الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في مسألة طرح ورقتي نقد جديدتين ..سقى الله أيام -أم مئذنة-

إكرام يوسف

2006 / 11 / 26
الارهاب, الحرب والسلام


طالعتنا الصحف المصرية ببشرى قرب إصدار ورقتين نقديتين إحداهما من فئة المائتي جنيه والثانية من فئة الخمسمائة جنيه. وعلى الفور، قفزت إلى ذهني مسيرة رغيف الخبز الذي تحول في فترة وجيزة من "الرغيف أبو تعريفة" إلى "الطباقي" ثم "المحسن"؛ ثم تذكرت ما آل إليه الرغيف "البلدي".. في بلدي التي كان أهلها أول من عرفوا صناعة الخبز في التاريخ . تذكرت أيضا أيام كنا صغارا تأخذ في الستينيات مصروف الجيب قرشا واحدا، وكنا نعرف أن القرش هو وحدة التعامل النقدية الأولى .. وفي الثمانينيات عندما سألني طفلي ـ آنذاك" عما هو القرش؟ وكم "شلنا" في القرش؟ أدركت أن وحدة النقد الأولى صارت ـ فعليا ـ الورقة النقدية ذات الخمسة قروش.. وأصبح القرش المعدني تذكارا يحتفظ به الأولاد هواة جمع التحف الأثرية. وإن هي إلا سنوات قليلة وظهرت العملة الورقية ـ ثم المعدنية ـ ذات الخمسة وعشرين قرشا، فتوارت كل من العملتين ذات الخمسة قروش والعشرة قروش خجلا، ولم يعد لهما أي قيمة فعلية. ورغم أنهما مازالتا ساريتي القيمة من الناحية الرسمية إلا أنني أتحدى أن يكون بيننا من يجرؤ على استخدام العملة الورقية من أي من الفئتين في التعامل اليومي. وحدث نفس الشيء مع ورقة العملة ذات العشرة جنيهات؛ التي كان لها يوما ما "شنة ورنة " كما يقولون باعتبارها تقف أعلى سلم العملات الورقية ومصر؛ وكانت تحظى فيأوساط أولاد البلد بالعديد من صفات التدليل فتارة يقولون "الورقة الحمراء" وتارة أخرى "الورقة أم مئذنة"، ثم تراجع وصفها ـ ومعه قيمتها ـ إلى "بريزة"، بعدما ظهرت الورقة ذات العشرين جنيها وبعدها ذات الخمسين وذات المائة.

نذر مرعبة

ووجدت نفسي أتساءل في حيرة؛ ما هي هذه الحاجة الملحة التي دفعت للتفكير في إصدار الورقتين الجديدتين المزمع إصدارهما في العام المقبل؟ وكم من الناس في مصر من يسير في الشارع حاملا خمسمائة جنيه أو أكثر في جيبه يوميا حتى يحتاج لإصدار مثل هذه الورقة؟ قد يقول قائل إن هاتين الورقتين لم يقصد بإصدارهما إلا تيسير تعاملات "الكبار من رجال الأعمال والمستثمرين؛ لكننا نعلم جميعا أن هؤلاء لا يتعاملون نقدا وإنما عبر دفتر الشيكات في أبسط الحالات ، وفي أغلب الحالات تتم تحويلاتهم عبر الإنترنت بين البنوك. وربما يقول آخر، أن كثيرا من البلدان حولنا لديها بالفعل أوراقا من ذات "الخمسمائة"؛ وهذا صحيح، غير أن الرواتب والدخول في هذه البلدان تقع في خانة الآلاف؛ كما أن مستوى المعيشة في هذه البلدان وأسعار السلع تتناسب مع هذه الرواتب، فيكون استخدام الأوراق المالية ذات الخمسمائة من قبيل التيسير على المتعاملين في الحياة اليومية (عندما يكون إيجار الشقة ذات الغرفة والصالة في إحدى بلدان الخليج خمسة آلاف ريال شهريا، يصبح من الطبيعي أن يكون لدى المستأجر عشرة ورقات من ذوات الخمسمائة لدفعها لمالك العقار؛ في الشهر الأول على الأقل حيث يتم التعامل بعد ذلك بالشيكات). ويقول ثالث إن هناك نية لرفع المرتبات في مصر بواقع الضعف ولما كانت الأعمال بالنيات، فقد ارتأى القوم أن يكونوا سباقين بالخير فيصدرون ورقتي العملة المذكورتين لتيسير التعامل على موظفي الحكومة الذين سترتفع رواتبهم!. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار أن موظف الحكومة المخضرم، أي الذي وصل للدرجة الأولى بعد فترة تقارب العشرين عاما من عمره الوظيفي يتراوح راتبه حاليا حول الحمسمائة جنيه شهريا، وعندما يتضاعف سيصل إلى ألف جنيه؛ فلنا أن نتصوره ذاهبا إلى الصراف أول الشهر ليستلم "ورقتين" هما كل راتبه! ولنا أيضا أن نتصور حالات الملايين من خريجي الجامعات الذي لا تصل رواتبهم إلى مستوى ورقة واحدة من ذات المائتين. وهل فكر أصحاب القرار في تأثيره المتوقع على أسعار السلع في بلد بلغ مستوى التضخم السنوي فيها 8.9 في المائة في أغسطس الماضي من 8.4% في يوليو وفقا للبيانات الرسمية. هل فكروا في تأثير هذا القرار على أعداد العاطلين الذين تقدر الإحصاءات الرسمية نسبتهم في مصر بتسعة في المائة فقط، بينما تؤكد وكالات الأنباء أن الدراسات التي ترصد البطالة في صفوف الشباب تظهر أن 30% من الشباب الذين تترواح أعمارهم بين 15 و30 عاما متعطلون عن العمل. لا أعتقد أنني أغالي عندما أتوقع أن يؤدي إصدار هاتين الورقتين النقديتين مع مضاعفة المرتبات إلى انفلات مرعب في الأسعار؛ فكيلو جرام اللحم البلدي الذي وصل في كثير من أحياء العاصمة إلى 45 جنيها، لن تكون مفاجأة إذا وصل سعره بنهاية العام المقبل ـ بعد الزيادة المزمعة في الرواتب وظهور الورقتين النقديتين الموعودتين ـ إلى مائة جنيه للكيلوجرام الواحد؛ وقس على ذلك بقية الأسعار من أسعار اللحوم والأسماك والدواجن إلى ساندوتش الفول والطعمية وطبق الكشري؛ وأسعار الخدمات بداية من أجر الطبيب والمدرس الخصوصي وحتى السباك.. فهل جرى بحث حقيقي لما يمكن أن تسببه أي زيادات أخرى في الأسعار من كوارث اجتماعية واقتصادية؟ ليس بين العاطلين وصغار الموظفين فقط، ولكن نارها ستطال حتى أبناء الطبقة المتوسطة.

نوبل والبنك الدولي

فكيف لم ينتبه أحد ـ بعد ـ بينما لم يعد خافيا حالة الإفقار المتزايد التي تتعرض لها قطاعات عريضة من المصريين، وما ينجم عن ذلك من تزايد في معدلات الجريمة والانحراف الأخلاقي؛ وفي الوقت الذي بدأ العالم ينتبه إلى خطورة الفقر حتى على السلام الدولي؛ حتى أن جائزة نوبل للسلام فاز بها هذا العام بنك جرامين في بنجلادش ومؤسسه الاقتصادي محمد يونس مناصفة لجهودهما في مكافحة الفقر (من خلال نظام لإقراض سلف صغيرة تمثل رؤوس أموال لبعض الناس الأشد فقرا في العالم). وكان تعليق يونس للصحفيين عندما سئل لماذا منح جائزة نوبل للسلام بدلا من جائزة نوبل للاقتصاد "القضاء على الفقر هو الذي يحقق السلام الحقيقي. فلا يوجد احترام للذات ولا المكانة عندما يكون المرء مكبلا بالفقر." وقالت لجنة نوبل في حيثياتها "السلام الدائم لن يتحقق إلا إذا تمكنت جماعات كبيرة من السكان من كسر قيد الفقر. وتنمية القطاعات الدنيا تخدم في دفع الديمقراطية وحقوق الإنسان قدما." فهل فكر القوم في توابع ما يعتزمون، على حياة قطاعات عريضة من أبناء هذا الوطن؟.. ورغم تهافت الحجة التي يلقيها البعض على زيادة عدد السكان لتبرير تزايد معدلات الفقر، إلا أن هناك من يرون أن زيادة عدد من هم في سن العمل يعتبر ميزة لدى الدول النامية. فيقول تقري التنمية الصادر هذا العام عن البنك الدولي إن بوسع البلدان النامية التي تستثمر في تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية والتدريب على العمل ـ فيما يتعلق بالشباب من مواطنيها في الشريحة العمرية 12-24 سنة الذين بلغت أعدادهم أرقاماً قياسية ـ أن تحقق طفرة في معدلات النمو الاقتصادية، وأن تحدث تخفيضاً كبيراً في أعداد الفقراء. ويقول فرانسوا بورجينون، النائب الأول لرئيس البنك الدولي لاقتصاديات التنمية ورئيس الخبراء الاقتصاديين، "تتيح تلك الأعداد الكبيرة من الشباب الذين يعيشون في البلدان النامية فرصاً عظيمة، كما أنها تنطوي كذلك على مخاطر جمة. فهذه الفرص عظيمة ما دامت لدى البلدان قوة عاملة أكبر حجماً تتمتع بمستوى مهاري أعلى ولديها عدد أقل من الأطفال. ولكن ينبغي إعداد هؤلاء الشباب إعداداً جيداً حتى يمكنهم العثور على فرص عمل جيدة." كما يقول ماني جيمينز، المعد الرئيسي لهذا التقرير، ومدير وحدة التنمية البشرية في إدارة شرق آسيا والمحيط الهادئ بالبنك الدولي، "أمام معظم بلدان العالم النامية فترة قصيرة لوضع الأمور في نصابها قبل أن تصبح تلك الأعداد القياسية للشباب في منتصف العمر، ولن يكون بوسعها، حينئذ، أن تجني ثمار هذا الكسب الديموجرافي. فالأمر لا يقتصر على مجرد تدعيم معلومات السياسات الاجتماعية. حيث إن ذلك قد يشكل أحد القرارات العميقة التي سيتخذها أحد البلدان النامية في إطار سعيه لاستئصال جذور الفقر وحفز اقتصادها." ولا أدري، إذا كنا قد أدمنا الاستماع إلى نصائح البنك الدولي، لماذا لا نستمع إلى تحذيره من مخاطر تنامي معدلات الفقر؟ بدلا من أن نزيد من مقومات إشعال نار بات وميضها باديا تحت الرماد؛ خاصة وأن البنك الدولي لا يمكن اتهامه بأي حال من الأحوال بالتعاطف مع الطبقات الكادحة أو السعي لتأليب الطبقات؛ فهي تهمة ينفيها بشدة تاريخه وتكوينه وسياساته.

التزييف والأمن القومي
وعلى صعيد آخر، ومع تزايد عمليات تزييف العملات وتهريبها في أنحاء كثيرة من العالم، لاشك أن مهمة عصابات التزييف ستكون أسهل بعد ظهور هاتين الورقتين. وقد أثبتت التجارب الماضية في العالم كله أنه كلما تطورت الأساليب الفنية لحماية العملات من التزوير، كما زاد المزيفون جهودهم للتحايل على هذه الأساليب واختراقها.، بما يهدد اقتصاد الدولة ؛ بل وسيادتها أيضا. ولعل لنا عبرة فيما ذكرته مؤخرا صحيفة "سكوتلند أون صنداي" البريطانية مؤخرا ونقلته عنها وكالات الأنباء من أن ألمانيا النازية لجأت لتزوير أكثر من 130 مليوناً من الأوراق النقدية البريطانية التي جرى استخدامها من قبل الجماعات اليهودية السرية لتأسيس دولة إسرائيل. وذكرت الصحيفة أن "الأوراق النقدية التي زورتها ألمانيا النازية على يد السجناء في معسكرات الاعتقال استُخدمت لتغطية نفقات نقل اليهود إلى فلسطين التي كانت تحت الاحتلال البريطاني وشراء أسلحة للقوات المسلحة الإسرائيلية الوليدة لاستخدامها ضد البريطانيين والعرب". وكان المصدر الذي استقت منه الجريدة معلوماتها كتابا للصحفي الأمريكي السابق في مجلة "تايم" الأمريكية لورنس مالكين، ويتضمن تفاصيل عن مساعي ألمانيا النازية لتقويض الاقتصاد البريطاني ولجوئها إلى طبع أوراق نقدية لبنك إنجلترا (المركزي) بلغت 132 مليون جنيه إسترليني خلال الحرب العالمية الثانية لتحطيم هذا الاقتصاد، مشيرة إلى أن هذا المبلغ يعادل اليوم 3 مليارات جنيه استرليني. وأضافت أن "الخطة الألمانية فشلت، غير أن مصرف إنجلترا اضطر وقتها لسحب جميع الأوراق النقدية من التداول والتي بلغت قيمتها أكثر من 5 مليارات جنيه إسترليني وحتى السنوات الأولى من الستينات." وقالت الصحيفة إن "فريقاً من المزورين وخبراء الطباعة تم جمعه من بين أوساط اليهود المحتجزين في معسكرات الاعتقال النازية لتزوير الأوراق النقدية البريطانية والتي انتهى قسم كبير منها بين أيدي الجماعات اليهودية السرية بنهاية الحرب العالمية الثانية". وضافت أن "النازيين لجأوا إلى عمليات غسل ملايين الجنيهات الإسترلينية عبر برامج من ضمنها استخدام رجال أعمال في أوروبا المحتلة أخفوا هويتهم اليهودية ومن بينهم يعقوب ليفي تاجر المجوهرات الناجح وخبير التحف الفنية خلال مرحلة ما بعد الحرب في ألمانيا" . وأشارت الصحيفة نقلاً عن الكتاب أن "ليفي زوّد اللاجئين اليهود في شمال إيطاليا الهاربين من الجنوب إلى إسرائيل بكميات من الجنيهات المزورة خلال الأسابيع التي تلت نهاية الحرب في أوروبا في مايو 1945، كما سلم مبالغ كبيرة تصل إلى 50 ألف جنيه إسترليني من الأموال المزورة إلى منظمي رحلات نقل اليهود الناجين من المحارق النازية من أوروبا إلى إسرائيل."
ألا يجدر بنا أن نتوقف قليلا لنتأمل، لا في تحذيرات اليساريين وذوي الميول الاشتراكية، وإنما فيما ورد بتقرير البنك الدولي عن التنمية لهذا العام، وتحذيره من استمرار السياسات المؤدية للإفقار؛ وفيما نقلته صحيفة بريطانية نقلا عن كتاب لصحفي أمريكي عن مخاطر عمليات التزييف على الاقتصاد القومي والأمن القومي؛ لنعيد النظر قليلا، قبل أن نقفز إلى المجهول؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كا?س العالم للرياضات الا?لكترونية مع تركي وعلاء ???? | 1v1 ب


.. فـرنـسـا: أي اسـتـراتـيـجـيـة أمـام الـتـجـمـع الـوطـنـي؟ •




.. إصابة عشرات الركاب بطائرة تعرضت لمطبات هوائية شديدة


.. حزب الله يحرّم الشمال على إسرائيل.. وتوقيت الحرب تحدّد! | #ا




.. أنقرة ودمشق .. أحداث -قيصري- تخلط أوراق التقارب.|#غرفة_الأخب