الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا كان سقوط الأنظمة الملكية أمرا حتميا في العالم العربي

عبدالرحمن مصطفى

2024 / 1 / 24
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


ليس الحنين الى الأنظمة الملكية وماتمثله من نظم اجتماعية تقليدية واستقرار (متوهم) يخص العرب وحدهم أو الناطقين بالعربية ،كانت الشعوب الأوروبية أو قسم كبير منها تتوق الى العهد الذي كان الإقطاع سائدا بقيمه وتقاليده وأعرافه بعد أن واجهت أهوال الثورات في فرنسا
وغيرها أو التطور العشوائي للرأسمالية في انكلترا و الدول البروتستانتية ،ومن هذا الحنين برز تيار فلسفي أدبي على السطح وكان يمجد قيم الفروسية والشهامة وكل تلك القيم التي كانت تبعد الإوروبي ولو خياليا عن واقعه البائس في القرن التاسع عشر وكان ذلك التيار هو الفكر الرومانسي الذي سيطر على مخيال الأوروبيين وخصوصا في ألمانيا،عصر الثورات في أوروبا أواخرالقرن الثامن عشر وعلى امتداد القرن التاسع عشر كان عصرا درامتيكيا في حركته وفي تغييره لكل شيء ،ومن ذلك العصر كانت انطلاقة أوروبا لكنها كانت انطلاقة عشوائية وفوضوية لهذا عانت الأجيال الأوروبية
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أهوال التغيير وماحمله من قلب لنمط حياتهم وطرق إعاشتهم ،فبعد أن كان الفلاح يعيش في كنف الإقطاعي ومايجود به هذا من نعم وخيرات على أقنانه ،كان هناك استقرار وشعور بالأمن وعدم الخوف من المستقبل على النحو الذي جاءت به الرأسمالية بعد تغييرها لقوى الإنتاج وقلبها للمجتمع القديم ،وبالمناسبة لم يكن تطور الرأسمالية تطورا طبيعيا في انجلترا مثلا بل كان هناك مقاومة وتراجع في مسار تطورها فقانون السبينهاملاند في أواخر القرن الثامن عشر عرقل أهم شرط لتطور الرأسمالية وهو جعل قوة العمل خاضعة لقوى العرض والطلب في السوق ،واحتاجت البرجوازية الى ثلاثة عقود حتى تعيد (تحرير) قوة العمل وقذفها الى السوق وذلك في قوانين 1834 ،لهذا كل عصر يحمل معه تغيرات ثورية يشد الناس الى الماضي ويزيد من تعلقهم به ،لكن هل من الصحيح الإعتقاد بأن العصر الملكي كان نموذجا وكان يمكن أن يتطور الى
ملكية دستورية على شاكلة بعض الدول الغربية ؟

الحقيقة أن الإستقرار الموهوم في العهد الملكي لا يستند الي أي تاريخ حقيقي عاشته البلدان العربية في تلك الفترة ،فالبلدان العربية آنذاك كانت منزوعة السيادة وهي عرضة لتدخلات الدولة المنتدبة (فرنسا أو بريطانيا) يكفي أن نعرف بأن مصر تعرضت للإحتلال في ثمانينيات القرن التاسع عشر لعجزها عن سداد ديونها للتاج البريطاني !! فأي استقرار هذا ! إن فكرة وجود استقرار دون استقلال ودون أمن اجتماعي ترعاه الدولة هي فكرة موهومة وفارغة ..ومصير الدول العربية التي انجرفت مع التيار للإنضواء تحت راية أمريكا لأكبر دليل على هذا ،هذا ما نشهده في مصر مثلا التي عولمت قوتها
الاقتصادية وفككت قوى استقلالها الذاتية في الستينيات وانجرفت مع تيار العولمة النيوليبرالية وما جلبه معه من ويلات على مصر وكان العامل الأهم في ثورة يناير 2011 والآن يعمق النظام المصري تنفيذ هذه السياسة بشكل أكبر مما كان عليه في العهود السابقة ..

من الوهم الاعتقاد بأن حركة الضباط الأحرار في 1952 كانت حركة بلا أي أساس اجتماعي ولا جذور كامنة في المجتمع المصري ،لو لم تقم هذه الحركة أو لو نجح النظام الملكي في قمعها لحدثت ثورات وانتفاضات أخرى ولسقط النظام الملكي ،لهذا سقوط الملكية كان أمرا حتميا وسقوطه من خلال انقلابات عسكرية داخلية (من داخل النظام) دليل على أن هذه النظم لم يكن لها أي مستقبل فهي لم تسقط بثورات وانتفاضات شعبية وهذا يدلل على هشاشتها وضعف قاعدتها الاجتماعية فهي كانت نظم طبقية تحكم بالحديد والنار ..سقوط الملكيات لم يكن حكرا على العالم العربي بل سقطت ملكيات
أخرى في دول مختلفة والرطانة الفارغة التي تربط سقوط الملكيات بنفوذ السوفيات وسياساتهم الخارجية هي صورة جوفاء عن واقع مجريات الأمور في القرن العشرين .فالأنظمة التي أعقبت النظم الملكية كانت على علاقة وطيدة مع أمريكا وكانت في حالة نزاع مع الدول الاشتراكية ،هذا حال مصر مثلا فالضباط الأحرار لم يحملوا أي ايديولوجيا باستثناء ايديولوجيا الإخوان المسلمين (البعض منهم) وعلى العكس تبنت هذه الحركات سياسات مناهضة للشيوعية هذا ما حدث في أفغانستان مثلا عندما قام دواد خان بالانقلاب على حكم قريبه محمد شاه وقام بإلغاء الملكية وهو كان رئيسا للوزراء في العهد
الملكي !! وقام بحملة قمع شاملة ضد الشيوعيين بعد أن ألغى حقبة الحياد السياسي (نسبيا) التي كانت تعيشها أفغانستان في العهد الملكي وفور اعتلائه السلطة قام بتوطيد علاقاته مع أمريكا ،على العكس مما هو متوهم يمكن أن نربط الحركات الانقلابية ضد النظم الملكية بالخيار الأمريكي أكثر من
السوفيتي ،الاتحاد السوفيتي اتبع سياسة التعايش السلمي في عهد خرتشوف وعمليا اتبع الاتحاد السوفيتي هذه السياسة في عهد ستالين فاتخذ سياسة محايدة وأحيانا معادية للثورات اليسارية في اسبانيا في الثلاثينيات مثلا وكان موقفه مشابها لموقف امريكا وبريطانيا والدول الغربية وكان من مصلحته أن يحافظ على علاقات مع جميع الدول ،لهذا كان سقوط النظم الملكية تعبيرا عن أزمة داخلية فيها وفي المجتمعات التي حكمتها ولم يكن نتيجة تأثر ايديولوجي وكما سأشرح لاحقا لم يحمل الضباط الأحرار في مصر أي ايديولوجيا باستثناء فكرة الاستقلال عن بريطانيا وهذه السياسة كانت تؤيدها امريكا طبعا الى جانب الاتحاد السوفيتي ..فسقوط الملكيات كان تعبيرا عن أفول الامبراطورية البريطانية ،وكان يستحيل أن تستمر أما عن الدعاوي الفارغة بأنها كانت تشكل نواة ديمقراطية في الشرق الأوسط فهذا تصور واهم فهي لم تكن نظما ديمقراطية بدليل القمع الذي واجهه الوفديون في الثلاثينيات في ظل حكومة
اسماعيل صدقي وبتحالف الانجليز مع الملك لم يكن تأثير حزب الوفد تعبيرا عن ديمقراطية في العهد الملكي فالتيار الوفدي كان يشكل قوة مضادة للنظام الملكي وعلى ارتهانه الكامل لبريطانيا كان يمثل احتجاجا شعبيا على الملكية وليس دلالة على ديمقراطية الملكية! أصلا أن تكون دولة تحت الاحتلال
لامعنى لأي حديث عن الديمقراطية والتعددية في هذه الحالة لأن الحاكم هو المستعمر وهو الذي يوجه دفة الحكم فالحديث هنا عن ضغف نظام الحكم الوطني مع هذا الضعف كان سياسة استبدادية يتبناها الملك ضد الوفديين والشيوعيين ،طبعا التركيز على مصر لأن الملكيات الأخرى في حالة العراق
مثلا لاتمكننا من الحديث عن نظام متجذر يمثل تطورا ديناميكيا في المجتمع فالملكية في العراق جاءت بقرار بريطاني وحكمت لفترة قصيرة نسبيا وهي لم تكن نظاما سعى الى أن ويؤسس دولة مستقلة كما فعل محمد علي في مصر بل كان تقسيم ابتدعته بريطانيا ومنحة قدمتها لعائلة الحسين الهاشمي
وجلبته بريكانيا لحكم العراق بعد زوال حكمه في سوريا مع الاستعمار الفرنسي وهذا على عكس الملكيات الأوروبية كما في فرنسا التي حكمتها الملكية
لمئات السنين والعائلة الأخيرة (ال بوربون) كان لها جذور من السلالات السابقة التي حكمت فرنسا ...ولم يكن هناك أي مظهر للديمقراطية في العراق كما كان في مصر الملكية ولا أدل على ذلك من الإعدامات التي كانت تنفذ ضد المعارضين (الشيوعيين خصوصا) ورفض رغبة الشعب في التغيير كما حدث في انتخابات 1954 التي قام الملك فيها بإلغاء تصويت الشعب للبرلمان الجديد ..وفعليا كان استفتاءات كما جرى عليه الحال في ظل النظم الجمهورية الديكتاتورية ،وكان شيوخ القبائل يسيطرون على أغلب الانتاج العراقي الذي كان متركزا في الزراعة فكانوا يمتلكون الأراضي الشاسعة فضلا عن
ملكياتهم لوسائل النقل والعديد من القطاعات الأخرى ..وكان تشكيل الوزارات أو تشكيل المجالس النيابية يخضع للاعتبارات الشخصية ولم يكن هناك أي دور للكفاءة والسياسة الخارجية كانت تخضع لسيطرة بريطانية الكاملة وفي إحدى الجلسات بين السفير البريطاني ورئيس الوزراء العراقي حكمت سليمان في الثلاثينيات كان السفير البريطاني يسعى لثني المسؤول العراقي عن شراء أسلحة من غير بريطانيا عن طريق الضرب والصفع وذكر هذا في كتاب دور الجيش في السياسة لمحمد طربوش (ص ١٤٣) ..وبعض الأحزاب العراقية التي طالبت بالاستقلال كالحزب الوطني العراقي وحزب النهضة تم
حلهم وارسال قادتهم الى بلدة هنجام في ايران ،ولم يكن هناك أي استقرار فالانقلابات بدأت قبل عام ١٩٥٨ بكثير كحركة بكر صدقي الجنرال الذي قتل وقمع الحركات الاشورية ..كانت فترة الملكية في العراق مليئة بالفوضى والاحتجاجات وعدم الاستقرار على عكس التصورات الموهومة فضلا عن
الطبقية البشعة حيث أكثر من ٩٠ بالمئة من الفلاحين كانوا يعانون من الأمية والفقر وكانوا يحكمون من بضعة شيوخ قبليين لايفقهون أي شيء باستثناء تحقيق مصالحهم الشخصية فضلا عن ممارسة الطائفية بمحاباة طائفة (السنة) ضد أخرى (الشيعة) بدلا من تجاوز كل هذه الخلافات التي يلعب عليها
الاستعمار ..
أما في مصر ؛ لم يحمل الضباط الأحرار أي ايديولوجيا باستثناء فكرة الاستقلال والتحرر الوطني ،والوعي بضرورة أن يكون للدولة دور في تطور المجتمع،بل إن العهد الملكي في مصر شهد فترات مد وجزر في سياسة الدولة الاقتصادية وهناك كتاب لباتريك أوبريان يستعرض فيه تاريخ
الاقتصاد المصري من عهد محمد علي حتى ستينيات القرن الماضي ،والمؤلف بريطاني يجيد اللغة العربية وكان استاذا جامعيا في جامعة لندن ،وفي كتابه شرح للكيفية التي تطور بها الاقتصاد المصري ،ومن خلال هذا نعرف مثلا أن الاقتصاد المصري مر بتحولات جذرية لم تمليها المذاهب
الاقتصادية الاجتماعية بل الضرورات والظروف التي مرت بها مصر ،فعهد محمد علي شهد مركزية صارمة في الاقتصاد حيث كانت الدولة تتدخل في تنظيم الاقتصاد بشكل أكبر مما كان عليه الحال في ستينيات القرن العشرين (كل تجربة تنموية سنجد أن الدولة كانت منخرطة فيها بقوة في تنظيم
الاقتصاد) فالدولة أسست الصناعات الجديدة وحافظت على ملكيتها في مقابل وجود انتاج حرفي وزراعي مستقل لكنها وجهت هذا الانتاج الى الغايات التي وضعتها وكان عشرات الالاف من الفلاحين مجبرين على العمل في السخرة لفترة من الزمن كل سنة وقامت الدولة في عهد محمد بالمشاريع الكبيرة كتأسيس نظام ري جديد متطور بعد أن كانت الفلاحة المصرية تعتمد على فيضان النيل في الفترة العثمانية ،بعد وفاة محمد علي شهد الاقتصاد المصري فترات من الاقتصاد الغير مركزي لكن هذه الفترة كانت هي ذاتها التي استدانت فيها مصر مبالغ طائلة لتمويل مشاريع غير تنموية (كحال مصر اليوم)
حتى خضوعها للإحتلال البريطاني في ثمانينيات القرن التاسع عشر بسبب عدم قدرتها على سداد ديونها ،ثم تطورت السياسة المصرية بعد الحرب العالمية الأولى وعادت الدولة تمارس دورها في تنظيم الاقتصاد وإقامة مشاريع كبيرة في الري والنقل وسكك الحديد والبنية التحتية الخ...وكان الاقتصاد المصري أكثر اعتمادا على التصدير (مواد أولية وصناعات تحويلية بسيطة) ولم تتبنى أي سياسة في العهد الملكي لتنشيط الطلب المحلي ونمو الناتج كان أقل في بداية الخمسينيات عما كان عليه الحال عشية الحرب العالمية الأولى ويذكر أوبريان بعض الوقائع عن حالة مصر الاقتصاد عشية انقلاب
يوليو 1952 (كان شعب مصر في منتصف القرن العشرين من أفقر الشعوب في العالم وكان مستوى الدخل يساوي عشر مستوى الدخل الفردي في بريطانيا وتوزيع الدخل كان مغرقا في اللاتكافؤ) فضلا عن أن متوسط العمر لم يتجاوز ال 36 عام بينما في أمريكا كان 69 عام ولم يكن أكثر من ربع
البالغين يجيدون القراءة والكتابة بينما كانت النسبة تصل الى مئة في المئة في المجتمعات الغنية كل هذه الحقائق موجود في أي كتاب يؤرخ لتلك الحقبة ،وكما ذكرت كان انتعاش الاقتصاد يعتمد على انتعاش الطلب العالمي (كأي اقتصاد ريعي تابع) كما حدث في الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية وبعد انتهاء هذه الحروب انكمش الاقتصاد المصري مرة أخرى ،والوضع المعيشي كان في قمة السوء حيث أن نصف بالمائة من المجتمع المصري كانوا يحوزون على أكثر من ٦٠ بالمئة من الدخل القومي بينما يعيش ٨٠ بالمائة معدمين ولايحصلون على نصف مايحتاجونه من غذاء وكساء (فاروق عباس ثورة يوليو ايجابيات وسلبيات) والطبقة الوسطى كانت لاتصل الى ٢٠ بالمائة فهناك مجتمع الأثرياء ١ بالمائة و٨٠ بالمئة يعيشون في حالة أقل من
الكفاف (جلال أمين ماذا حدث للمصريين)
أما حركة الضباط الأحرار فكانت نتاجا ونموذجا لحركات التحرر الوطني التي اجتاحت البلدان الأفريقية والآسيوية ولم يكن لرجال هذه الحركة أي رؤية لإصلاح الاقتصاد المصري ، ففي السنوات الأولى بعد الثورة سار نظام يوليو في سياسته الاقتصادية على نفس النهج في العهد السابق ، بل زاد في
تجذير السياسات الاقتصادية السابقة بل كان على يمينها في أحيان كثيرة فمثلا سمح النظام بأن يتملك الأجانب أكثر من ٤٩ بالمئة من أسهم الشركات بعد
أن كان محظورا في العهد الملكي وسمح بنقل الأرباح الى الخارج ،وتبنى سياسات اعفاء ضريبية للمؤسسات فألغى الضرائب على الأرباح الموزعة
لسبعة أعوام ونصف الضرائب على الأرباح الغير موزعة (كتاب باتريك أوبريان) وباستثناء سياسات الإصلاح الزراعية يمكن تصنيف السياسة الاقتصادية لنظام عبدالناصر في سنواته الأولى بكونها سياسات يمينية ليبرالية ..واستمر على هذا النهج حتى حرب السويس ، فبعد هذه الحرب كان للدولة دور
أكبر في الاقتصاد وفي توجيه الاستثمارات نحو المشاريع الإنتاجية بدلا من أن تتركز في العقارات والقطاعات الغير انتاجية لكن هذا النظام الجديد لم يكن نظاما اشتراكيا بل كما أسماها عبدالناصر رأسمالية موجهة حتى بداية الستينيات كانت مصر تتبنى نظاما رأسماليا وحاولت في السنوات الأولى من
انقلاب يوليو أن تجذب الاستثمارات الأجنبية بالتخفيضات الضريبية والسياسات الجاذبة للاستثمارات الأخرى لكنها فشلت وبدلا من أن تنتظر أكثر من ٤٠ عام لإكتشاف نتائج هذه السياسة (كما فعل نظام السادات ومبارك ومرسي والسيسي فيما بعد) اختبرت مصر هذه السياسات لمدة ٩ سنوات فقط ! حتى عام ١٩٦١ لم يكن هناك أي سياسات تأميم وغيرها الإصلاح الزراعي للتذكير كان البنك الدولي يشجع الإصلاح في الأراضي الزراعية
(سياسات اصلاحية وليست راديكالية) ومصر تبنت هذه السياسات التوزيعية لكن على نطاق صغير فنسبة الأراضي الموزعة لم تصل الى ٢٠ بالمئة من مجمل الأراضي المزروعة والعائلات المستفيدة كانت من الفلاحين ممن كانوا يمتلكون مساحات صغيرة أي المستفيد الأكثر من هذه الإصلاحات كانت
الطبقة الوسطى الفلاحية ..

أما الانتقال من النظام الرأسمالي الى الاشتراكية فكان في عام ١٩٦١ وكان هناك خطاب جديد يختمر قبل هذا العام يهاجم الرأسمالية وشرورها ويعدد فضائل الاشتراكية هذا التغير على مستوى الخطاب لايعني أن جمال عبدالناصر كان يتبنى المذهب الاشتراكي بل كان ذلك التغير يرجع أولا الى فشل
محاولات النظام الجديد لجذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع رأس المال الخاص للإستثمار في القطاعات الإنتاجية ..
الاقتناع بالاشتراكية يرجع أيضا الى أن الفكر الاشتراكي كان موضة في ذلك العصر كما أن النيوليبرالية هي موضة في عصرنا هذا وكما أن المناضلين السياسيين والمعارضين يتبنون خطاب تكنوقراط نيوليبرالي دون وعي منهم (يتحدث عن استقلال الاقتصاد عن السياسة واستقلال السياسة النقدية للبنوك
الوطنية عن الحكومات وغير ذلك ...) كان رجال السياسة في ستينيات القرن الماضي يتأثرون بالاشتراكية وينقادون اليها دون وعي منهم أي أن البنية الذهنية المستندة على صراع الطبقات في ذلك الزمن مختلفة عن بنية زماننا هذا ،وزمن الاشتراكية الناصرية كان أفضل من ناحية توفير مستوى معيشي جيد مما كان عليه الحال في العهد الملكي أو في عهد رؤساء الجمهوريات بعد موت جمال عبدالناصر فيكفي أن نعلم مثلا أن مستوى انتاجية الفرد كان يرتفع لأكثر من ٩ بالمئة كل سنة بين عام ١٩٦٣ و١٩٧٩ وفي العهد النيوليبرالي من عام ١٩٨١ حتى ٢٠٠٨ ل 8 0,0 بالمئة كل سنة من هذه السنوات ! وكان نظام عبدالناصر يتبنى سياسة نقدية مستقلة فالجنية لم يكن مربوطا بالدولار وما يجلبه ذلك من سياسات انكماشية للمحافظة على قيمة الجنية نسبة الى الدولار فكان هناك نظاما مزدوجا للتبادل فقيمة الدولار في الأسواق المصرية كانت مختلفة عن قيمة الدولار في الخارج (كتاب علي القادري تفكيك
الاشتراكية العربية) أما معدلات التضخم فكانت في العهد الناصري أقل مما كانت عليه في العهد النيوليبرالي رغم أن الحكومات في هذا العهد تهدف اولا الى كبح التوسع في السياسة النقدية من خلال رفع معدلات الفائدة وخفض الإنفاق الحكومي الا انها واجهت معدلات تضخم أعلى مما كان في عهد
الاشتراكية الناصرية ،وغني عن البيان ؛أن الاقتصاد المصري في العهد الناصري كانم أكثر ترابطا بين قطاعاته بينما في العهد النيوليبرالي نجد تفككا بين القطاعات والكثير منها مربوط مع الخارج في علاقات غير متكافئة ،وأهم هذه القطاعات هو النظام المالي ؛بحيث نجد أن السياسة النقدية تعتمد على
تحولات معدل الفائدة على الدولار الأمريكي فليس هناك سياسة نقدية مستقلة في مصر لاقبل التعويم (في عهد مبارك) أو مع التعويم (في عهد عبدالفتاح السيسي) بينما كانت في مصر في العهد تتبنى نظاما نقديا مستقلا (في وقتنا هذا لايوجد نظام مزدوج للتبادل في العالم باستثناء الصين ولهذا تشن أمريكا حربا شعواء عليها لإعادة تقييم قيمة عملتها ) ..

لعل المثلب الرئيسي على الناصرية وعلى كل النظم القومية التي أعقبت الملكيات العربية يتمثل في قمعها أي نشاط سياسي ومستقل وقمع النقابات العمالية من أن يكون لها نهج مستقل في المطالبة بحقوق عمالها ،وهذا الشيء صحيح ولايمكن إنكاره ،لكن من قال أن العهد الملكي كان عهدا باهرا في الحريات السياسية والاجتماعية ؟ في الحقيقة كان هناك قمع سياسي في حالة العراق يشبه العهد الملكي حال العراق اليوم من حيث انتشار الفساد السياسي على

مستوى مرتفع ،بالأحرى أن نقول بأن الدولة في العهد الملكي لم تكن قوية وبذلك لم يكن هناك أي مشروعات تنموية ،إن ضعف الدولة أو غيابها في العهد الملكي سمح ببعض النشاط المستقل لكن كان هناك في نفس الوقت نظام بوليسي يستخدم القمع والإرهاب لإسكات أصوات المخالفين ولا يمكن لمثل هذه
النظم الهشة أن تبادل في أي مشاريع تنموية ،في العهد الحمهوري في الدول العربية كان هناك استبداد سياسي وحكم للحزب الواحد لكن لو خرجنا من الرؤية الضيقة وألقينا نظرة على المسارات التنموية في دول العالم النامي سنجد أن هناك تشابها بين تجربة العديد من الدول العربية بعد خلاصها من
الملكيات الاستبدادية وتجربة دول أخرى (ليست دول المعسكر الشرقي فقط كما يتوهم الكثير من أن فكرة الحزب الواحد هي اقتباس لتجربة الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي) في حالة كوريا الجنوبية وهي من أهم الدول المحسوبة على معسكر أمريكا ؛ نجد أن النظام البرلماني المنتخب تم الإنقلاب عليه من جنرالات الجيش وبداية نهضة كوريا الجنوبية كانت في هذا العهد تحت الحكم الجنرال بارك تشونغ المستبد والذي بالمناسبة لم يشكل حتى حزبا سياسيا وحكم كوريا جنوبية لمدة 18 عاما وانتهج سياسات اقتصادية مشابهة لتلك التي تبناها ناصر في مصر وعبدالكريم في العراق من
إصلاحات زراعية وتأميم للمرافق الحيوية والصناعات الثقيلة الخ...وسنجد أن تايوان كانت محكومة بنظام استبدادي بواسطة حزب الكومينتانغ لأكثر من نصف قرن ،الأمر ذاته في اسرائيل التي كانت محكومة من حزب العمل لفترة تتجاوز ال 40 عاما ،نظام الحزب الواحد ترافق مع تحقيق تنمية شاملة
على المستوى الوطني ،وهو الذي أقام الأسس الحديثة لمعظم دول العالم بما في ذلك أمريكا ،طبعا هذا ليس دعاية لهذا النموذج من الحكم لكن هذه هي الحقيقة ،هناك تناقضات في الحياة لاينبغي أن نقفز عليها حتى نقدم صورة مثالية معيارية عن واقع المجتمعات ،فالمجتمعات الغارقة في وحل الأمية
والجهل والفقر كحال المجتمعات العربية في منتصف القرن الماضي لم يكن سيجدي معها غير نموذج حكم قوي يستطيع أن ينتشل هذه المجتمعات من الحالة المأساوية التي تعيشها ...لهذا تجريف الحياة السياسية لم يقتصر على المنطقة العربية بل على معظم إن لم يكن جل دول العالم النامي .وهناك دول
استطاعت أن تتجاوز هذه الحالة جزئيا (بالنسبة للمعيار الغربي للديمقراطية )ودول أخرى لم تنجح وشعوب الدول التي تجاوزت حكم الاستبداد السياسي لم تلتفت الى الوراء أو ذهبت في وجدانها لنظم رجعية لفظها التاريخ قبل أن تلفظها شعوبها

في الختام .
كان سقزط النظم الملكية في العالم العربي حتميا بالنسبة لدول شهدت حراكا ثقافيا واجتماعيا كحالة مصر ولم يكن لمثل هذه النظم أن تعمر لو أنها تجاوزت الانقلابات العسكرية فكانت على الأرجح ستشهد ثورات شعبية عارمة وفي هذا هناك الكثير من المفكرين اليساريين الذين يرون أن هذه الإنقلابات
العسكرية استبقت موجات ثورية كانت ستزيل هذه النظم السلالية كسمير أمين مثلا الذي ينظر الى ثورة -انقلاب يوليو على أنه نهاية لموجة ثورية بدأت مع ثوراة 1919 بقيادة سعد زغلول ،وباستثناء دول الخليج لم يبقى هناك أي نظم ملكية في العالم العربي يمكن أن يحتئى بها فدول كالمغرب والأردن هي آخر ما سيفكر فيها أي حصيف كنموذج للرخاء والإزدهار فهذه الدول غير موجودة في قائمة الدول المئة الأولى بالنسبة لمؤشر التنمية وهي دول فقيرة تعاني من نظم حكم تمارس الاستبداد السياسي مع بنية اجتماعية رجعية ترتكز على القبائل والموروث الماضوي ..وموجة الخلاص من النظم الملكية لم تقتصر على العالم العربي ولم تكن نتاجا لمعارضة ايديولوجية بل على العكس يمكن أن نربط بين زوال النظم الملكية وانتصار حركات التحرر الوطني كما في حالة الصين التي تخلصت من نظامها السلالي في 1911 بفعل ثورة شعبية تحت قيادة الكومينتانج (الوطنيون الصينيون) ،ومن المعيب أن يعتقد الإنسان أن نظاما ملكيا يستند على موروث رجعي ويتعامل مع شعبه بطريقة طبقية مقيتة يمكن له فعلا أن يكون طوق النجاة لأي شعب للخروج من الجهل والفقر والتخلف ،وعمليا لو أبعدنا الرؤية الرومانسية العاطفية لهذه الفترة ،لعرفنا أن هذه النظم لم يكن لها أي مستقبل فخلال فترة حكمها لم تشهد المجتمعات المنضوية تحت حكمها أي تحسنا معيشيا بل المزيد من الفقر والإذلال ،لهذا كان سقوط هذه الملكيات أمرا حتميا لإنها ضد حركة التاريخ ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي


.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |




.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ


.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا




.. ما المطلوب لانتزاع قانون أسرة ديموقراطي في المغرب؟