الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة... 5 من 8‏

عبداللطيف هسوف

2006 / 11 / 25
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لا يهم إن أصبح مصطلح (اقتصاد السوق) لا يستجيب للتعريف الذي نجده في أدبيات علم الاقتصاد‎!‎‏ لا يهم إن ‏أصبح الاقتصاد اليوم يخضع لإيديولوجية وحيدة لا تقبل أي سلطة مضادة وتتخفى وراء ما يسمى بالعولمة‏‎!‎‏ إنها ‏في الحقيقة وضعية غريبة‎!‎‏ ومع ذلك فإننا نعيش في ظل نظام ديمقراطي. وإن كانت هذه الديمقراطية مشوهة، إلا ‏أنها على الأقل موجودة. ومن دون أن يتغير أي شيء بهذا الخصوص: المناخ، البنيات والحريات الديمقراطية، ‏أخذت هذه الديكتاتورية الغريبة مكانها بين ظهرانينا، لدرجة أن أولوياتها أصبحت كما لو أنها قانونا منزها.‏
إنها ديكتاتورية من غير ديكتاتوريين‎!‎‏ إنها إيديولوجيا الربح التي فرضت نفسها دون أن تعلن عن أهداف معينة، ‏اللهم سيطرتها الجشعة على عالم المال. هذه الإيديولوجية لا تطمح إلى امتلاك السلطة، لكنها مع ذلك تسيطر على ‏كل ساسة العالم بالقضاء نهائيا على استقلالهم الذاتي. حقا إن هؤلاء الساسة يتخذون في الظاهر القرارات ويقومون ‏بالتسيير والتدبير، إلا أن ذلك يتم بتوجيه (إرهاب مالي) ينزع منهم أي حق في الحرية والاختيار. هكذا فإن الطبقة ‏السياسية تجد نفسها مختنقة تماما لا تقوى على اتخاذ أي قرار يعارض أصحاب المصالح المالية المسيطرين على ‏العالم.‏
ما العمل إذن؟ مع كل ما قلناه، يمكن للطبقة السياسية أن تلعب دورا مهما، شريطة أن يوجهها ويساندها الرأي ‏العام. نعم إن هناك وعي شعبي عالمي مضاد في غالبيته للفكر الليبرالي، إلا أنه لا يعي حتى اليوم مدى انتشاره. ‏هذا الوعي الذي بدأ يتشكل عالميا هو وحده القادر على مساعدة الطبقة السياسية النظيفة للعب الدور المنوط بها.‏
تسريح العمال، إعادة البناء، ترحيل الوحدات المصنعية، اندماج المقاولات، الخصخصة، المضاربة...إلخ، كلها ‏إجراءات مخلة بالشغل. لكن، ولأنها تخدم الربح، وتضخم المردودية والنمو، فهي تعد ضرورية لخلق مناصب ‏الشغل من جديد. هذا ما يدعيه الليبراليون. نقول بدورنا: ليس اختفاء مناصب الشغل هو الأخطر في هذه العملية، ‏بل ظروف العيش المهينة، الإقصاء والمعاملة السيئة التي يعامل بها الموقوفون عن الشغل، بالإضافة للرعب الذي ‏يتحكم في العدد الكبير من المهددين بفقد عملهم. هؤلاء جميعا يخضعون لمضايقات متواصلة.‏
ترديد شعار (الشغل حق مشروع للجميع) وهم ما بعده وهم. الدعاية تعطينا الحق فقط في اجترار مثل هذه ‏العبارات واعتبارها حقيقة مطلقة. إنها إيتوبيا يتضمنها إعلان حقوق الإنسان الذي تبنته الجمعية العامة للأمم ‏المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948 م، والذي ينص في فقرته 23 على ما يلي:‏
‏1- لكل فرد الحق في العمل، في الاختيار الحر للعمل، في الاستفادة من ظروف عادلة ومقنعة، في الحماية من ‏البطالة.‏
‏2-‏ الجميع لهم الحق، دون أي تمييز، في أجرة متكافئة مع قيمة العمل المؤدى.‏
‏3-‏ لكل الحق في أجرة عادلة تكفي لتغطية مصارفه ومصارف عائلته، وتكفي لحياة إنسانية كريمة وتكمل، ‏عند الضرورة، بوسائل حماية اجتماعية أخرى.‏
يظهر لنا إذن الإدعاء الذي تتضمنه هذه الفقرة.‏
‏ لقد تم تناسي الحق في العمل وإنكار كرامة الإنسان. هذه الكرامة التي لا يجب أن تسقط بالعمل أو بعدمه. فإذا ‏سلب من الأفراد منصب الشغل، وإذا انتزع منهم الحق في العمل، وإذا تقاعس المجتمع في توفير الظروف لذلك، ‏لماذا إذن نحاسبهم ونعتبرهم عالة يجب التخلص منها بأية طريقة.‏
ما هو الحل إذن؟ يجب اعتبار حالة الطوارئ القصوى ورصد الآليات اللازمة، لكن هذه المرة باستمرار حتى ‏تجتث هذه الوضعية الغير العادية من الجذور. إذا كانت هذه الحواجز موجودة في فرنسا (القوة الاقتصادية الرابعة ‏في العالم)، وفي الولايات المتحدة الأمريكية (القوة الاقتصادية الأولى)، فلأن شيئا ما غير طبيعي يسيطر على هذا ‏الكون. وللخروج من هذه الأزمة والحصول على مجتمع ملائم، يجب خلق نفقات قد تقلص الميزانيات الموجهة ‏بالأساس نحو الربح الخاص. إن الثروات حقا موجودة، ما ينقص هو العدل في مسألة توزيعها. وإذا تسبب ذلك ‏في قلب توازن الليبرالية المتوحشة (الموجة نحو أولويات أخرى، لا اجتماعية ولا إنسانية على كل حال)، فإنه ‏سيعمل على إقرار نوع من الاقتصاد الحقيقي. إنه مبتغى يمكن الوصول إليه بسهولة أكبر من التحايلات المنسوجة ‏حول المضاربات.‏
هذا، في الواقع، سيكون رد فعل لمواجهة التسلط الذي يمارسه نظام الليبرالية الفائقة على عالم يتقاضى فيه 1,3 ‏مليار شخص أجرا يوميا لا يتجاوز دولارا واحدا. هذا في البلدان الفقيرة، أما في البلدان الغنية فعدد الفقراء في ‏تزايد مذهل (ثمانية ملايين فقيرا في فرنسا)، في حين أن القيم في البورصة هي الوحيدة التي تعرف تزايدا فاجرا. ‏لا شيء يمكنه أن يبرر اغتناء أفراد يعدون على رؤوس الأصابع على حساب الفئات الشعبية العريضة.‏
لنعط أمثلة، على سبيل الذكر لا الحصر، عن هذا التوجه الذي تسلكه المقاولات اليوم، أي تسريح العمال ‏بالجملة.‏
‏- في 7 نونبر 1998 : طردت شركة سوجينال 250 عاملا من بين 1200 مأجورا.‏
‏- في 12 نونبر: طردت شركة كومنز وارتسيل 500 عاملا من بين 700 مأجورا.‏
‏- في 13 نونبر: سرح 3000 عاملا من شركة شال.‏
‏- في 21 نونبر: أغلقت شركة سييتا معملين وتحذف 500 منصب شغل.‏
‏- في 26 نونببر: تلاحمت طومسون وداسولت إليكترونيك ليتم طرد 1300 مأجورا.‏
‏- في 28 نونبر: مونبري في باريس يطرد 300 عاملا من بين 1200.‏
‏- في 30 نونبر: حذفت الروفر 2500 مأجورا.‏
‏- في الأول من دجنبر: تقلص بوينغ عدد عمالها بنسبة 5 في المائة ( 48000 منصب شغل يحذف ). تتلاحم ‏شركتي إكسون وموبيل ليتقلص عدد العمال بنسبة 7 في المائة ( حذف 9000 منصب شغل ).‏
‏- في 3 دجنبر: حذفت شركة باناسونيك 600 منصب شغل.‏
‏- في 5 دجنبر : يسرح 5800 عاملا من شركة جونسون أند جونسون...‏
‏- في 17 دجنبر: قلصت شركة مجموعة سيتي عدد عمالها بنسبة 5 في المائة (حذف 10400 منصب ‏شغل)...الخ.‏
أي دور تلعبه الدولة للحد من هذه الظاهرة الغريبة؟ تدعم الدولة الشركات التي تسرح العمال وتقدم لها العون ‏حتى يتوقفوا على ذلك. لكن من يؤدي الثمن؟ بالطبع المجتمع المدني. العمال يشتغلون ليؤدوا أجرة زملائهم. ‏وحتى بدعم الدولة تواصل الشركات طرد العمال عندما لا يتطابق الربح مع الحفاظ على مناصبهم.‏

‏------------------------‏
ملحق:‏
‏-------‏
فيفيان فورستير‎( VIVIANE FORRESTER )‎‏ روائية في الأصل، كاتبة وناقدة في صحيفة لوموند ‏الفرنسية وعضوة في لجنة تحكيم جائزة فيمينا ‏‎( Prix Fémina )‎‏. أصدرت عدة كتب أدبية منذ سنة 1970: (فان ‏غوغ أو الدفن في حقول القمح)، (عنف الصمت) ، (هذا المساء، بعد الحرب)، (عين الليل)، (أيادي)...إلخ. لكنها ‏قررت سنة 1996 مساءلة الأفكار الاقتصادية والتوجهات السياسية بكتابها الذي حاز شهرة واسعة : (الرعب ‏الاقتصادي). كتاب حصل في نفس السنة على جائزة ميديسيس ‏‎( Prix Médicis )‎‏ وترجم بعد ذلك إلى 24 لغة.‏‎ ‎في شهر فبراير سنة 2000، يصدر لفوريستر كتاب آخر ينتقد الليبرالية في شكلها المعاصر تحت عنوان: ‏‏(ديكتاتورية غريبة). ‏
تقول فوريستير: إننا نعيش اليوم تحت سيطرة ما يسمى بالعولمة ونرزح تحت ثقل نظام سياسي كوني وأحادي ‏التوجه. هذا النظام يتخفى تحت غطاء الليبرالية المتوحشة التي تتحكم في العولمة وتستغلها لصالح عدد محدود ‏وضد مصالح الفئات الشعبية الواسعة. تنتقد فوريستر في هذا الكتاب الفكرة القائلة بأن الاقتصاد يهيمن على ‏السياسة، و تبين أن هذه السياسة المهيمنة والأحادية التوجه تخرب اليوم الاقتصاد لصالح المضاربة، لصالح الربح ‏الذي أصبح متعارضا مع توفير الشغل، مع كل ما يتعلق بالمجال الاجتماعي (الصحة، التربية والتعليم... الخ)، بل ‏ضد كل ما يرتبط بالحضارة الإنسانية. ترد فيفيان فورستير على الدعاية الغربية التي تروج خطأ بأن البطالة تكاد ‏تنعدم في الولايات المتحدة الأمريكية فتقول : (نعم لقد تقلصت البطالة مقابل ارتفاع عدد الفقراء، حتى وإن كانوا ‏يتوفرون على شغل. إنهم في الحقيقة يمولون بطالتهم وفقرهم). إنها دعوة لمقاومة هذه الديكتاتورية الغريبة التي ‏تقصي عددا كبيرا من الاستفادة من التقدم الذي حققته الإنسانية. نعم يمكن مقاومتها لأنها تحافظ رغم ذلك على ‏تمظهراتها الديمقراطية: إنه في آن واحد الفخ والأمل المنشود.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبح -الحي الميت- السنوار يخيم على قراءة الإعلام الإسرائيلي ل


.. الحركة الطلابية في الجامعات : هل توجد أطراف توظف الاحتجاجات




.. جنود ماكرون أو طائرات ال F16 .. من يصل أولاً إلى أوكرانيا؟؟


.. القناة 12الإسرائيلية: إسرائيل استخدمت قطر لتعمّق الانقسام ال




.. التنين الصيني يفرد جناحيه بوجه أميركا.. وأوروبا تائهة! | #ال