الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كفاح طيبة لنجيب محفوظ

صلاح سليم علي
(Salah Salim Ali)

2024 / 1 / 18
الادب والفن


مقدمة:

من الكتب التي تقرأ مرتين (كفاح طيبة) لنجيب محفوظ 1944 ، وهي آخر رواياته التاريخية التي سبقتها روايتيه (عبث الأقدار) 1939، و (رادوبيس) 1943،..اما لماذا تقرآ مرتين فلأنها تجمع بين الأدب والتاريخ..مع ذلك فقراءتان لاتكفيان لسبر الجوانب النفسية والسياسية الكامنة في دوافع الراوي او الجهود التي بذلها في اعداد المهاد التاريخي والآثاري والطوبوغرافي للرواية..

تماثل مصر بلاد مابين النهرين في وجوه عديدة أهمها انهما تحتظنان انهارا تزودانهما بالإزدهار والخصوبة الضروريان للإستقرار وتطور المجتمع ونشوء الحضارة..لكنهما تتمثلان في غياب الفواصل الطبيعية الكبرى كالجبال والأنهار أو المسطحات المائية الواسعة التي تشكل حاجزا بين سكانها الأصليين والأمم والأقوام المجاورة، فليس لبلاد الرافدين وبلاد وادي النيل حدودا طبيعية محددة من جهاتها الأربع تحول دون اختراق الأمم المجاورة لأراضيها ففي حال العراق نجد ان سلسلة جبال زاكروس تقع ضمن الأراضي الأيرانية وسلسلة جبال طوروس هي الأخرى تقع ضمن الأراضي الحيثية وألأورارتية، اما الأهوار فتتداخل بين البلدين بينما تتناوب السيطرة على شط العرب بين الفرس والعرب وقبلهم السومريين والأكديين والبابليين وألاشوريين ازاء العيلاميين ن في حين تحولت الأهوار بين البلدين والعنصرين الى ملأوى للمتمردين والعصاة وشذاذ الافاق وبؤرة للعصيان والثورة والإستباحة منذ العهود القديمة حتى العصر الحديث الذي شهد انتقال سكان الأهوار الى المدن الكبرى وتوليهم السلطة في بغداد..اما في مصر فتحيط بها صحراء ليبيا غربا والصحراء الشرقية التي يفصلها عن سيناء ذراع السويس للبحر الأحمر، ويقسمها النيل الذي يجري من الجنوب الى الشمال، على عكس نهري دجلة والفرات، الى مصر العليا التي تمتد من حدود السودان حتى بحيرة الفيوم، ومصر الدنيا التي تمتد من الفيوم حتى البحر الأبيض المتوسط بما يشمل الدلتا والأسكندرية..ماجعل من البلدين واحتين غنائتين تجودان بكل خير ممكن مماتنبت الأرض اويدر به الحيوان، وبذلك باتت مصر محط احداق كل طامع من الأقوام التي تحيط بها ومن الجهات كلها..يضاف الى ذلك توفر مصر على مناجم الذهب الوفيرة في بلاد النوبة التابعة سياسيا لفراعنة مصر..على ذلك بات جانبا كبيرا من تاريخ البلدين سجلا لتاريخ الأمم الغازية التي كونت سلالات حاكمة في الواديين او في جزء منهما، فقد عاشت مصر بعد توحيدها من قبل اول الفراعنة نارمير 3100 ق.م. ثلاث ممالك استمرت قرابة 2000 سنة هي المملكة القديمة والمملكة الوسطى فالمملكة الجديدة، وكانت كل مملكة تختتم بفترة ظلامية تسودها الإضطرابات والفوضى وتتسم بضعف السلطة المركزية والنكوص الحضاري تستغرق قرنا او قرنين وتلك الفترات هي الفترة المظلمة الأولى التي جاءت في اعقاب المملكة القديمة، والفترة المظلمة الوسطى التي اعقبت المملكة الوسطى ، والفترة المعتمة الحديثة التي اعقبت المملكة الجديدة، لتتلوها سلالتين اجنبيتين في حكم مصر هما السلالة اليونانية والسلالة الرومانية التي ازاحها الفتح الإسلامي الذي حول مصر الى الحضارة العربية الإسلامية ومابرحت كذلك..

فقد حكمت مصر خلال اكثر من 3000 سنة 33 سلالة ألأخيرتان اجنبيتان ، اضافة الى السلالة الخامسة والعشرين الكوشية والسابعة والعشرين الفارسية..وكان التسلط الهكسوسي قد استغرق قرابة مائتا سنة من خلال السلالتين الموجودتين على نحو متزامن مع السلالة المصرية السابعة عشر في طيبة، وهما السلالة الخامسة عشرة والسلالة السادسة عشرة (1630 ق.م.- 1523 ق.م.) في افاريس وممفيس على التوالي..وقد تزامن حكم السلالتين مع سقوط بابل في العراق على يد الكاشيين سنة 1595 ق.م.

وتدور حوادث رواية كفاح طيبة في الفترة الممتدة بين عام 1630 ق.م. و 1523 ق.م. حول الملك المقاتل سكننرع تاو ملك طيبة واسرته وجهودهم في تحرير مصر من الهكسوس وتوحيدها شمالا (الدلتا) وجنوبا (الصعيد حتى وادي حلفا)..عند واحد من أكثر مفترقات الطرق في التاريخ الحضاري لمصر والشرق الأدنى والعالم كله..ليس لتحرير القسم الشمالي لمصر من السيطرة الأجنبية فحسب بل لأن توحيد مصر وعقد السيادة فيها للمصريين سجل بداية لقيام المملكة الجديدة التي احتظنت السلالات الحاكمة الثامنة عشر والتاسعة عشر والعشرون حيث حكم مصر فراعنة اقوياء عملوا على تحقيق نهضة اقتصادية وعسكرية وعمرانية منقطعة النظير اعطت لمصر الفرعونية شكلها كما نراه في الكرنك والدير البحري وابي سمبل والعديد من المدن والصروح القديمة الحديثة..
ولم تكن مصر عند كتابة الرواية بلدا مستقلا، بل تحت الهيمنة البريطانية الأجنبية التي لم تقل في مساؤها واستبدادها وظلمها للمصريين عن الإستيطان الهكسوسي والهيمنة الهكسوسية قبل اكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة عام..

وعلى الرغم من الإختلاف بين الإستعمارين الهكسوسي والبريطاني لمصر لأن الأول سبقته حركة هجرة واستيطان تدريجي من الشرق بدأ قبل الهيمنه الفعلية للغرباء بقرابة ثلاثة آلاف سنة، أي منذ الأسرة الثالثة عشرة، يتماثل الأستعماران بالقسوة المفرطة والضراوة في التعامل مع المصريين، ولايختلف المصريين القدماء عن المصريين في العصر الحديث في كراهيتهم للمستعمرين وأحتقارهم ومقاومتهم لهم.. وكان الهكسوس قد تسللوا الى مصر تحت طائلة الهجرة والخدمة والتجارة، مع ذلك نجد نصوصا تؤكد وفودهم مصر غزاة مدمرين..ففي نص مانيثو، وهو كاهن ومؤرخ مصري من سمنود عاش في القرن الثالث ق.م. على عهد بطليموس ألف او ل كتب باللغة الأغريقية عن تاريخ مصر:
( فجأة داهم غزاة ينتمون لعنصر غامض من الشرق بثقة في قوتهم اراضينا، فاستولوا بدون توجيه اي ضربة على البلاد وتغلبوا على الحكام، ليشرعوا بحرق مدننا دون رحمة وهدموا معابد الالهة حتى سووها بالأرض وعاملوا الناس على اختلافهم بوحشية وقسوة منقطعتا النظير)..

مصر الحديثة:

هنا، نعود بالزمن الى مصر في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي من العصر الحديث، لنجدها ترزح تحت استعمار ماكر لايقل شراسة وعدوانية من استعمار الهكسوسي..
فمصر العصور الوسطى والحديثة ابتليت بضروب عديدة من الإستعمار الأجنبي والإستبداد السلطوي فلم تلبث من الخروج من السلطنة المملوكية حتى سقطت تحت براثن الحكم العثماني المتخلف الذي اخلى مكانه لأسرة الألبانية تفردت بالحكم بتخويل من السلطة العثمانية..ولكن هذه السلطة سرعان مابركت تحت النفوذ البريطاني الفرنسي منذ عام 1879، ولم يلبث البريطانيون حتى دفعوا اسطولهم لقصف الإسكندرية بذريعة قمع التمرد العسكري لأحمد عرابي ثم التوجه الى قناة السويس وأحتلالها مؤسسين بذلك لوجود عسكري مسلح في قلب مصر بدءا من عام 1882، استمر حتى الجلاء عام 1956..لكن هذه الخطوط العريضة تتضمن تفاصيل عديدة مؤلمة عاشها المصريون، ولاسيما الفقراء والفلاحين وصغار الموظفين الذين يشكلون الأكثرية ومن ضمنهم ابنائهم وبناتهم من الناشئة المثقفة التي كونت الطبقة الوسطى التي ايقظت الشعور القومي الرافض للهيمنة الأجنبية وللرجعية المحلية، واشعلت بدورها نار الثورة ضد الإستعمار..

فما ترى دوافع الشعب المصري للمشاركة في حرب اوربية اوربية لمجرد هيمنة البريطانيين على مقدرات البلد؟ كل ذلك وحوادث الحرب العالمية الأولى كانت ماتزال ماثلة في الذاكرة المصرية ..كمعركة باب الوزير التي راح ضحيتها اهالي لاناقة لهم ولاجمل فبينما كانت القاهرة ترزح تحت نيران الاحتلال البريطاني المقنع بلفظ الحماية وتعاني الويلات الإقتصادية المهولة الناجمة عن تحويل الانجليز لكل موارد مصر لصالح مجهودهم الحربي حتى أن النقود نفسها شحت في الأسواق ولم تكتف سلطات الاحتلال بهذا بل استغلت الظروف السيئة وانتشار الفقر لتحول وسط المدينة إلى ماخور كبير في مناطق الأزبكية والدرب الأحمر تشغله ثلاثة آلاف عاهرة مرخصة من كافة بقاع الأرض ،وحانات ومراقص واماكن للهو الرخيص حيث إندفع أكثر من 2500جندي أسترالي ونيوزيلندي في الدرب يعاونهم حوالي 2000مجند آخرين تابعين لجنود الإمبراطورية يلقون بالنساء والرجال من نوافذ المنازل ويضرمون النار فيها وفي الشوارع والحانات والحوانيت..هذا الى جانب ذاكرة مذبحة دنشواي، واعدام الفلاحين الأبرياء..

ولم تكن ظروف الحرب العالمية الثانية في القاهرة بافضل منها في الحرب العالمية الأولى، فقد وصل التدخل البريطاني في الحياة المصرية حدودا تمس كبرياء اي انسان حر في العالم مصريا كان ام غير ذلك..ويكفي مثلا على ذلك حادثة قصرعابدين (2 شباط 1942) حيث طلب السفير البريطاني مايلز لامبسن من الملك فاروق ان يكلف رئيس الوفد آنذاك مصطفى النحاس بتشكيل الحكومة وعزل رئيس الوزراء السابق حسين سري باشا..لأن حكومة يرأسها فاسد كالنحاس انفع للإنكليز من الوزارة السابقة..ثم امر جنرالا في الجيش الإنكليزي بتطويق قصر عابدين بالمدفعية والدبابات مخيرا الملك بين الإستقالة وتنفيذ الأوامر..فوافق الملك على تعيين النحاس مغضبا بذلك المواطنين والجيش المصري..وكان الملك فاروق آنذاك يعرف جيدا إنحدار النحاس وفساده وتواطؤه مع الإنكليز، حيث أطلعه النائب ووزير المالية مكرم عبيد في تقريره المعروف ب (الكتاب الأسود) بتفاصيل كثيرة تجعل تكليف النحاس باي منصب عام وليس رئاسة الوزراء، خيانة للضمير قبل ان تكون خيانة للوطن وللأمة المصرية..

على ذلك، تكتسب رواية (كفاح طيبة) بعدا ثالثا يضاف الى بعدي التاريخ والأدب، هو البعد السياسي. وفي النظر اليها من هذا البعد، تصبح خطابا قوميا سياسيا يتضمن دعوة المصريين الى التخلص من نير الإحتلال البريطاني، واحياء الماضي الحضاري البطولي للأمة المصرية ليس من خلال ابطال كفاح طيبة فحسب بل من خلال ابطال مصر في العصر الحديث الذين تصدوا للمحتلين الأجانب بأرواحهم كسليمان الحلبي واحمد عرابي ومصطفى كامل وإبراهيم الورداني وغيرهم..

الرواية:

يأخذنا محفوظ الى القرن السادس عشر ق.م. وتحديدا للفترة 1630 الممتدة بين سنة 1630 ق.م. و1523 ق.م. خلال الفترة الوسيطة الثانية وللسلالة السابعة عشرة (1580-1550 ق.م.) من ملوك طيبة في مصر العليا الذين تزامن وجودهم مع اسرة اجنبية وافدة من الهكسوس شكلت سلالة حاكمة في الشمال (دلتا مصر) يطلق عليها السلالة الخامسة عشرة..وكانت مدينة (افاريس) أو هواريس (في الرواية)، ويبدو من المدونات التاريخية أن طيبة كانت حتى عهد سنختنرع والد الملك سكننرع تدفع جزية من الجرانيت والذهب لملوك الهكسوس الذين لم يعترفوا بسيادة ملوك طيبة على الجنوب..وقد جرت العادة في وادي النيل على اعتمار ملوكها للتاج المزدوج الأحمر والأبيض اللذان يرمزان للشمال والجنوب على التوالي..وكانت طيبة تحمي تقاليد مصر القديمة كما خلفتها الأسرة الثانية عشرة على عهد امنمحات..مع ذلك اكتفى ملوكها درءا للمواجهة مع الهكسوس تاجا ابيض يرمز الى الجنوب على الرغم من عدم قبول ملوك الهكسوس بذلك..ولكن هيمنة الهكسوس لم تستمر لأن آخر ملكين في سلالة طيبة وهما سكننرع تاو وابنه كاموس عارضا التسلط الهكسوسي وخاضا حروبا تمخضت بالقضاء عليهم وطردهم من مصر ثم اعادة توحيد البلاد (سيماتاوي: ويمثل لها بوردة اللوتس رمز الجنوب ووردة البردي رمز الشمال ثم بأله النيل هابي مكررا وهو يشد الوردتين إحداهما الى الأخرى في تصوير يرمز الى وحدة مصر وسيادتها)..وكان احمس الأول ابن سكننرع والأخ الأصغر لكاموس هو من اكمل في واقعة فاصلة دحر الهكسوس وطردهم من مصر وكان اول ملوك المملكة الجديدة في مصر..
يضعنا محفوظ في قلب الحوادث عند البداية المثيرة للخلاف بين ملك طيبة سكننرع تاو وملك الهكسوس [ملوك الرعاة او الرعاة الملوك] ابو فيس..الذي ارسل خيان كبير حجاب قصره برسالة الى سكننرع ملك طيبة تضمنت ثلاثة مطالب يترتب على ملك الجنوب المصري تنفيذها، ونلاحظ في حوار خيان مع احد المرافقين نزعة التعالي والرغبة في السيطرة على عاصمة الجنوب واذلال اهلها، ويبدو ان الرعاة كانوا عقدوا العزم على الهجوم العسكري على طبلة واحتلالها بكل الأحوال ..وكانت مطالب ابوفيس التي نقلها خيان مستغربا من وضع سكننرع لتاج الجنوب الأبيض تتمثل بثلاثة نقاط هي قتل افراس البحر المقدسة في بحيرات طيبة لأن خوارها حسب كلام خيان يزعج الملك ابوفيس ويقض عليه مظجعه، وان يشيد في طيبة معبدا لإله الشر ست الذي يعبد في افاريس الى جانب معبد آمون ثم ان يخلع سكننرع التاج الأبيض على انه حاكما تابعا لأبي فيس وليس ملكا..لأن مصر وفق كلام خيان يحكمها ملك واحد هو ابوفيس..
فجاء رد سكننرع بالرفض القاطع لأن المطالب تمس مقدسات طيبة وشرفها القومي والوطني فضلا عن نزقية دواعي الطلب الأول الذي يقضي بقتل افراس النهر المقدسة، فهل يعقل ان اصوات خوارها تصل دلتا مصر التي تبعد مئات الأميال عن طيبة! فكان الرفض الشرارة التي اشعلت نار الحرب بين طيبة والرعاة وهي حرب استغرقت ثلاثة أجيال من ملوك طيبة وملكاتها بدأت بحملة سكننرع الذي راح ضحية معركة كبتوس بالقرب من دير البلص شمالي طيبة فكاموس الذي قتل هو الآخر في معركة أمبوس في بداية معارك تحرير مصر..
وفي مقارنة تفاصيل الرواية بالمعطيات التاريخية والاركيولوجية لمصر القديمة نلاحظ أن الراوية أصاب في تفاصيل عديدة تخص اسماء الأماكن بين طيبة ونباتا في النوبة وبين طيبة وأفاريس في دلتا مصر. إلا انه لم يستخدم اسماءا مصرية قديمة تنسجم مع زمن الرواية في منتصف الألف الثاني ق.م. بل استخدم بدلا منها اسماءا يونانية فذكر ابولونوبوليس ماكنا بدلا من بحديت او إدفو الواقعة بين إسنا وأسوان، ولاتوبوليس بدلا من تاسينيت، وبانوبوليس بدلا من اخميم، وهيراكونبوليس بدلا من نخين..وجعل بطلمايس مجاورة لتنثيرا (إيونت) التي يقصد بها الدندرا (وإن تسقط بطلمايس فلتحارب كبتوس)..ومن البدهي ان بطولومايس تسمية لثلاث مدن بنوها بطالمة مصر و كانت احدها في اقليم طيبة .. إلا أن هذه المدينة تعزى من تسميتها الى البطالمة الذين حكموا مصر بعد الأسكندر، ويفصلهم عن عصر الأسرة السابعة عشرة أكثر من 1300 سنة..

لقد ابتكر نجيب محفوظ في كفاح طيبة عددا من الشخصيات الخيالية لتوصيل مفاصل الحبكة بعضها بالبعض الآخر ومن تلك الشخصيات إسفينيس (الشاب التاجر الذي انتحل شخصيته أحمس أبن سكننرع الأصغر، وإبانا أم أحمس زوجة القائد بيبي الذي قتل في معركة لاحقة لمعركة كبتوس (قفط)، ونجح في تصوير مشهد اعتداء القائد الهكسوسي على المرآة المصرية (إبانا) الذي يذكرنا باعتداء العسكري البريطاني على الفلاحة (أم صابر) التي قتلها الإنكليز في حادثة دنشواي...لكن ابتكاره لشخصية امنريدس الشقراء ابنة ابوفيس وجعله احمس يقع في حبها على الرغم من زواجه من شقيقته احمس نفرتاري على عادة الفراعنة قديما، اضفى بعدا رومانسيا للرواية يفتح بابا افتراضيا للمقارنة بين القلب والعقل، فكيف يوفق أحمس [متخذا شخصية التاجر الشاب إسفنيس] بين عشقه ابنة عدو رهيب احتل بلاده وقتل ابيه من جهة، وواجبه بتحرير البلاد والثأر لدم ابيه..إلا أن ذلك لم يحدث عند احمس اي صراع او صداع..والبيانات التاريخية تذكر ان لأبي فيس (ابوبيس) ابنة اسمها (حاريت) ولكن لاتوجد اية اشارة تاريخية على حضورها في سياق حياة احمس او تنقلاته النيلية في مضمار الجهود لتكوين جيش وبناء اسطول يحرر بهما طيبة ويدحر الهكسوس..وهي في الأحوال كلها كانت (في الرواية) تلتقي باسفنيس التاجر الذي انتحله احمس، قبل أن تعرف انه ملك طيبة وعدو الهكسوس الأول..
ويعد مشهد محكمة إبانا الذي حضره إسفينيس (أحمس) محوريا في دفع الحوادث في اتجاه خلق النواة الأولى لتأسيس قوة قتالية يتشكل حولها جيش التحرير الى جانب تقعيد المشاركة بين اسرة القائد السابق بيبي وأسرة كاموس واحمس على اساس اخلاقي متين يتجلى فيه المصري الأخلاقي أزاء الأجنبي عديم الأخلاق، ولم يفت نجيب محفوظ اختيار اسماء تليق بالهكسوس قباح الوجوه قذري اللحى، فالقائد المعتدي على ابانا اسمه رخ والشاهد المدافع عن الهكسوس خم، هنا يعلن الراوية عن صوته في خضم الحوادث فيقول (كأن اليأس من الإنصاف، أكسبها أمانا من الخوف)..وتزخر في الرواية الإشارات الى حوادث وظواهر تاريخية اثبتتها علوم الاثار..ففي اكثر من مكان في الرواية يشير الراوية الى سكننرع ببروز اسنانه العليا (يميز ملامحه بروز في اسنانه العليا)، مايؤكد مشاهدة محفوظ لمومياء سكننرع في المتحف المصري في القاهرة حيث تم نقلها من مغارة في الزاوية الغربية للجبل الذي يتصدره الدير البحري..وهي مومياء متفردة ببروز اسنان صاحبها الى جانب آثار الفؤوس القاسية التي نالت من الملك الذي سقط في معركة دموية ضد الهكسوس..كذلك الأمر في أحمس إبن إبانا (أحمس إبانا) الذي قاد اسطول طيبة في حربها مع الهكسوس حيث تم توثيق سيرته كاملة من جداريات قبره في مدينة نخيب [الكاب التي تقع جنوب طيبة بقرابة 50 كم]، ويذكر فيها تفاصيل عن مشاركة ابيه بابا (بيبي في الرواية) في الحرب مع سكننرع ضد الهكسوس وقيادته لأسطول طيبة ومشاركته بالحرب الى جانب كاموس ثم الى جانب أحمس في افاريس والنوبة وفلسطين (في مطاردة الهكسوس)..ما يدل على إطلاع نجيب محفوظ على هذه التفاصيل التاريخية الصحيحة قبل تضمينه لها في الرواية..الى ذلك تصويره الدقيق للعائلة الفرعونية توتيشيري أم سكننرع و أحوتبي زوجته (وشقيقته)، و أحمس نفرتاري زوجة أحمس (وشقيقته).. كما اشار في معرض الحديث عن توتيشيري الى وعي الأسرة التاريخي وأهتمامها بتوحيد مصر في حدود جغرافيتها التاريخية واعتبار ذلك بدهية في وعي الأقدمين فذكر الحكيم قاقمنا، وهو شخصية تاريخية كاكمني (الكاف الثانية اعجمية) كان وزيرا للملك تيتي في السرة السادسة وزوج اخت الملك تيتي وكان كاهنا وعرافا رئيسا في الدولة عثر على قبره مزين الجدران في السقارة..إلا أن الراوية، على الرغم من حرصه الشديد على تطابق المعلومات بين الرواية والتاريخ، عدّ أحمس (في روايته) ابنا لكاموس، على خلاف التاريخ وبيانات علوم الآثار التي أكدت ان أحمس وكاموس كانا شقيقين اباهما سكننرع تاو..



خاتمة:
في (كفاح طيبة) تتقابل مرآتين تعكس كلتيهما صورة الأخرى في وجدان الراوي..فمصر العظيمة محتلة في الزمنين زمن الرواية وزمن الراوي.. والراوي جزء لايتجزأ من هذين الزمنين فهو مصري معني بحرية مصر في زمنه وعصره على صعيد الواقع السياسي والإجتماعي كما كان المصري القديم معني بتحرير بلاده من ربقة الإحتلال الذي لم تتغير طبيعته في العصرين.. فالأهرامات لاتبعد سوى بضعة امتار عن بيته، ويكفي ان ياخذ مقعدا في قطار القاهرة المتجه الى الأقصر لمشاهدة أوابد طيبة.. فالتاريخ موجود في كل مكان ينظر اليه من حوله..لكن ذئبا في الخفاء يجوس ساعيا لإفتراس كل شيء..وسواء قدم المستعمر من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب بأي عصر، فإن هدفه واحد استغلال البلاد واستعباد اهلها، لذا كان لابد للراوي كمراقب مسؤول يرى الماضي والحاضر، ان يستلهم روح الثورة والتضحية اينما حلت واستلهامها في خلق ثورة جديدة..ولعل في مشاهدته لمومياء سكننرع تحمل آثار الفأس الهكسوسي مثارا لمشانق دنشواي ونكبة دمشق حافزا للتوغل في صفحات الماضي ولا استبعد انه زار الأقصر فعلا قبل او في اثناء كتابته للرواية، فقد جاء في وصف المدينة في مطلعها:
(فنظروا جميعا الى حيث يشير الرجل، فرأوا مدينة كبيرة يحيط بها سور عظيم، بدت خلفه رؤوس المسلات عالية كأنها عمد ترفع القبة السماوية. ورئيت في ناحيتها الشمالية جدران معبد آمون الشاهقة، رب الجنوب المعبود، فما وقعت العين فيها إلا على مارد عظيم يتعالى الى السماء)..
ونعرف ان الكرنك يقع شمال طيبة (الأقصر) فالراوي يرى الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي لأن الروح روح مصر ووحدتها شمالا وجنوبا من النوبة وحتى البحر الأبيض المتوسط لاتكتمل الا بطرد الدخلاء المستعمرين وعندما يموت بطل يولد بطل، وهكذا كان الحال في كفاح طيبة ونهضة مصر الحديثة التي يشكل الراوي لبنة ذهبية من لبناتها..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا