الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة-عجولة-في قصيدة (أمّاه..يا مهجة الروح..ونرجس القلب) للشاعرة التونسية القديرة أ-نعيمة المديوني (التكثيف اللغوي..والتصويري)

محمد المحسن
كاتب

2024 / 1 / 22
الادب والفن


“أمّي يا نبع الحنان،يا صوت الآذان،يا ضوءاً يسرقني من بين الأصحاب،من بين أضواء المدائن،من مطارات العواصم،مُردِّداً لحن الحنين وأغنية العودة” (محمد درويش)

كثيرة هي القصائد التي كتبت تتغنى بالأم،نصادفها في مناهجنا التعليمية،ونحفظها ونرددها، ونكبر لنقرأ قصائد من كل العصور محورها الأم.
أفليست العلاقة بين الأم والبنت أشد العلاقات الحميمية على وجه الأرض؟
اتخذ الشعراء من (الأم) رمزا للعطاء والوطن البعيد،وتجسدت فضائلها في قصائد ذاتية،وأخرى ذات صبغة إجتماعية وسياسية.وبلغت ذروتها في استلهام شخصيات أسطورية،واستحضار لسيرة الأمهات الخالدات في التاريخ العربي.وضم ديوان العرب قصائد (الأم) لكبار الشعراء الكلاسيكيين والرومانسيين.وتباينت صورتها بين المباشرة والترميز،وصارت نهرا للمشاعر الفياضة،ومثالا للفضيلة والعطاء.
في مشهد للإيحاء الإنساني فيه جمالية تنعش الروح وفيه التوق والحرارة والتوهج.
في ذات التقسيم تبدأ الشاعرة التونسية القديرة أ-نعيمة المديوني قصيدتها (أمّاه..يا مهجة الروح..ونرجس القلب) بفعل الأمر (خبئيني) فتسطو على القارئ مقربة إياه من خطابها بأسلوب ديناميكي يستجيب القارئ لطرب الأنا منتظرا لحظة إنهمار الوَجد.
ولكن الكلمات مهما توشحت وتطرزت بحلل الإبداع تستطيع أن تواري أو أن تخفى ذاك الأريج الذي يضم إليه بنتا لا تجد الأمان والحرية إلا في قلب تلك الأم.
يتنوع الخطاب بين سردية في البداية،لتنقل أحداث الشاعرة وما بروحها من مواجع (خبئيني يا أمي عن عيون الأسى/تتربّص بي /توقعني في جترار الشّجن)،وإنشائية عبرت عن انفعالها وغضبها،وثورتها (خبئيني يا أمي عن زمن رفع شعار الرّياء/بايع الجدب وأدار ظهره لسيول المطر/هذه الحقول من حولي حبلى بآلدّرر/مُدّت لها الأيادي كالجراد..كالتّيتار..كألسنة اللّهب) ، وهذا يعبر عن الخط الانفعالي لوجدان الشاعرة بين صعود وهبوط،يزيد التوتر بدراما فاعلة ضمن النص الواحد.
نستطيع أن نلاحظ أيضاً تراسلاً في الحواس،إذ إن استخدام هذه العلاقات بتبادل جديد،يخلق حيوية في النص،تلغي تراتبيته وجاهزيته،ليصبح بما فيه من تكثيف لغوي وتصويري وبنيوي، شعراً خلاقا:(إذا جنّ اللّيل وألقى جناحيه يستظلّ)( لا زال صوت أزيز الموت يترصّدني)
كما يبتعد النص عن الكتابة المعتادة والمكرورة ويقوم على التكثيف اللغوي والتصويري الذي يمنحه احتقاناً شعرياً..
وهنا أتساءل : أليست الأم..ذاكرة الحنين والعطاء بلا ضفاف..والواحة الفيحاء في تضاريس الشعر العربي؟
أترك الشاعرة التونسية أ-نعيمة المديوني تجيب من خلال رائعتها الشعرية التالية :

أمّاه..يا مهجة الروح..ونرجس القلب

خبّئيني يا أمّي بين طيّات الأمل
أهيم فيها كسرب حمام طليقة
أسافر عبر الغيمات
أنسى السّأم
تشرق الشّمس.. ينفجر الحبّ
يُصاب الكون بعدوى الفرح
يخلو من الدّمع..من الأنين
تتراقص أوتاره على نغم الرّبابة
خبّئيني يا أمي في جنان القدر
يهبني بعض الأمان..تكون خير مرهم للعلل
عساني يا أمّي أصير نورا يتوغّل في القلوب..فتبتسم
تحنّ من جديد للسّمر
فقلب وحيد يلتهمه العدم
ينهش أوتاره قبل موعد السّهر
خبئيني يا أمي عن عيون الأسى
تتربّص بي
توقعني في آجترار الشّجن
تأبى فراقي
أفرّ منها إلى حضنك العطر
أشقّ جراب المستحيل
أهدأ ولو لحين
أنعم بسحر الحياة وأنسى خيبة الأماني
تنفجر السّواقي لينفطر من كفّها النّعيم
خبّئيني يا أمّي عن عيون آختفت خلف ستائر من خشب
تصيبني بالوخز..بالإبر
هذه الأرزاء أرهقت المُقل
سرقت منها النوّم وألبستها همّا وغمّا
إذا كلّت الرّوح التهمت الجسد
وهذا الفؤاد ما قنط من الحبّ والسّهر
لا يزال يحلم بنور يسقيه شهد الأمل
خبئيني يا أمي عن زمن رفع شعار الرّياء
بايع الجدب وأدار ظهره لسيول المطر
هذه الحقول من حولي حبلى بآلدّرر
مُدّت لها الأيادي كالجراد..كالتّيتار..كألسنة اللّهب
نهبت أحلامها
أدمعت مآقيها
سحبت من تحتها بساط التّقوى
خبّئيني يا أمي بين مزارع العنب
علّ الفؤاد ينسى لوعة الفقد
ينسى أنّه دونك كأوراق الشّجر
إذا هبّت الرّياح وعبثت بالكلّ
أضحت دون وطن
دون قلب أمّ رؤوم
دون رجفة تتبعها سيول القبل
إذا جنّ اللّيل وألقى جناحيه يستظلّ
خبئيني يا أمي عن المواجع
لا شيء بعدك يرويني
لا شيء يحميني
لا زال صوت أزيز الموت يترصّدني
يسخر من سذاجتي
يُبكيني
يولول كليل مطير
وأنا المسافرة بين الوجوه أبحث لي عن وجه أليف يمحو الدّمع أنّا حلّ
يجترّ ألمي
فلا أجد غير البعد يدثّرني
وغير نورك يأويني
فأنت يا أمّي في الغياب كما في الحضور
نهر خصيب
يد تمتدّ بالعنبر والفلّ
وإن أحاط بي الكلّ فلا شيء يغنيني عنك مهما طال الزّمان
(نعيمة المديوني)
للشاعرة الفذة أ-نعيمة المديوني قدرة على استبطان اللغة وتشكيلها بحيث تعطي أقصى طاقتها في الدلالة على ماتريده وكأنما قد ألينت لها العربية..واللغة ليست صماء بكماء إلا حال استخدامها من قبل أصم أبكم أعمى فساعتها تجدها جامدة ..
وتظهر اللغة أسرارها حال الاجتماع والبناء إذ اللفظ في ذاته مجرد أداة ولا يظهر مكنونه ومعناه بغير اجتماع لذا كان اللفظ في مبني بحيث يكون لبنة من لبنات هذا البناء غيره في معجم..
وإذ تعكس صورة الأم في الآداب العالمية واقع مجتمعاتها،فإن صورة الأم في الأدب العربي حملت مشاعر وقيما إنسانية مضاعفة،وشكلت رمزية مفعمة بالحنين والنقاء والقداسة،كما قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي "الأمُ تلثم طفلها وتضمه..حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس".
لا بد للشاعرة التونسية القديرة أ-نعيمة المديوني وقد تفجَّرت قَرِيحتُها،وانبرَت إلى صوغ المعاني الإنسانية الجميلة وتصويرها في قوالب شعرية منظومة،لا بد أن تجعَلَ لمحيطها العائلي الخاص حيزا مهما ضمن ما تبدِعه من أشعار ومقطوعات،ولابد-أيضا-أن تذْكُرَ أمَّها ووالدتها التي كانت سببَ وجودها،وعلِّةَ نُموِّها إلى أن تبرعمت واشتدَّ عودها،واستقامت إنسانًا كاملاً، وذلك عندما حضَنَتْها،وخافت من أجلها،وأرضعتْها من ثديها-لبَنا طازجا-يترجم أُولَى معاني الحياة.(وأنا المسافرة بين الوجوه أبحث لي عن وجه أليف يمحو الدّمع أنّا حلّ/يجترّ ألمي
فلا أجد غير البعد يدثّرني/وغير نورك يأويني/فأنت يا أمّي في الغياب كما في الحضور
نهر خصيب /يد تمتدّ بالعنبر والفلّ/وإن أحاط بي الكلّ فلا شيء يغنيني عنك مهما طال الزّمان)
وخلاصة القول : (أمّاه...يا مهجة الروح..ونرجس القلب) هي قصيدة وجدانية في المقام الأول مطرزة بالتكثيف اللغوي،وموشحة بالإبداع التصويري تخفي بين جنباتها ذخيرة فنية غائرة تجسد تموقعات الأم ببهائها في أغوار الروح،وفي جوانية النفس،بل أدعي أنها-أي القصيدة -كافية للولوج بكاتبتها إلى مدارات الفن العليا رافعة الرأس على أن للقصيدة مدارات أخرى لم أتناول منها شيئا إذ لكل مقام مقال وأنا في مقام الإشارة لجودة نص وتفرد ناصة في دنيا القصيد.
وهنا أختم :
للأم مكانة خاصة لا يمكن أن تعوّض بغيرها في نَفَس الإنسان، فهي الحضن الدافئ والملاذ الآمن له صغيراً، والجذر والمعنى له كبيراً، فهي منبع العطاء المتدفّق بالحنان الذي يرتشف منه أبناؤها أصفى وأنبل وأرق وأصدق المشاعر،وقد أجمعت كل الديانات والحضارات على تقديس الأُم وإجلالها وعَدِّها رمزاً للخصوبة والانجاب ومنبعاً للخير والبركة، فالأم في اللغة تعني الأصل والأساس والجذر والمنبع والمنبت والمنشأ، وقد أطلق القدماء على الأرض التي ينبثق من ترابها كل الخير اسم الأم فقال الشاعر:
أُمُّنا الأرضُ من ثراها خُلقنا *** وإليها بعد المَمَاتِ نعودُ
وتظل في الأخير مكانة الأم حاضرة في ذاكرة الشعراء (قصيدة أ-نعيمة المديوني-أمّاه..يا مهجة الروح..ونرجس القلب-نموذجا) والملاذ الآمن لأرواح مجهدة،وطاقة شعورية ملهمة للإبداع،والتحليق نحو آفاق التجريب والمغامرة الشعرية،وثراء الكتابة عن وشائج الحب والحنين الدائم إلى آسمى الكائنات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟