزة بارزة لاهتمام حكّامنا العرب بالشعوب العربية بشكل عكسي يقصم ظهر المجتمع العربي بسوط الفقر، في حقب التطوّر التنازلي نحو الخلف واتجاه نوعي في تسويق الفقر باتجاه درجة أدنى منه، وهي استراتيجية سياسية مستحدثة اتبعها حكامنا، العيش على دماء الناس كقراد الجاموس لا ينفك منه حتى يموت أحد الجانبين، أو يهلك الاثنين معًا
والأمثلة كثيرة عن اللغة السردية التقريرية أو التسجيلية، فقد أفاض الكاتب بمعارفه المعلوماتية، شارحًا جغرافية المكان وتاريخه وديموغرافيته، والأحداث البارزة التي حدثت فيه، والأعمال والأدوات التي يستخدمها السكان بأسمائها السومرية، الأكلات والمناسبات، العادات والتقاليد، وووو:
"أمّا أواني الغسل والاستحمام في بيوت تلك القرية البدائية: فهي(الصفرية) وهو إناء نحاسي كبير نسبيًّا يشبه البرميل، و(السلبجة أو اللكن) هي إناء نحاسي مزدوج آخر، وأواني أخرى لجني الغلّة، وأدوات يجب ذكرها للإطلاع وهي(المنجل) ....."
الناصرية مدينتي، هي مركز لمحافظة ذي قار، وتعدّ رابع أكبر مدينة مأهولة بالسكان بعد بغداد والبصرة والموصل، يعود تأريخ الناصرية إلى ما قبل الحضارة العبيدية، ستة آلاف سنة قبل الميلاد، حيث ضمّت أول مدينة في التأريخ وهي مدينة أريدو، التي تم ذكرها في قائمة ملوك سومر، وعلى أرضها قامت الحضارة السومرية، ممالك أور، لجش، أوروك، ولد فيها النبي إبراهيم عليه السلام، على أرض أور التي لا تزال آثارها قائمة، وإلى جنبها بيت إبراهيم، شكلت أور جزءًا مهمًّا في الحضارات الأكادية، والبابلية، والآشورية، وكانت مصدرًا مهمًّا للثروات الوطنية لتلك الامبراطوريات، لمحاصيلها الزراعية المهمة ووفرة الأسماك فيها، كما كانت تمثّل المركز الديني في تاريخ حضارات وادي الرافدين المتعاقبة مع مدينة (نفر). تمتدّ أرضها السومرية شرقًا لتنتهي بمساحات مائية شاسعة تسمّى الأهوار، وهي المناطق التي ظهرت في القصص والأساطير السومرية، الأرض التي كان يتنقل فيها ملوك سومر بحثًا عن الصيد، والتي تاه فيها كلكامش وصديقه أنكيدو بحثًا عن الخلود، وكانت هذه الأهوار تسمى تاريخيًا بالبطائح.....

وأما عن الأسلوب الأدبي، أيضًا الأمثلة كثيرة، وكأن الكاتب يرشق كلماته بريشة على لوحة تتهيأ لقبلات الألوان، نختار منها:
وهو في هذا الأثير الهائج، دخلت خازنة الفردوس، ماريا، بابتسامتها الجميلة، واحتضنته دون نقاش، وطبعت قبلة من نار فوق خده، وبدأت مراجل شجونه تغلي ...وانفلت كل شيء من يده وتفكيره، وانحسر كل شيء....
عاش الشهر الثاني، بهذا الفردوس العجيب، وهو محلق بين السماء والأرض ولا يحسّ بما يحدث، أو يفعل ولا يرى سوى عالم ماريا الجليدي، فصار بلبلًا رومانيًّا يغرّد في كل اتجاه، فقد أخذ اللغة من بين شفتيها الجوريتين، لغة بكلمات كالزنابق الملونة، وهو ملقى بين ذراعيها، هي جنة تعليمية، لا أعتقد مرّ بها تلميذ شاطرغيره.

الخلفية الأخلاقية:
إن "الاشتراح الإلهي للمصطلح الذرائعي جاء للنص العربي بالفوائد بعد أن اختلطت وجهات النّظر حول المصطلَحَين( pragmatism ) و( pragmatics )، والتّفريق بينهما عند الكثير من الباحثين، لكن الله (جلّ شأنه) قد حلّ هذا الإشكال وفرق بين الذرائعيتين في سورة الشّعراء، فصارت تلك الآية(227) نقطة التمركز لذرائعيتنا العربية الحاضنة لفلسفة الذريعة التبادلية المنفعية (Pretext) العربية وتثبيت لأركان المنفعة الإيجابية بعد أن صار الفرق واضحًا بين الذرائعيتين" ؛ لذلك تختلف هذه الرواية الفلسفية الذرائعية عن الكثير من الروايات الفلسفية ما بعد حداثية، بالتركيز الكبير على الجانب الأخلاقي والقيمي لمجتمع عربي عانى ما عاناه وما زال يعانيه من قهر وتقهقر على كل المستويات، عصفت به كل التيارات الفكرية المضللة، ومع ذلك حرص الكاتب على الدعوة إلى العودة والتمسك بإرث الأجداد الحضاري والقيَمي، وعلى تصويب كل الانحرافات الفكرية المتمردة على قدسية الأقدار الإلهية، كما دعا إلى نبذ الجهالات التي تكرّس فكرة الحظوظ المنحوسة والحظوظ الجيدة.
وتؤمن الفلسفة الذرائعية " بأن الإنسان هو كائن اجتماعي وسياسي بطبيعته، يولد غير كامل وغير مكتفٍ ذاتيًا، ولكن مع أوجه القصور تلك فهو لا يستطيع أن يعيش منفردًا، ولكن عليه أن يلجأ إلى مساندة ومساعدة الآخرين من أجل أن يحافظ على إنسانيته، ويعالج نقصه وضعفه ويكتمل من خلال مساكنة الآخرين والتعاون معهم، وباختصار شديد، فالإنسان، كما تراه هذه الفلسفة ( الذرائعية)، بحاجة ماسة إلى رفقائه ومحيطه بسبب متطلباته الطبيعية، وكذلك بحكم الضرورة، فالإنسان، من بين جميع المخلوقات، لا يستطيع بلوغ الكمال بمفرده، بل يجب أن يلجأ إلى مساعدة عدد كبير من الناس من أجل تحقيق حياة كريمة، واتباع الطريق الصحيح، وفي هذا الوضع يبادله المجتمع العمل بمردود مادي كحراك تبادلي معوض بالتبادل المتكامل لاستكمال دائرة التلقائية، مع مملكة الحيوان بإجرائيّته التلقائية التي تكمن فيما ينتج من مساهمة مطردة يستكملها في دائرته التلقائية بالاهتمام المسترد من قبل مساكنيه في محيطه، في المملكة النباتية، وهكذا تشغل الدائرة التلقائية المتكاملة بما يثمر، وتكون الأرض هي الحاضن لمكونات تلك الدائرة ..." لذلك دعا الكاتب إلى رفع شأن العمل والعلم كقيم وأساسات تقوم عليها رفعة الإنسان وحضارة الأمم.
الصبر والصدق والوفاء والإخلاص والأدب والأخلاق الحميدة الأخرى هي المفاتيح التي تُفتح بها كل المغاليق المرجوّة، لم أجد في العمل أيه نزعة عدائية اتجاه أية قومية من القوميات العديدة التي جاء ذكرها في الرواية، كما لم أجد أية كلمة نابية يمكن أن تُقال في ظروف مشابهة لظروف البطل في الرواية، وبالتالي فهي رواية أخلاقية إلى درجة كبيرة باشتراح المصطلح إلهيًّا، إلى جانب كونها رواية فلسفية خاصة برؤية ذرائعية.

التجربة الإبداعية الأدبية للكاتب:
إن هذه الرواية هي نقلة تقنية واسعة لمستوعبات النص وبنياته من الداخل، أما فكريًا فهي مكتوبة بتقنيات علمية مدروسة بدقة المنهج الذرائعي، لكنها واقعة تحت سهام أدبية الكاتب، والتي استطاعت استعادة فنية الرواية بعد هيمنة الجانب العقلاني، ولا يمكن تغليب البعد الفلسفي على البعد الأدبي، ولا العكس، فالأديب من الحذاقة بمكان لم يدع مجالًا لثغرة يمكن أن نفاضل بينهما، جعلهما على التوازي، عمودان على مستوٍ راسخ من ثقافة وفكر وعلم ومعرفة وأدب.
هذه دراستي، وما أخالها وافية، ولا مكافئة لثراء الرواية، ولا لأدبية الكاتب العالية والفخمة، التي تستحق أن ترفع لها كل القبعات تقديرًا وإعجابًا وفخرًا وامتنانًا على مساحة الرقي والمتعة والمعرفة الشاسعة التي منحنا إياها بكرم كبير.... التقصير مني، وأعتذر عنه، والكمال لله جل وعلا.

د. عبير خالد يحيي مرسين – تركيا 16/1/ 2024



المصادر والمراجع

1- كامو، أسطورة سيزيف، ترجمة أنيس زكي حسن، منشورات دار مكتبة الحياة، لبنان
2- ايريس مردوخ، نزهة فلسفية في غابة الأدب، ترجمة لطيفة الدليمي، دار المدى
3- ناتالي الخوري غريب، الرواية الفلسفية بين الفكر المجردّ وفنّ الحياة، مقال في موقع (معنى)، 29 مارس 2021
4- جيسي ماتز، تطور الرواية الحديثة، ترجمة لطفية الدليمي
5- لوك فيري وكلود كيلباي، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ترجمة محمود جماعة، دار التنوير
6- عبد الرزاق عوده الغالبي، الذرائعية والإدراك وتكنولوجية اللغة
7- عبد الرزاق عوده الغالبي، رحيل السومري الأخير، رواية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال