الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اَلْگرَّابْ(4)

عبد الله خطوري

2024 / 1 / 20
الادب والفن


... جن الليل وعَــمَّ الظَّـــلَام ...
لليل وحشة ورهبة في حينا الصغير. الأزقة الضيقة المترعة بالأوساخِ والأزبال تغري المدمنين من السكارى والحشاشين بآرتيادها.عندما تغرب الشمس تنقطعُ الاتصالات بين الناس ويبدأ جو آخر في التنفس والانتعاش .. جَوُ مَنْ لا يليق لهم إلا الظلام لانتشال حرياتهم وإعطاء مساحة أكثر رحابة وآتساعا لنزواتهم وخيالاتهم الجامحة .. ورغْم ما كانت تبديه والدتي من تأنيب وتحذيرٍ صارمَيْن فإني كنتُ لا أتوانى على الطواف بقربتي مستغلا فراغ " السَّقَّايَة " لملء ما يكفي من المياه والاحتفاظ بها كي أتولى بيعها في النهار .. وقد يحصل أَنْ أنسى مهمتي وأنْخَرِطُ في حلقة من حلقات المقامرين الصغار .. فقد كانت الأَوْكَارُ وبعض الأقبية مَلاذا لكثير منَ المراهقين منْ أبناء الليل تلفظهم أقبيتهم التي لم تعد قادرة على استيعابهم مجتمعين، فيتكورون على بعضهم يتشممون ما يتشممون من المعاجين ومساحيق صيانة الحديد غير آبهين بصحة أو نفس أو هم يحزنون .. كانوا يثرثرون بين الجدران المتصدعة والمساكن المهدَّمَةِ .. في جماعات أو أفراد ينكبون على التعريض ببعضهم البعض أو يتخاصمون متبادلين السباب واللعنات والكلمات العارية الصاخبة وكانوا أكثر ما يتنازعون حول الغنائم التي يَظْفَرُونَ بها من بقايا عقائب السجائر وسوائل الكحول التي يخلفها وراءهم الغارقون في اللفافات المحشوة والقارورات ذوات الرائحة السمجة حين تداهمهم شرطة دوريات الليل ...
في تلك الليلَةِ، تأخرتُ في العودة الى المنزل .. القربة في يدي، كنت قد أتممتُ مهمتي .. رأيت حلقة منهمكة في لَفِّ لفافات " جوانات " بين أصابعهم الداكنة .. آخرون كانوا يغنون .. أجَلْتُ نظري فيهم .. شعور شعثاء متهدلة على وجوه صفراء غبراء شاحبة .. ملابس ممزقة .. صدور عارية .. جباه متغضنة .. في عيونهم خوف .. تعبير آدمي قلق .. في أعماق الليل كانت تتصاعد في صمت نداءات هؤلاء الأطفال الأشقياء الذين يُقْذَفُونَ في بالوعات سِيخَ بهم تحت الأرضين كجردان ميتة .. تَصَورتُهم يبكون داخل دار خراب في مكان موحش والضفادع تنق حولهم .. كانت الأصوَاتُ الصَّغِيرةُ تَهْتِفُ تَسْتَغيثُ .. لا مُجِيبَ .. لا ندري أية ريح حملت إلينا هذا السخط .. قَرَّحَ المَشْيُ أقدامَهُم .. وقفوا يستريحُون تحت ظل شجَرة كبيرة يتملون من حُسْنِ جَمَالِ المكان .. لم يعبؤوا بما هم فيه إلا ويَدٌ خفية تطوقهم من وراء بكل فجاجة وصوت أجش يصرخ ..

_ " شَبَّارتْكُم يا أولاد الحرام " ..

تَحَفَّزُوا لِلْفِرَار، لكنَّ السَّمْطَةَ و " البْرُوتْكَال" الجلدي لم يترك لهم مجالا لذلك ...

_لا شيء البتة على ما يرام

_كل شيء فينا قميئ

_حتى أمام الأشجار لا تجد الا الحجارة تُـكَوِّر الحجارةَ والخنافيس تلعب ببعر بني آدم ...

... كانوا يتهامسـون ...

الذبابُ يَضِجُّ في الافُقِ .. طيُورُ الليل تفقَأُ العُيُونَ .. مُطَوَّقين كانوا .. ينهشون النفايات من مزابل المترفينَ الذَّفِرَةِ التي يرْتَعُ صنَانها في مُقَلِهِم الحسيرةِ مخلِّفا أدْرانا يقتاتونها مع خبزِهم اليومي اليابس ... ضحك أحدهم ثم صرخ بكل قواه صادحا ..

_أَعامَكْ أَعَـامْ الجوع
آعَـامَكْ آمَريكــانْ
هذا خبزك وَلَّــى قطرانْ ...

مجموع صرخات فقدتْ صَدَاها في عالم أصم لا يسمع إلا لرنين الدراهم تظهر صَلَفَها القطرانِي القَذِعَ .. كل شيء يذهب إلى هناك .. عندهم .. لبنات وأبناء آوى الراقدات والراقدين في رحاب رغد النعيم ... كانت أصواتهم المتشنِّجَةُ تستفزني .. صرختُ مُسْـتَـفْسِرا ...

_ماذا تريدون مني ؟

_اضربْ رأسَــك مْعَ الْحِـيـط ..

_أنــا عْيِِييِيييييتْ

_ بالزَّعْـــطْ

.. يُوقِدُونَ نارا في كَومةٍ حطب ويضحكونَ ..

صرخـــتُ :

_ تبا لكم ..!!..

انْتَابَتْنِي غشاوة .. أَفَقْتُ على أعين اشْـرأَبَّتْ بفضُولٍ متهيِّب .. الحلقة مجتمعَة دائِما .. خَاطَبَنِي أحَدُهُم :

_وَاشْ مْعَــانَـا كَـتَهْـدَرْ آلخَاوَااا ؟؟

_لا .. لا لستُ أقصدكم .. معذرة .. كنتُ أحلُمُ ..

_تفضل معنا واحلم معنا بخاطرك .. ألا يمكنك الجلوس ؟؟

نهضُوا جميعا مُرَحِّبِينَ بِي يصخبُون يَجأَرون ثم شرعنا نُدَخِّنُ أعقاب السجائِر المحشوة بمجاهيل النفايات الملفوفة بعناية كُبْرى .. رميتُ قربتي جانبا وجلست القرفصاء أفعل ما يفعلون .. كانوا يتفحصوننِي .. قال أحدهم يغالب دوخته برائحةِ الصِّيلِصْـيُونْ النفاذة ...

_أنتَ .. أعرفكَ معرفتي لما في جيبي

أجابه آخر :

_ وما في جيبكَ ؟؟

_لا شـــــيء ...

_إذن أنت ما كَتَعْرَفْ حتى زفتة فكيف تَدَّعِي أنك تعرفه ؟؟

... وقهقهُـوا جميعا في صخب ....

خَاطَبنِي طفل صغير ذو وجنتين مجوفتين ..

_ما اسمكَ أيها الكتكوت؟؟

_اسمي كتكوت ما دُمْتَ ناديتني بذلكَ..

.. و ضحكْـنـا جميعـا مرة أخرى وأخرى ..

كان جوا مفعما بالغثيان والحلم والهَدَرِ وخيالات الأوهام .. ذو الوجنتين المجوفتين أَسْنَدَ رأسَه الى حافة صخرة. ينظر الى أصابعه .. يرضع إبهامَه بنهم وانتشاء طفوليَيْنِ غَرِيبَيْن يبكِي .. آخر يقلب قربتي المائية يشم رائحة الدباغ المختلطة بالقطران .. نَزَعَ كبيرُهم "شَاشِيَتَهُ " الصوفية .. مسح العرقَ عن جبينه المجدور فرك عينيه .. ناول عقب سجارة مضغوط الى رفيق بجانبه ثم قال ..

_أُحِسُّ أني أركب العالم كما لوكان حمارا صغيرا ...

_لكن الحمير تَـحْـرُنُ يا أخي واني أخاف ركوبها ...

_لا حُرُونَ لا هم يحزنون .. أنتَ فقط تخاف من خيالك ..

_يُتْبَعُ ...
☆إشارات :
_زمن الأحداث سبعينيات القرن الماضي
_السَّقَّايَة : حنفية عامة يتزود منها سكان الحي ما يستهلكونه من أمواه
_جوانات : سجائر رخيصة مبرومة في رذيء الحشيش
_شَبَّارتْكُم يا أولاد الحرام : أمسكتُ بكم يا أبناء الحرام
_البروتكال : حذاء جلدي سميك عسكري
_السمطا : الحزام الجلدي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??