الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرب على العراق وسقوط نظرية صراع الحضارات

منصف المرزوقي

2003 / 6 / 24
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


 .

كل من يعيد اليوم قراءة مقالة هنتنجتون الشهيرة التي نشرت سنة 1993 حول صراع الحضارات،  يكتشف أنها كانت تعكس رؤيا البنتاجون للعالم وتبحث عن غطاء نظري لسياستها التي نرى اليوم آثامها في العراق .
إن حربنا اليوم ضدّ عودة الامبريالية لا بدّ أن يتزامن أيضا مع حرب ضدّ هيكلها الأدولوجي وتفكيكه  وهو أمر سهل ونحن نعايش سقوط هذه النظرية فكريا وسياسيا .
بقول المفكر الفرنسي الكبير التوسر أن المعارك النظرية هي معارك سياسية في الفكر . فالإنسان عندما يدافع أو  يفرض رؤيا معينة فإنه يدافع أو يفرض خيارا سياسيا  وهذا الخيار ينطلق دوما من قراءة للظواهر وكيفية لتنظيمها تحرّكها إرادة التفويض لأهداف واعية أو مطمورة .و الفرق الوحيد بين العلم والايدولوجيا أن تنظيم الظواهر يقع في العلم  وفق قواعد المنطق ثم يأتي الاستعمال في حين تنطلق الايدولوجيا من التفويض لترغم الظواهر على الانخراط في الشكل الذي تريد أن تعطيه لها.
وتشكل من هذا المنطلق نظرية الأمريكي سامويل هنتنجتون النموذج على هذا النوع من الفكر الايدولوجي حيث تتم قراءة الظواهر وفق مخطّط سياسي مسبق هو التشريع للجهاد على الطريقة الأمريكية  ليصبح لإرادة الهيمنة مبرّر نظري يضفي عليها شرعية المسلمات التي تفرض نفسها بنفسها لأنها الحقيقة العلمية .
وهو يقول أن الصراع مستقبلا لن يكون بين الايدولوجيات والأمم وإنما بين الحضارات بما هي أعلى مستوى للإنتماء والهوية .. وأوّل ما يظهر الضحالة العلمية للنظرية هو التقسيم لهذه الهويات المصارعة اليوم وغدا.
لنذكّر أن هنتنجتون يقسّم الإنسانية إلى ثماني حضارات: الغربية   والمسيحية -الأرثوذكسية والإسلامية واليابانية  والكونفشيوسية  والجنوب- أمريكية والهندوسية وواضعا موضع التساؤل وجود حضارة زنجية افريقية.
ومن المعروف من الناحية العلمية أنّك إذا صنّفت ظواهر ما فيجب أن تكون أداة التصنيف واحدة فإن أنت صنّفت أطفال قسم حسب الطول فيجب أن تعتمد المتر أو البوصة وإذا صنّفت أنواع أمراض السكّري فيجب أن يكون ذلك وفق حاجة المريض من عدمها للأنسولين . لنلاحظ كيف يقسّم هنجتون الحضارات المزعومة فثمة تارة تقسيم جغرافي ( اليابان- أمريكا اللاتينية)  وتارة ديني (الاسلام –الكنفوشية – الهندوسية) ومرّة مذهب ديني ( الأرثوذكسية)
وتتضح الضحالة الفكرية والعلمية للنظرية عندما يعتبر أمريكا اللاتينية حضارة وما على الانسان إلاّ أن يتخيّل الهوية المشتركة والشعور بالانتماء لنفس الثقافة بين الأرجنتيني ( الذي قيل عنه أنه إيطالي يتكلّم إسباني ويعتبر نفسه بريطاني ) وبين البرازيلي ساكن ولاية باهيا وهي قطعة من نيجيريا وبين السكان الأصليين في البيرو وبوليفيا .
ولوتقدّم هنتنحتون برسالة دكتوراه في أي جامعة مهما كانت درجة تخلفها العلمي لطلب منه بأدب أن يذهب لتعلّم أبجديات التفكير العلمي ومن ثمة استغرابي الدائم للضوضاء التي أحدثت حول هذه النظرية وذلك إلى حدّ فهمي أنها جزء من آلة دعاية رهيبة  تهشمت لحسن الحظّ على أحداث الحرب  .
لكن لنفتعل قبول تقسيم  مفكّر البنتاجون لاستعماله لمشروعنا السياسي الخاص.
 تتشكّل الحضارة  بمفهومها الأوسع من مجموعات بشرية تحتلّ موقعا معينا من الفضاء والزمان،  تجمع بينها ثقافة مشتركة أي جملة المعتقدات والمواقف والتصرفات والقيم والتقنيات  التي تميزها عن حضارة مختلفة فتعطيها هويتها .
ولو طبقنا تعريفنا هذا على أي مجموعة بشرية بغض النظر عن حجمها لاستطعنا أن نقول أنه يوجد في مدينة نيوورك حضارات تختلف من حيّ هارلم إلى حيّ البرونكس أو حيّ الكوينز . وقد يحتجّ علينا أحد بالقول أن نبالغ بتسمية  حضارة هارلم أو البرونكس انطلاقا من تشابه السكان في جزئيات وتباعدها في تفاصيل أخرى, فهذه المناطق هي أجزاء من كلّ هو الحضارة الأمريكية التي هي بدورها جزء من الحضارة الغربية.
 وهذا بالضبط ما نريد أن نخلص إليه . فنحن أمام أجزاء صغيرة  داخل  أجزاء كبيرة  داخل أجزاء أكبر. إن القضية بالأساس مرتبطة  بمستوى الملاحظة كما هو الحال في المراقبة الجوية . فإن أنت كنت قريبا من الأرض تبلورت لك المظاهر في شكل غير الذي تتّخدّ وأنت تشاهدها من علوّ عشرة آلاف متر وهي بالطيع جدّ مختلفة وأنت تبصرها من الفضاء.
معنى هذا أن تقسيم هنتنحتون للحضارات ناجم عن موقع مراقبة اختاره مسبقا حتى تتبلور المظاهر التي هو بحاجة لإبرازها لتبرير سياسة معينة. 
لنرتق  الآن إلى موقع مشاهدة أعلى من الموقع الذي توقف عنده الرجل بحثا عن القواسم المشتركة التي توحد بين الأجزاء مهما كبر حجمها لتندمج في شكل اكبر يحتويها كما احتوت الحضارة الأمريكية حضارة هارلم وكما احتوت الحضارة الغربية الحضارة الأمريكية.
إن البحث عن القواسم المشتركة التي يمكن أن تجمع بين الحضارات التي جزّأتها نظرة هنتجتون ستظهر بوضوح أن الحضارة العربية الإسلامية  والحضارة الغربية تنتميان إلى جسم واحد يمكن تسميته بالحضارة المتوسطية ويشكل الغرب الحالي جزئها الشمالي بينما تشكل الحضارة العربية جزئها الجنوبي. وليس من الصعب التدليل على موضوعية هذا التقسيم الجديد من موقع المراقبة الأوسع والأرفع الذي اخترناه. فمن يستطيع إنكار  الجذور المشتركة للحضارتين وهما تتقاسمان نفس الإرث المصري والاغريقي القديم  ونفس العنصر الديني التوحيدي . لنذكّر هنا بنظرية فرويد التي تجعل الديانات الكتابية الثلاث تنحدر من أصل واحد هو دين أخناتون أول من نادى بالتوحيد.من يستطيع أن ينكر كذلك  التلاقح المتواصل بين الحضارتين ؟  فلولا لم يحافظ العرب على التراث الإغريقي لنقله لأوروبا لربما تلاشى وهم  لم يحافظوا على هذا التراث إلا لقربه منهم و إلا ما كانوا أعاروه أدنى اهتمام . إن كل من يعرف شعوب حوض البحر الأبيض المتوسّط يدرك عمق الشبه بينها في عاداتها وتقاليدها بالرغم من اختلاف اللغة والدين لأن الدعامة الصلبة التي بناها تاريخ عمقه خمسة آلاف سنة واحد  وعلى هذه الركيزة الواحدة تطورت التباينات . و من وجهة نظر التاريخ فإن هذه الحضارة المتوسطية،  أم الحضارتين،  هي التي توسعت في حلقات متزايدة القطر لتحمل للسلافيين الفن الإغريقي والفن المعماري العربي لأمريكا الجنوبية والمسيحية،  هذه الديانة الشرقية ،  إلى ضفاف بريطانيا  أيرلندا ثم إلى ما يسمى اليوم بالولايات المتحدة. إن الحدود الحقيقية بين الشرق والغرب لا تمرّ في منطقة الشرق الأوسط وإنما على حدود الهند حيث تبدأ فعلا حضارة متميزة باختلافات جذرية عن الحضارة المتوسطية أهمها الدين والفلسفة والعادات .
ومن نافلة القول أننا نستطيع توسيع رقعة الملاحظة والارتفاع بمستواه إلى علوّ أكبر كما يفعل البصر وهو ينتقل من الرؤية من الطائرة إلى الرؤية من المكوك الفضائي .آنذاك يتضّح أن كل الحضارات الإنسانية واحدة في منظوماتها الأساسية خاصة إن قارناها بما يصعب تسميته بالحضارات الحيوانية أي بطرق عيش الكائنات الحية التي تقاسمنا الأرض والتي يكتشف العلم يوما بعد يوم أنها أبعد ما يكون عمّا نلصقه بها من وحشية وبدائية وبساطة .
ومعنى هذا أنّه يوجد مستوى من الشعور بالانتماء يمكن تسميته بالانساني يتوج طوابق هوية شخصية ، عائلية ، قبلية، وطنية ، قومية ،دينية .هذا الطابق الأخير الذي تجاهله الرجل هو الذي حرك الشارع الغربي ومنه الشارع الأمريكي
بقوة وكثافة أظهرت أن هنتنجتون يجهل العصر الذي يعيش فيه فلو كان الصراع بين الحضارات كما يقول لما رأينا مليون إسباني ونصف مليون إنجليزي ومئات الآلاف من الأمريكيين يتنصرون لقوم لا تجمعهم معهم هوية مشتركة بل يفترض منهم أنهم أعداء بالطبع والسليقة .
 يبقى علينا التعامل مع الجزء الثاني من رؤيا هنتنجون أي قضية الصراع الذي يفترض فيه أنه حتمي. إن هذا الجزء من الرؤيا هو بيت القصيد ولا بدّ هنا من التركيز مرّة أخرى على البعد السياسي لها فليس من باب الصدفة أن تكون النظرية حجر الزاوية في السياسة الأمريكية .
فعلى سبيل المثال لا بدّ أن تبدو الصين التي تهدّد أولوية الولايات المتحدة الاقتصادية كلاّ متجانسا ولا بدّ من بلورة  حضارة إسلامية رغم تعدّد مكوناتها وصراعاتها الداخلية حتى يوجد العدوّ الذي تحتاجه العسكريتاريا الأمريكية لتبرير وجودها بعد اختفاء البعبع الشيوعي.  ولا شيء  يوضّح البعد الدعائي والتحريضي والتبريري لمقولة صراع الحضارات قدر قول الرجل بوجود علاقة تآمر بين الحضارة الاسلامية والحضارة الكونفوشية أي بين العرب والصينيين والحال أن الأمة العربية لا تتبادل مع الصين ثقافيا أو تجاريا أو عسكريا إلا النزر القليل. ولو عدنا لخطابات الرئيس بوش لاكتشفنا أنها تنضح بهذا الموقف , فكلنا يذكر زلة اللسان الشهيرة أعقاب الحادي عشر من سبتمبر حول الحرب الصليبية التي يجب أن تشهر على الإرهاب ثم وقع التراجع السريع في استعمال المصطلح لكن بوش بقي مصرّا على عقلية الحرب الصليبية حيث يرى  أن الحرب اليوم هي بين قوى الخير وقوى الشرّ وأنه لا وجود فيها إلا لعدوّ أو حليف.
 صحيح أن الإدارة الأمريكية تردّد طول الوقت أن حربها مشهرة ضدّ الإرهاب وليس ضدّ الحضارة العربية الإسلامية لكن العرب والمسلمين مقتنعون بالعكس لأن الكلمات المعسولة لا يمكن أن تغطي على السياسة الصارمة التي تريد التحكّم ليس فقط في الموارد البترولية لهذه الأمة وإنما في برامجها الدراسية وفي الواقع فإن الإدارة الأمريكية تريد أن تجعل منا حضارة   تحت الانتداب  وهو طموح سيتضح  سخفه . 
 ومن نافلة القول أن  الإيمان بأنه لا حلّ أمام التناقض الجذري بين المتنازعين  سوى صراع الوجود  ، تشريع للعدوانية.وهذه النظرة الداروينية مرعبة من جهة  لما تحمله في طياتها من عنف مدمر ومشرّع لموبقاته من قبل ذاته ومن جهة أخرى لخطأها الكامل الذي يجعل ما تتسبّب فيه من عذاب للبشرية بدون ضرورة أو جدوى وإنما عربدة الهذيان وقمة الهوس.
 وبخصوص  هذه النظرية التي يحاول هنتنجتون تسويقها في ميدان الحضارات بعد أن سوّقها منظّروا أقصى اليمين الأوروبي  في ثلاثينينات القرن الماضي لتبرير المشروع البربري للنازية ، يقول كثير من علماء البيولوجيا بقصورها حيث لا يمكن للصراع وحده أن يفسر بقاء جنس ما وإنما يجب أن يكون هناك قدر كبير من التعاون داخل أفراده  وثمة أكثر من صلة  تعاون تربط  بين أجناس حيوانية مختلفة لتقاسم مشقة الوجود. 
إن سذاجة التصوّر وحتى بدائيته لا تخفى على من يتأمل التاريخ .صحيح أنه حافل بالمعارك والصراعات ، لكن مفكّر البنتاجون نسي أن يستعمل علما من بين العلوم المفضلة لدى علماء الستراتيجيا الكونية أي الإحصائيات . فلو طبقها بحثا عن تكلفة الحروب من القتلى  بين الحضارات كما عرّفها بالمقارنة مع ما كلفته الحروب الأهلية لاكتشف أن الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر كانت المحرقة التي حصدت من الأرواح الأمريكية أكثر من كل الحروب خارج الحدود على يوم الرحمان هذا. ولو قارن بين تكلفة الحروب الأهلية الأوروبية ومنها  ما سمي خطأ وتجاوزا الحرب العالمية الأولى والثانية بالمقارنة مع تكلفة حروب أوروبا وبقية العالم لاكتشف نفس الحقيقة المدهشة . وهذه قاعدة هامة فالحروب الأهلية العربية على مرّ تاريخنا كلفتنا أكثر بكثير من كل حروب الفتح والدفاع ضدّ الأمم  الأخرى .
وحتى لا نتهم بالتجنّي على التاريخ في محاولة تفويض ساذج  لقراءتنا  السياسية،  أسارع بالقول أننا لا نجادل في كون التاريخ البشري تاريخ دموي حافل بالصراع وإنما نركّز فقط على حقيقتان لا جدال فيهما الأولى هي التي تعرضنا  لها والثانية أن الصراع سواء كان بين الأفراد أو الشعوب أو الحضارات هو النصف الفارغ من الكأس .أمّا النصف الملآن فهو التعاون المتواصل بين هؤلاء الأفراد  والشعوب والحضارات ولولاه لاستحال العيش .
فالقاعدة الكبيرة الأخرى التي عرفها التاريخ هي التلاقح والتواصل بين الشعوب والحضارات إلى درجة أنه يمكن القول أن الصراع ليس إلا وسيلة في خدمة  هذا الهدف الذي يتحقق  سلما وببطء اغلب الوقت وعبر لقاءات عنيفة وانفجارية مهمتها الأساسية فتح الطريق للتبادل وزيادة حجمه ورفع العوائق في وجهه . ومعنى هذا أن قدر الحضارات ليس أن تتصارع من أجل البقاء والأولوية وإنما أن القوّة الخفية التي تحرّكها تدفعها للتلاقي والتبادل ولو بثمن الصراع أحيانا.
إن  الحضارات الوهمية  التي يتحدّث عنها هنتنجتون   هي كيانات لها حدود واضحة ولها نقاء يشكل ما تتميز بها وفي حال الحضارة الغربية ما تمتاز به . أما الحضارات الحقيقية فهي  بدون حدود  و  بدون نقاء حتى وإن كانت لها خصائص مميّزة. فهذه حضارة الشرق الأقصى التي يسميها البوذية تستورد حجر الزاوية فيها أي بوذا من الحضارة الهندوسية وها هي الحضارة الغربية بمفهومها العادي تبني لعصور أهم ما فيها على ديانة مستوردة من فلسطين . و لا يخفى اليوم على أحد ما تدين به الحضارة الإسلامية للإغريق وحتى للهند الذي أخذت منها أرقامها . ونحن اليوم في عصر تكثّف فيه هذا  التداخل الحضاري بكيفية أصبحت تستعصي على الفصل وكل محاولة من هذا القبيل ستكون بمحاولة فصل توأمان ولدا بجدع واحد.
إن هنتنجتون لا يخفي مقاصده في المقالة الشهيرة حيث يوصي في آخرها بجملة من السياسيات الكبرى منها أساسا محاصرة الخطر الصيني والخطر الإسلامي وتوسيع رقعة الحضارة الغربية لأمريكا اللاتينية  وتمتين الصلة بين الجزء الأوروبي والجزء الأمريكي حتى تكون القلعة الغربية حصينة إلى الأبد.
وقد جاءت سياسة الإدارة الأمريكية في العشرية الأخيرة تطبق هذه الرؤيا  ومنها الحرب الحالية على العراق لكن النتائج كانت عزلة أمريكا في العالم وانقسام المعسكر الغربي بكيفية لم يسبق لها مثيل وظهور شعور الانتماء  للعالم خاصة عند  الشباب الغربي  وتوسّع الحركات الإسلامية وتزايد وزن الصين  وكل هذا دلائل على ورطة النظام الأمريكي وورطة نظرياته ومنظريه.فكل مقولات المؤمنين بصراع الحضارات فاسدة علميا وسياسيا وستدحضها أحداث المستقبل أكثر فأكثر . إن الإسلام يقرن خطأ في الذهن الغربي بالعرب وفي هذا جهل من جهة  بأننا أمة تتكون من أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية  ومن جهة أخرى بأن هناك، بالرغم من المحافظة  على الثوابت الأساسية  ، إسلام أيراني جدّ مختلف عن الإسلام العربي الذي يختلف بدوره عن إسلام إفريقيا السوداء أو إسلام اندونيسيا  ناهيك عن إسلام سود أمريكا. وقد تأقلم الإسلام دوما مع الشعوب التي انتشر فيها ليطبعها بطابعه ويتأثر بها في إطار قانون التلاقح الحضاري مثبتا  مرونته التي مكنته من التواصل عبر القرون في بيئات حضارية مختلفة . إن وجود أكثر من عشرة مليون مسلم داخل البلدان الغربية واكتساب الأغلبية لجنسية بلدان التواجد وتتابع أجيال مسلمة الأصول ومرتبطة بمسقط الرأس،  لا يعني شيئا آخر غير نشأة إسلام غربي سيتشبع ببيئته الغربية ويفعل فيها فعله البطيء العميق مصبحا جزءا لا يتجزّأ من ثقافة غربية لم تكتمل بنيتها  وإنما هي ككل الثقافات بناء مستمرّ لن ينتهي إلا بنهاية التاريخ.
وإنها نفس الورطة التي يجد فيها أنفسهم منظرو العداء للغرب عندنا ،  فهم ينسون أن كثيرا من أفكار وتقاليد وعادات الغرب قد أصبحت جزءا لا يتجزّأ من عاداتنا وتقاليدنا وأفكارنا،  كما يتناسون أن الغرب في المطلق لا يوجد مثلما لا يوجد إسلام في المطلق .ففي الحالتين نواحه بأن هذا الآخر الذي نريده عدوا واضحا بحدود واضحة هو جزء من الكيان الداخلي فكيف نصارعه وهو في قلب ما نعتقده خصوصيتنا التي نتميز بها عنه ؟
ولا بدّ هنا من التعبير عن الرفض المطلق لي س فقط لنظرة هنتجتون للعالم وإنما لشبيهها ونقيضها أي نظرة بن لادن عندما يقدم هو الآخر الصراعات السياسية الحالية كصراع الإسلام ضدّ النصارى واليهود.
 فالنصارى  جزء لا يتجزّأ من الأمة العربية وهل يمكن تصوّر الحضارة العربية اليوم بدون جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وفيروز ناهيك عن الأخطل وغيرهم كثيرون حاضرا وماضيا ومستقبلا. إن الصراع اليوم ليس الصراع الخير ضدّ الشرّ بقدر ما هو صراع المنطق والمعرفة  والتحليل ضدّ التعصّب   والجهل والتبسيط والتعميم  أيا كان المصدر. ونحن اليوم أمام هجوم كاسح لمثل هذا التفكير الذي يجعل من كل مسلم إسلاميا ومن كل إسلامي  إرهابيا  وهو موقف بذكاء قائل في السبعينيات أن كل روسي شيوعي وكل شيوعي من الخمير الحمر. وبالمقابل لا يجوز للعرب والمسلمين أن يتحدثوا عن الغرب ككل وعلينا أن نفرّق دوما بين مستويات ثلاثة له وهي  القيم والإنجازات  الحضارية التي لنا الحق في الأخذ منها و الأنظمة السياسية  وخاصة الإدارة الأمريكية التي  تدعم السفاح شارون و الدكتاتوريات  العربية  و تخصص للديمقراطية العربية صدقة تافهة  وأخيرا و ليس آخرا المجتمعات المدنية التي هي حليفنا الأول ضدّ  استبداد حكامنا ونزعة الهيمنة عند حكامهم ، هذه المجتمعات المدنية التي تتظاهر ضدّ العولمة المتوحشة وضدّ الحرب المتوقعة على العراق  وضدّ سياسة الابادة لشعبنا العربي في فلسطين .
إن النتيجة المنطقية الوحيدة التي نستطيع استخلاصها من التاريخ  أن الحضارات البشرية في صراع وفي حوار لا يفتران ، أن صراعها حوار وحوارها صراع ، أن التشابك والتداخل والتبادل قانون القوانين وأن محاولة إيقاف هذا التلاقح كمحاولة التعرّض للألواح المتحركة التي تحمل القارات .
إن منظروا الصراع فهم متخلفون عن واقع زمنهم وفي صراع مع ما يتطلبه الوضع الحرج لإنسانية  مواجهة أكثر من أي وقت مضى بخيار مصيري هو أن ننجو معا أو أن نغرق معا لأن المركب واحد والعواصف واحدة ولا مجال لأحد أن ينجو على حساب أحد إلا لفترة تنقص مدتها باحتداد الأزمة البيئية والأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية التي يتخبّ فيها العالم . ونحن مناضلوا حقوق الإنسان العرب اخترنا أن نكون في صفّ الصراع بالحوار لأيماننا أنه ما تتطلبه منا المرحلة التاريخية غير جاهلين بأن هناك قوى أخرى تفضل الحوار بالصراع وتتأهب لإغراق العالم في حرب  عقيمة بين إرهاب الدولة و إرهاب الجماعات اليائسة .
وفي هذه الظروف العصيبة والمنعشة في آن واحد ،  لا بدّ لنا من مضاعفة الجهود لنقوم بدورنا في إطار مجتمعاتنا المدنية العربية الإسلامية وبالتعاون مع المجتمعات المدنية في الغرب وفي أنحاء العالم  لتوسيع التضامن العالمي الرائع مع قضايانا في العراق وفلسطين وتعميق الورطة الفكرية والسياسية والأخلاقية التي دخلتها الإدارة الأمريكية حتى تفهم أن هذا العالم لا سيد فيه وأنّه ليس بقدرة أحد أن يملي إرادته على البشرية أو أن يرسم لها طريقا غير الذي تختاره  وتحدّده ألف عامل وعامل ليست إرادة الهيمنة  لأمّة جديدة على التاريخ إلا واحدا منها .

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تحذر من -صيف ساخن- في ظل التوتر على حدود لبنان | #غر


.. البيت الأبيض: إسرائيل وحماس وصلا إلى مرحلة متقدمة فى محادثات




.. تشاؤم إسرائيلي بشأن مفاوضات الهدنة وواشنطن تبدي تفاؤلا حذرا


.. هل يشهد لبنان صيفا ساخنا كما تحذر إسرائيل؟ أم تنجح الجهود ال




.. بسبب تهديد نتيناهو.. غزيون يفككون خيامهم استعدادا للنزوح من