الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكانة المرأة الريفيّة و دورها في ثورة التحرير الجزائريّة

علي فضيل العربي

2024 / 3 / 4
ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي 2024 - أوضاع المرأة في الحروب والصراعات وكيفية حمايتها، والتحديات التي تواجهها


صدرت رواية زواج بالجبل ، للأستاذ محمد عياشين سنة 2022 م ، في طبعتها الأولى عن دار حمدة للنشر و التوزيع ببوقادير ، ولاية الشلف الجزائريّة .
تدور أحداث رواية " زواج بالجبل " للروائي و السيناريست محمد عياشين في مناطق الريف الونشريسي و جباله الممتدة من البليدة و مليانة إلى تسيمسيلت و الظهرة ، أما حيّزها الزماني ، فقد استغرق فترة الثورة التحريرية و ما بعد الاستقلال و الحرية و محنة العشريّة السوداء .
استمدّ الروائي و السيناريست محمد عياشين أحداثها ، كما صرح في ديباجتها من الواقع المرّ الذي عاشته منطقته ( سهل الأصنام ( الشلف ) أثناء الثورة التحريرية ، فهي رواية قال عنها صاحبها في مقدّمة لها : " رواية زواج بالجبل قصة في مجملها واقعية ، جرت بين أحضان الونشريس و الأصنام ( الشلف حاليا ) و البليدة و إن تغيّرت فيها بعض الأسماء أو بعض الأماكن . فهي جزء من معاناة الشعب الجزائري إبّان الاستعمار الفرنسي فإلى بعد الاستقلال ثم العشريّة السوداء ، حتى يدرك أخي الطالب (ة ) معنى الاستعمار و مخلّفاته " ص 3 . فجاءت روايته مرآة عاكسة ، بصدق ، لبيئته الطبيعيّة و الاجتماعية آنذاك . و هي بيئة سيطر فيها المحتلون الفرنسيّون و أذنابهم من الحركى على الساكنة الريفيّة ، و أذاقوها مرارة البؤس و الحرمان و الجوع و الأمراض القاتلة و الفتّاكة .
و لأنّ العنوان هو عتبة النص ، و مفتاحه ، فقد اختار الكاتب عنوان " زواج بالجبل " ، للدلالة على تمازج الثورة بالحب . و بين الثورة و الحبّ ، تكامل و تماثل ، فإنّ الثورة هي عشق للحريّة توق و محبة لها . أما الحبّ ، فهو كيمياء كل حركة ثوريّة نبيلة ، زادها التضحيّة ، و غايتها العيش الكريم في كنف العزّة و السؤدد .
لقد كانت خاتمة الرواية ، صورة مشبعة بالتفاؤل ، رامزة و موحيّة لجزائر النور و الحب و التغيير ، و التي افتكت حريّتها و استرجعت استقلالها و هويّتها بأزيز الرصاص و القصاص ، و شلالات من الدماء التي ارتوى بها قلب الثرى .
صورة المرأة الريفيّة في الرواية : عكست أحداث الرواية دور المرأة الريفيّة البطلة في دحر الغازي الفرنسي ، و تحقيق النصر و الحريّة . فها هي الشخصيات النسائية ( خيرة المرشوقية ، فاطمة المكرازية ، مريم الدرقاوية ، الطبيبة بختة ، ( بختوتة المليانية ) ، يمثلن قلب الثورة و يؤدين دورهنّ في المقاومة و الجهاد بمختلف الوسائل .
لقد كان الريف الجزائري ملجأ للثوار و المجاهدين ، و كانت مظاهر الطبيعة ؛ من جبال و فجاج و وديان و شعاب الحصن الحصين لهم . و كانت الجبال ، بالخصوص ، معقلا للمجاهدين ، وقتهم من بطش الغزاة ، و من قنابل طائراته ( الصفراء ) و قذائف مدافعه الغادرة . و قامت المرأة الريفية الفحلة بدورها في استمرار الثورة إلى غاية تحقيق النصر المبين . كانت تحيك و تخيط للمجاهدين قشاشيبهم و رايات الوطن ، تطحن و تخبز و تطعم المجاهدين و تخفيهم في مخابيء سريّة ، و توصل لهم مؤونة الغذاء و السلاح .

المرأة في رواية زواج بالجبل لمحمد عياشين زوجة و أم و فلاحة و زند معين لزوجها و عين حارسة و مجاهدة و مقاومة للمحتل الفرنسي الغازي . تؤدي دورا أكثر من الرجل ، بل إنّ ما تقوم به من أشغال ، لا يجعلها في مرتبة نصف المجتمع ، بل أكثر . لقد تجاوزت النظرة التقليدية للمرأة ، و أنجزت ما عجز عنه الرجل . لم تعد آلة نسل وعجن و طبخ و كنس فقط .
جاء على لسان الروائي في وصف خيرة المرشوقية : " حان وقت الحلول . خيرة المرشوقية لا يمكن لها أن تترك أرضها بورا ، قد تعودت على حرث و حصاد قطعتين منفصلتين بسفح جبل الونشريس لزرعهما شعيرا تقتات منهما و علف الحمار و المعزة " ص 30
و هاهي المرأة الجزائرية الريفية تكتب بأناملها و إرادتها و إيمانها و وطنيتها و دهائها ملحمة النصر و الحرية ، و تساهم في دحر المحتل الفرنسي .
" قدور لطرش يحفر كازمة بمعية زوجته فاطمة المكرازية ، و جدتي مريم الدرقاوية تحرس ساحة البيت و طرقها من هضبة سيدي عبد الرحمان . فاطمة المكرازية أعدت سعفة قديمة مملوءة بزبل البقر وضعتها بجانب الدار . السعفة الثانية تراب نقي ينثرانه على حقل زرع مجاور للبيت . تبادل بين الزوجين في غدو و رواح تحت حراسة مشدّدة ، ثلاثة أسابيع و الحذر مطلوب لدى العائلة إلى أن انتهت الأشغال به .." ص 28 .
إنّ ما قامت به فاطمة المكرازية و خيرة المرشوقية و مريم الدرقاوية لدليل على القوة الفلاذية للمرأة الجزائرية ، في زمن المحن و المصائب و الجوائح . لقد وقفت إلى جانب أخيها الرجل في قلب معركة التحرير . و بفضلها تحقّق النصر .
" أمّا فاطمة المكرازية ، كانت هي الأخرى داهية و كثيرة الحيل في هذا المقام ، أغلقت فوهة مدخل الكازمة بلوحة خشنة ، و أفرشت حصيرا باليا عليها ، و وضعت فوقه صندوقا خشبيّا مفلس القفل ، بداخله برنوس زوجها و جبة نساء قديمة و فولارة ( خمار ) و قنينة عطر فارغة و حبيبات من الكافور ، غطت الصندوق بعطاء قديم ، عليه بول أولادها ، كل أسبوع تذري عليها قليلا من الفلفل الأسود و الأحمر مسحوقين خوفا من الكلاب المدربة للجيش الفرنسي على شمّ رائحة الفلاقة " ص 29 .
يصف لنا الروائي جانبا من شجاعة خيرة المرشوقية و تحديها للمحتل الفرنسي و اعتزازها بهويتها : " نعم أنا خيرة المرشوقية بنت أحمد بم محمد من أشراف الجزائر حسبا و نسبا .. " ص 45 .
أجل ، هي نسخة من بطلات الجزائر أثناء المقاومة الشعبية الباسلة و سليلتهن ، لالة فاطمة نسومر . و غيرها من البطلات المجهولات و المنسيات في مسيرة المقاومة الشعبيّة الباسلة .
تقول خيرة المرشوقية متحسرة " صرنا تحت حكم الرعاة ، البارحة متسوّلون و اليوم في الحرير يتنعّمون " ص 45 .
و رغم أشكال القهر و الأميّة و الاستعباد التي مارسها المحتل الفرنسي على الشعب الجزائري ، و حصاره الشديد للريف أثناء الثورة التحريرية ، فقد استطاعت المرأة الريفيّة المقاومة أن تؤدي دورا بطوليا ، عجز عنه بعض الرجال . فكانت خير معين للرجل في السلم و الحرب .
و ما قامت به بختوتة المليانية ، القادمة من مدينة ( مليانة ) العريقة ، دليل على تلاحم المجتمع الجزائري ، بريفه و حضره . فكان عهل الريف خدم لأهل الحضر ، و العكس . كما قال الأمير عبد القادر : الناس للناس من بدو و حضر .. بعضهم لبعضهم خدم و إن لم يدروا .
لم يعتمد الروائي محمد عياشين في مجرى أحداث روايته على فرديّة البطل ، و إن كانت شخصية خيرة المرشوقية هي الطاغية على الأحداث ، و تقمّصت دور البطولة . لكن شخصيات النساء الأخريات ( فاطمة المكرازية ، الممرضة بختة المليانية ، مريم الدرقاوية ..) ، و إن كانت شخصيات ثانوية ، لكنها حاسمة في أدوارها .
الحوار في الرواية : إذا كان عنصر السرد في الرواية هو أساسها و الحامل لأحداثها ، فإنّ عنصر الحوار يمنح الرواية زخما من التفاعلات تعمّق الصراع الدرامي بين الشخصيات ن و تبرز ملامح الشخصيات و مشاعرها و توجّهاتها الإيديولوجيّة ، بل و تجسّد السلوكات اللاشعوريّة إلى العلن بوساطة الإسقاط أو الفلتات اللسانية . إنّ ما يعطي للرواية حيويتها الفنيّة و عبقريّتها التميّز ، هو نمط الحوار المنسجم مع روح البيئة ( الزمان و المكان ) . و هذا ما نلمسه في رواية ( زواج بالجبل ) للروائي و السيناريست محمد عياشين . فقد كان الحوار بين شخصيات روايته مفعما بالحيوية ، و معبّرا عن الجوانب السيكولوجيّة لكل شخصيّة . و لنتأمّل هذا المقطع من الحوار الذي دار بين الحركي و خيرة المرشوقية ص 40 / 41 :
- ( خيرة المرشوقية ) : يا أعداء الله سرقتم قشّابة سيدكم ، الدار قلّبتم عاليها عن سافلها .
- ( الحركي ) : امشي معنا يا خبيثة ، توكلي ( تطعمين ) الفلاّقة ؟
- ( خيرة المرشوقية ) : ابعد وجهك يا جرو فرنسا .
- ( الحركي ) : عشر خبزات في فوطة تحت الجفنة قرب الكانون ، هي لأمّك يا ستّوتة ( شيطانة ) .
- ( خيرة المرشوقية ) : تلك وعدة ( صدقة ) نخرجوها أول سكّة حرث ( بداية الحرث )
- ( الحركي ) : تأكلها الذئاب ، تعيشين مع ولد واحد وسط الغابة ، و تقولين السكة الأولى . أين روينة صالح ميمون ؟ أو نسيت عادات جدودك ؟
- ( خيرة المرشوقية ) : لا يوجد لي قمح لأصنعها .
- ( الحركي ) : امشي قدّامي يا جرثومة .
يجسّد هذا الحوار الواقعي جدّا ، صورة واضحة لمعاناة المرأة الريفيّة أثناء الثورة التحريرية من ظلم الحركى ( الخونة ) ، و جبروت المحتل الغاصب الذي سلّط عليها القهر و الفقر و العوز و الحرمان ، و جرّدها من إنسانيتها ، فهي في نظره جرثومة و شيطانة . و لكن رغم كلّ ذلك القهر الجسدي و النفسي ، لم تتأخر عن دورها في إطعام المجاهدين ، رغم الخصاصة . فكانت تؤثر على نفسها و أبنائها ، و تطعم المجاهدين من أجل استرجاع الحريّة و الاستقلال ، و لم تثنها أساليب القهر الاستعماري عن دورها الجهادي .
لقد جابهت المرأة الجزائرية مختلف أساليب البربريّة الفرنسيّة الصليبية . معنوية ، من خلال نعتها بألفاظ بذيئة و مشينة ( ستّوتة { شيطانة } ، جرثومة ، خبيثة ، ذئبة ) و سياسة التجهيل ، و ماديّة ( الجوع و البرد و الأمراض الفتاكة ، و السكن البدائي و نزع الأراضي الخصبة ، و الحصار في المحتشدات الشائكة بغرض عزلها عن المجاهدين ) . كما جاء على لسان الجدة مريم الدرقاوية ، و هي تواجه العسكري الفرنسي : " لم يبق فينا إلا هذا الثوب الممزق الذي يسترنا ، جوّعتمونا ن شردتمونا ، قتلتم رجالنا و نساءنا " ص 55 .
لكنّها لم تستسلم أمام الطاغوت الفرنسي الاستعماري و أعوانه من الحركى ، جراء فرنسا ( ابعد وجهك يا جرو فرنسا . ) .
و في المقطع التالي يرسم لنا الروائي محمد عياشين صورة أخرى لبسالة المرأة الريفيّة و شجاعتها و روحها المقاومة . من خلال شخصية الجدّة مريم و خيرة المرشوقية : " جدتي مريم تحرس البيت ، رشاقة خيرة المرشوقيّة أسرع بكثير من قدور لطرش ، اعتمادها على النفس ، علّمها الحرث و المنجل و الفأس و الشاقور ، إضافة إلى أشغال البيت ، استخرجتا القمح من المطمورة ، فغسلاه و جفّفاه على طاجين ، تحته نار دافئة فإلى الرحى . لم تمض ساعة و نصف حتى كان الدقيق جاهزا ، وضعاه في كيس و أخفياه في ضروة غير بعيدة من البيت " ص 55 .
امتاز الحوار في رواية " زواج بالجبل " للروائي محمد عياشين ، بالإيجاز اللفظي المفضي إلى الغرض في مواضع عديدة ، و قد مزج فيه الروائي بين اللغة المحليّة المحكيّة ( الحكي الشعبي المحلي ) ، و هي اللغة اليوميّة لساكنة الرقعة الجغرافيّة التي داوت فيها أحداث الرواية ( من المتيجة إلى جبال الظهرة و الونشريس ) . و ما ميّز هذه اللغة الحواريّة ، هو بساطتها و سلاستها و عمقها التعبيري و أدائها المباشر و انسجامها مع الجوّ النفسي لشخصيات الرواية . و هي لغة مباشرة و سليلة بيئة أحداث الرواية و أقرب إلى فنّ السيناريو السينمائي و المسرحي .
سيميّائية الشخصيات النسائيّة :
أبرز شخصيات رواية " زواج بالجبل " للروائي محمد عياشين ، شخصيّة ، خيرة المرشوقيّة ، و هي الشخصيّة الرئيسة ( البطلة ) في الرواية . و عندما نتفحّص ملامح هذه الشخصيّة النسائيّة ، من جوانبها النفسيّة و البدنيّة و العقليّة ، نخلص إلى صورة امرأة ثوريّة و مجاهدة و قويّة و ومؤمنة بقضيّتها التحرّريّة و شجاعة و حكيمة و صامدة و متحدّية ، لم ترهبها آلة القمع الفرنسي ، رغم فظاعتها و بشاعتها . فقد جمعت خيرة المرشوقيّة بين قوة الإيمان بقضيّة وطنها المحتل و حبّ التضحية بالنفس و النفيس . و تيقنت أن الجهاد لنيل الحريّة و الكرامة و الاستقلال لا تعني الرجل دون المرأة ، بل هي مسؤولية مشتركة . إنّ خيرة المرشوقيّة امرأة تامة العقل و الدين . امرأة في خلقها البيولوجي ، لكنّها تحمل كل معاني الرجولة الحقّة ، لا تنطبق عليها مقولة " النساء ناقصات عقل و دين " . فهي خير ، ألف مرّة ، من ذلك الحركي ، و من الذكور المتقاعسين ، و الواقفين على الحياد دون انتماء ." ما رفعت رأسها في عين رجل سوى زوجها . امرأة متوسطة العود .. " ص 43 .
تقول نفسها بنبرة افتخار و اعتزاز و هي تواجه الباحث العسكري عندما يسألها : " أنت خيرة المرشوقيّة ؟ " ص 44 .
" نعم ، أنا خيرة المرشوقية بنت أحمد بن محمد من أشراف الجزائر حسبا و نسبا ... " ص 45 .

" تركت خيرة المرشوقية رضيعها أمام الكانون ، و هبّت تركض في اتجاه جبل الموت . هكذا يسمّى ، لأنّه حصد الكثير بسبب صيد النحل و الضرابين . قدماها تقطران دما ، لم تنتبه للأشواك و لا للأحجار السكنية التي سنتها الطبيعة سنا قاطعا منذ عقود .. بعد ساعة طوي صعودها و هبوطها و تسلّقها لتقف على جثة صامتة كستها الدماء بين شجرة عرعار و صخرة في شقّها عصا حديدية ( العتلة ) " ص 13 .
مريم الدرقاوية : تتّسم شخصيّة الجدّة مريم بالشجاعة و القوّة و الاندفاع . فهي امرأة تغالب نوائب الدهر ، و تجاهد بكل قواها البدنيّة و النفسيّة و العقليّة . إنّ أميّتها لم تعقها عن أداء دورها في محيطها الاجتماعي كأم و جدّة و مجاهدة . يوميّاتها ، كلّها ، تنم عن روح المقاومة و الصمود و التحدّي . " جدتي مريم الدرقاوية تصحبنا إلى مرعى المسخوطة . تحيطه شرقا و غربا غابات كثيفة و في أسفله وادي بورورو ." ص 24 . " وصيتها الوحيدة ألا نقترب منها أو ندخل الغابة ، ستتركنا بعد قليل و تعود إلى البيت . كنّا نراقبها من بعيد ، تضع أثقال الحمل و تشحن الشواري حطبا في بضع دقائق و تعود مع دربنا . الاستغراب و الشكوك يراودني عسى الشكوى و ما في طيات الشواري للجنون مقابل حزمات من الحطب . جدّتي تتعامل مع الجنون . أتذكر حين مرضت خالتي أحضرت طالبا ( راقيا ) ، قرأ عليها سورا من القرآن و أورادا من الأدعية ، حينها شُفيت " ص 24 / 25 .
فاطمة المكرازية : امرأة من خيرة حرائر الجزائر ، مجاهدة شجاعة ، لم ترهبها آلات التعذيب و القهر ، نسخة من رفيقاتها ، خيرة المرشوقية و مريم الدرقاوية . " أمّا فاطمة المكرازية ، كانت هي الأخرى داهيّة و كثيرة الحيل في هذا المقام ، أغلقت فوهة مدخل الكازمة بلوحة خشنة ، و أفرشت حصيرا باليا عليها ، و وضعت فوقه صندوقا خشبيا مفلس القفل بداخله برنوس زوجها و جبّة نساء قديمة و فولارة ( خمار ) و قنينة عطر فارغة و حبيبات من الكافور ، غطت الصندوق بغطاء قديم عليه بول أولادها ، كل أسبوع تذري عليها قليلا من الفلفل الأسود و الأحمر مسحوقين خوفا من الكلاب المدرّبة للجيش الفرنسي على شمّ رائحة الفلاقة " ص 29 .
لقد نسجت المرأة الجزائرية الأصيلة ملحمة الجهاد في الأرياف و القرى و المدن . و سجّل التاريخ بطولتها و صمودها و دورها الريادي في نيل الحرية و الاستقلال . و قد ملأت أخبار جميلات الجزائر الآفاق ، و تحوّلت بطولتهنّ إلى ملاحم ينشدها الثوار و يترنّم بها الأحرار و تتردّد على ألسنة الكبار و الصغار في كل مكان . و لولاها ما كانت الثورة لتصمد و تستمر و تحقّق النصر المبين .
" فاطمة المكرازية تزيل لوحة باب الكازمة ، يستخرج مسطاش أربعة و عشرون بندقية صيد و عدد كبير من الخراطيش و آلة راقنة و أغطية متنوعة الحجم و الشكل ، فتشحن في شاحنة إلى جبال الونشريس بللو ( الأزهريّة حاليا ) " ص 100 .

بختوتة المليانية : شابة جمعت بين الحبّ العذري و المواطنة و التضحيّة . أحبّت وطنها ، فوهبته نفسها . فطم عشقها للثورة في سنّ مبكّرة ، و أينع وعيها الثوري . مارست مهنة التمريض في أحضان الجبال و الفجاج و الشعاب . تحدّت الشدائد و المصاعب . آمنت بأنّ النصر آت لا ريب فيه ، مهما امتدّت ليالي الاحتلال الغاشم ، و مهما طالت وحشيته و اقترفت أياديه الآثمة المجازر و الجرائم الفظيعة .
قدّمها الروائي محمد عياشين كشخصيّة مخضرمة . عاشت أطوارا من الثورة ، و شهدت فرحة الاستقلال و شاركت في أعراس الحريّة .ن التي كانت طرفا في صنعها . فكانت مثال المرأة الواقعيّة و الرمزية ، التي عكست صورة المرأة الجزائريّة الفحلة ، الكريمة ، العاشقة بعقلها قبل قلبها .

" لم تبخل طبيبتنا في تطبيب أهل القرية ، لرجالها و نسائها و أطفالها في قبوسة جدّتي مريم الدرقاويّة ( القابوسة غرفة صغيرة توقد فيها النار شتاء ) ، كل من دخل غرفتها ترحّم عليها و على جدّي قويدر ، كأنّهما أحياء بينهم ، ذكرياتهما ، سخاؤهما " ص 107 .
" لم ينقص من عزيمة بختوتة المليانية شيئا أمام صور و ذكريات بطلها الشهيد ، النمس ، بل تفانت في تربية أبنائها و إتقان عملها . ابنها الأكبر ( منور ) حلمها قد تحقق صار مهندسا معماريا مصمم العمارات و القصور و الجسور و المصانع .. " ص 128 .
لغة الرواية : ما يلفت انتباه القاريء لرواية زواج بالجبل للروائي و السيناريست محمد عياشين ، هو مزجه بين الفصحى و اللغة المحكيّة ( العاميّة ) المستمدّة من البيئة المحليّة في بناء عنصر الحوار ، أيّ اعتمد لغة وسطى . ممّا أضفى على الأسلوب السمة الواقعيّة ، و التشويق . إنّ المتأمل للغة الحوار يدرك دوره العميق في تجسيد الانتماء الوطني ، و إظهار الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي . لقد عكست طبيعة اللغة هويّة المنطقة التي كانت مسرحا للأحداث ، كما عبّرت بصدق عن التفاعلات السيكولوجيّة في علاقة الشعب الجزائري بالمستعمر الفرنسي و أذنابه . فإذا كانت المعاني مطروحة في الطريق ، يعرفها العام و الخاص – كما أشار إليه الجاحظ – فإنّ بناء الأسلوب ، هو جزء من عبقريّة الكاتب و القاص و الروائي و الشاعر ، بل إنّ الأسلوب ( الألفاظ و الجمل ) ، هو الذي يكسب صاحبه التميّز و العبقريّة ، و يمنح المعاني و الأفكار الحركة و الفاعليّة . ( قواطن – الدالية – التويزة – عتروس – الخنز – البتيتة – الكنوري – ربي جابك عندي – سليقاني – بعثوك أسيادك – صاحب الفيرمة – كيفكيف – الكازمة – هر ،هر - فلاقة – الله لا تربحك – ستّوتة – ديقاج – الخنونة –الجدارمية – مرآة الهند - المطمورة – الخاوة.... الخ "
اعتمد الروائي على الجمل القصيرة و الأسلوب المباشر و اللغة المحليّة ، المحكيّة ، فكان أسلوبها أقرب إلى أسلوب السيناريو . و لعل ، مردّ ذلك راجع إلى كون الروائي محمد عياشين يعتبر من كتاب السيناريو . لهذا السبب كتب روايته " زواج بالجبل " في قالب السيناريو ، و طغت النظرة الواقعيّة على عالم الخيال الفنّي .
و خلاصة القول ، إنّ صورة المرأة في رواية " زواج بالجبل " للروائي و السيناريست محمد عياشين ، تجاوزت عتبة النمطيّة المتعارف عليها في الثقافة العربيّة ، و ارتقت بالمراة إلى درجة السمو الروحي و الاجتماعي . هي امرأة ثائرة و قويّة و واعيّة ، جمعت بين واجبها المنزلي - كزوجة أو أمّ أو جدّة أو عمّة أو خالة - و رسالتها الجهاديّة . الرجال الأبطال ، حملت السلاح و خاضت المعارك الحربيّة إلى جانب الرجل ، و خاضت معركة البناء بعد الاستقلال دون تردّد . المرأة عند الروائي و السيناريست محمد عياشين ، ليست آلة للجنس و النسل و الطحين و الطهي و الغسل فقط ، و ليست ناقصة عقل و دين ، و ليست وسيلة إغواء للرجل ، بل هي إنسانة حرّة و مسؤولة . فقد تحرّرت من القيود الاجتماعية و العادات الباليّة و النظرة الدونيّة و التهميش و الإقصاء . لقد فاقت أعمالها اعمال رجال كثيرين في الحرب و السلم . و هذا ما عبّرت عنه الناقدة العراقية نسرين ابراهيم الشمري في مفال لها بعنوان ( صورة المرأة في شعر يحي السماوي ) بقولها : " نرى أن السماوي تعامل مع المرأة من خلال الدور الذي تشغله ، إذ تجلّت لما حرّة طليقة ، مشاركة للرجل في ساحات القتال ، ثائرة لا ترضى الخنوع ، ما يعني أنّها كانت تعود بفائدة نفعية للمجتمع ، و بدت كذلك مربيّة و مؤسسة لجيل ، تساهم في تكوين بنية المجتمع ، و هذا ما يؤكد أنّ المرأة نصف المجتمع و هي عضو فعّال في تكوينه . " 1 .
يمكن إدراج هذه الرواية " زواج بالجبل " من حيث التكوين ، ضمن سلسلة الروايات التاريخية العربيّة ، كروايات جورجي زيدان ، و روايات صبحي فحماوي ، و غيرهما .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
( 1 ) مقال ، صورة المرأة في شعر يحي السماوي ، للأستاذة الناقدة نسرين ابراهيم الشمري – صحيفة المثقف / 23 تموز / يوليو 2023 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قتيل وجرحى في انهيار مبنى بمدينة إسطنبول التركية


.. مبادرة شابة فلسطينية لتعليم أطفال غزة في مدرسة متنقلة




.. ماذا بعد وصول مسيرات حزب الله إلى نهاريا في إسرائيل؟


.. بمشاركة نائب فرنسي.. مظاهرة حاشدة في مرسيليا الفرنسية نصرة ل




.. الدكتور خليل العناني: بايدن يعاني وما يحركه هي الحسابات الان