الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الْكَرَّاب (2)

عبد الله خطوري

2024 / 1 / 18
الادب والفن


كان الهدوء يَرينُ على البيت .. سكونٌ صامتٌ .. أَجُوسُ أرضَ البَرَّاكةِ في غدوة ورواح .. يداي وراء ظهري أُفكرُ في معضلتنا الكبرى .. العائلة النائمة في وضع متداخل كأسماك المصبرات .. أفْواهٌ فاغرة يَدْخُلُهَا الهوامُ والذبابُ وكثير من العذابِ .. سراويل مخرومةٌ .. أخِي الأصْغَرُ يَحُكُّ عَوْرَتَهُ التي أكَلَها البَقُ .. أُخْتِي تَرفس أختَها فَترُدُّ هذه برفسةٍ أخْرَى أقْذَعَ في صِراعٍ أزلي على المجَالات الفسيحَة التي أُتِيحَتْ لنا في قَصْرِنَا الكَبيرِ .. عَضَضْتُ عَلَى شفتي بامتعاض حَانقٍ .. نَهَضْتُ نِصْفَ نُهُوض ثُمَّ عَاودتُ الجلوسَ متأَفِّفا ضَجرا لا ألْوي على شيء .. أَصيخُ لأصوات داخلية تجهزُ عَلَيَّ .. الهمُوم العَريضَةُ الطويلة أطول من لَيْلِ خَريفِ حينا الصَّغيرِ .. طفولتنا الضائعة التي نسج العناكب أسلاكهم عليها .. كنا نقرأ "التلاوة" في تلك الدُّورِ الخَربَةِ حذاءَ مَطَارِحِ النفايات .. نَرى الخُبْز الأسود اليابس القاسح ومخلفات الآخرين وأمواه الحار مُبَرْقََعا بيْنَ السُّطُورِِ مسلطا على العيون. لا نَفْقَهُ للمعلمين قَوْلا.. كانوا في وادٍ كُنَا فِي وادٍ .. عندما نَلِجُ سَمَّ المَدارسِ، كُنَّا نُفَكِّرُ للتو في الخروج والطيران بعيدا في المساحات مع عصافير الدور وشحارير الغاب الخضراء والحساسين الحِسَان .. كنا لا نطيقُ الجُدرانَ ومصاحبةَ الجرذان .. كانت هُمومنا كالفَقْصَة كالأعشاب الطفيلية تكبر مَعَنَا بالرغم منا، ولا زال الواحد منا يَكْبُرُ تَكْبُرُ وإياه ضغائنُه تَزْدَادُ تفاقُما من يوم لآخر.. في أحايينَ كثيرة، يطبقُ عَلَي سؤال : أنحن صغارٌ حقا أم فقط الآخرون الذين يعاملوننا كذلك ..؟؟.. كانت عَيْنَايَ تتفحصَان بفُتورٍ السقفَ الحادر تَلْعَبُ فيه الثُلَمُ والثُّقُوب وَالفَجَوَاتُ الجُمْباز دون حسيبٍ أو رَقِيبٍ، وَكانَتْ الأمطارُ في ليالي الشتاءِ البارِدَةِ تُعَانِقُ رقابَنا ونحن نقرأ في تلاوتـنا المفسرة :

سَقْـفُ بيتي حَـديـد رُكْــنُ بيتي حَجَـر ...

تفْتحُ أمي بَابَ الصباح عَلَى سعتِه تناديني لتناولِ الفطورِ .. لَقَدْ أَعَدَّتْ كُلَّ تفاصيل الاستيقاظ وصَلَّتِ الفجْرَ وتلت أدعيتها عسى .. إنَّها آخِرُ منْ يَنامُ وأَوَّلُ مَنْ يستيقِظ دائما .. قَبَّلْتُ يَدَهَا اليُمنَى وأنا أتَنَاولُ حَبَّةً من حُبَيْبَات الزيتُون الأسْوَدِ مُسْتَعْجِلا الذهَاب .. رَجلْتُ شَعْري المُغْدَوْدَن كَيْفَما اتفَقَ .. وضعْتُ قربَةَ الماء على ظهري وغادرتُ البيتَ مقطبا مزمجرا ألعَنُ الصُّبْحَ والمسَاء وكُلَّ الأزمان وحرمانَ النوم المفروض علينا كضريبة التي نعيشُها ...

_احْضي راسك آوليدي من أولاد الحرام ...

كان صوت أمي يَرِنُّ في أذنيَّ .. إنها دائبة الحرص على أَنْ أَكُونَ في البيت في الوقت المناسِب، فهِي تخْشَى أنْ أدخُلَ فِي نِزاعاتٍ مع مَنْ أَتَعاملُ معهُم.. تربت علَى كَتِفِي بهُدوء ودَعَةٍ عندمَا أُعَاوِدُ لَثْمَ يَدِهَا ..

_سيرْ آوليدي الله يرضي عليك ..

تهمس بسكينة أُمٍ متوجسة، وأنصرفُ بسرعة مارقة لأدعها تكمل بحميمية طقوس هواجسها وتوجساتها وأشغال البيت التي لا تنقضي ...

☆إشارات :
_البرَّاكة : بيت من أحياء الصفيح بحيطان من طوب أو ما شابه وبسقف من قصدير
_التلاوة : كتاب مدرسي للمستوى الابتدائي
_احْضي راسك : انتبه لنفسك كن حريصا أن لا يمسك الآخرون بسوء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??