الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفانتازيا في مجموعة -سقف السيل- محمد عارف مشة

رائد الحواري

2024 / 1 / 26
الادب والفن


الفانتازيا في مجموعة
"سقف السيل"
محمد عارف مشة
في هذه المجموعة يستخدم القاص أكثر من شكل في القص، فهناك قصص جاءت من خلال أنا القاص، وأخرى من خلال القص الخارجي، كما أنه أهمل ذكر المكان ولم يحدده، فمن لا يعرف أحياء عمان، بالتأكيد سيحتار أين يوجد "سقف السيل" وهذا يعود إلى أن المجموعة تتحدث عن حالة الإنسان في مدينة، المدينة المضغوطة التي تطحن الإنسان وتجعله في حالة صراع دائم مع الواقع، مع الحياة.
وبما أنه كاتب وأديب وقاص فقد تناول واقع الأديب/الكاتب في أكثر من قصة، كما تناول الأطفال وأثر الفقر عليهم، وأعتقد أن حجم القصص القصيرة، فالمجموعة مكونة من خمس وعشرين قصة جاءت في أقل من تسعين صفحة، وهذا الحجم يشير إلى أن القاص اعتمد على التكثيف وأخذ الزمن/العصر الذي يميل فيه القارئ إلى النصوص القصيرة، وهذا ما جعل المجموعة عصرية بكل معنى الكلمة.

من يتابع ما يكتبه محمد عارف مشة من قصص يجد أنه يعتمد على الحركة السريعة، وتتابع الأفعال، مما يجعل المتلقي يشعر أن هناك حدث مهم، لهذا القاص يسرع في سرد القصص، هذا على صعيد طريقة تقديم القصص، أما على مستوى اللغة فهو يستخدم لغة سلسة وسهلة مما يجعل القارئ ينسجم مع الأحداث وما يقص عليه، ولكي يكون القاص مقنع نجد "محمد عارف مشة" يعطي مساحة لشخصيات القصة لتتحدث بما تريد، واللافت في هذه اللغة أنها تنسجم مع طبيعة الشخصية، فالقاص لا يُنطق الشخصيات بل هي تتحدث بطبيعتها وحسب مستواها الثقافي، وهذا ما وجدناه في قصة العنوان "سقف السيل" عندما تحدث الأطفال بلغتهم:
"أمي سأصبح دجاجة عندما أكبر.
ولماذا دجاجة؟
لكثرة ما صرفت لنا وكالة الغوث من بيض" ص6، نلاحظ أن اللغة لغة طفل، لهذا لم يتدخل فيها القاص، وجعله يتحدث كما يريد وبالمنطق الذي يفكر به، مما جعل لغة القصة منسجمة مع طبيعة الشخصيات، بينما نجد لغة الأم ناضجة وتعبر عن قلقها لغياب الأب: "أمي متى نتناول طعام العشاء.
عندما يأتي أبوك" ص7، هذا الهامش من الحرية جعل القارئ يشعر بأنه أمام قصة (شعبية) قريبة منه، فالشخصيات تتحدث بلغته بعيدا عن اللغة المعجمية، وبما أن المكان شعبي "سقف السيل" والشخصيات كذلك، فنجد الأسرة تعيش في مخيم، والأب يعمل عامل مياومة وفي أي عمل يتاح له، فهو من العمال الذي يتجمعون قرب مسجد الحسين وسط العاصمة عمان، منتظرين حتى يأتي من يريد عمال ويأخذ حاجته منهم، وبهذا تكون الشخصيات والمكان قريبة من المتلقي الذي يقرأ عن شخصيات ومكان قريب منه، القاص ينهي القصة بفاجعة: "أستيقظ الصغار صباحا على صوت صراخ وبكاء على رجل، سقطت عليه صخرة في منجم الحجارة" ص7، في هذا النهاية يجد القارئ (تبريرا/تفسيرا/تعليلا) للحركة السريعة التي بدأ بها القصة، فجاءت البداية السريعة والتي تشير إلى حدث مهم يجري، منسجمة مع النهاية المحزنة.
ومن القصص سريعة الحركة "الخاص ممنوع" حدث يستخدم القاص مجموعة مشاهد قصيرة جدا، يمكن أخذها إلى قصص قصيرة جدا، قدمت على شكل قصص (بوليسية) لكن بعدها يدخلنا القاص إلى أحداث أخرى متعلقة بالمخرج والمنتج والممثل، بطريقة تشير إلى حالة الصراع/الخلاف بين (طبقات) المجتمع، واللافت في هذه القصة أنها قدمت من خلال القاص الخارجي، وليس أنا القاص كما سبقها من قصص، فالشكل القصير لهذه القصص لم يتح للقاص ليتحدث بنفسه، فكان القاص الخارجي هو الأنسب.
للأطفال مكانة عند القاص، لهذا نجده يتحدث عن هموم الطفولة في قصة "كوراستان" فبعد أن تعطيه أمه ثمن الكرة ويذهب فرحا إلى البائع ليشتريها، إلا أنه يتفاجأ بأن ثمنها أصبح ستة قروش وليس خمسة.، نلاحظ في هذه القصة اللغة السهلة والسلسة، وطريقة القص (عادية) بعيدا عن الفانتازيا أو تداخل/تشابك الأفكار أو الأحداث، وهذا يشير إلى أن القصة كتبت من خلال عقلة/لغة الطفل، فالقاص كتبها من خلال عقله الباطن، عقل الطفل الذي يسكنه، لهذا قدمها بهذا الشكل العادي.
وفي قصة "فاطمة الشنيعة" يتحدث عن أثر اللقب على الطفلة "فاطمة" التي عمدت على تجاهل اسمها "فاطمة" لتلقب مكرهة ب "الشنيعة" حتى أنها أثناء محاورتها للمعلمة أكدت أن فاطمة ماتت:
"ما اسمك؟
شنعة
اسم أبيك؟ بم ينادون عليه؟
"أبو فاطمة" اسمي شنعة
وأين فاطمة حسن؟
ماتت أجابت فاطمة" ص63، اللافت في القصص التي تتناول الأطفال بساطتها، وعدم تعقيد الأحداث فيها، وهذا يشير إلى أن القاص حريص عليهم وعلى طريقة إيصال الفكرة لهم، لهذا يلجأ إلى البساطة والسلاسة.


الفانتازيا
قصة "الذي سرق لساني" قدمت بشكل غير عادي، فالقاص يبدأ القصة منتظرا فتاة لكنه يجذبه منظر شيخ كبير السن، إلا أن هذا الشيخ ينفر من القاص رغم الابتسامات العديدة التي أظهرها القاص له، حتى أنه يترك مكانه ويبدأ بالابتعاد عنه، مما دفع القاص للحاقه وأثناء ذلك يتعثر بامرأة ويسقط فوقها مما يزيد في حيرته وإرباكه، يسمع صوت ملاحقيه، وهنا يتحول القاص من مطارد للشيخ إلى مطارد من آخرين، تشير له المرأة بالتوجه إلى مكان مظلم، حتى يصل إلى باب، وهنا يتفاجأ بوجود شاب ضخم يضغط عليه، وهنا تظهر المرأة من جديد وتحاوره بطريقة ساخرة وهنا يحاول القاص استعادة شيء من وعيه: "تحسست رأسي فلم أجده .. عيني .. فمي.. صرخت، فلم يخرج الصراخ، الصراخ من فمي، فصرخ رجل يشبهني يرتسم على الجدار أمامي وصرخ في وجهي: "من سمح لك أن تصرخ من فمي؟" وهنا يتفاجأ القاص مرة أخرى برد الظل الذي يشاهده: "لقد كان هذا فمك، قبل أن تقوم بتأجيره، وقد أصبح الآن لي، ثم قام بقطع لساني.. وبقيت معلقا على الحائط" ص10و11، اللافت في هذه القصة الحركة السريعة، وتبديل دور القاص من مطارد للشيخ إلى مطارد من آخرين، وتحويل الفتاة المرغوبة إلى امرأة منفرة، وحضن المرأة إلى ذراعي شاب قوي، وفمه إلى فم شخص آخر، وفي نهاية القصة أصبح لا شيء "معلق على الحائط وكأنه ليس أكثر من صورة.
وإذا ما توقفنا عند عنوان القصة "الذي سرق لساني" والحوار الساخر بين القاص والمرأة وبين القاص وظله، نصل إلى الفكرة التي أراد تقديمها، تكمن في أن الإنسان عندما يبيع نفسه/صوته لا يعود موجودا، ويمسي مجرد صورة ليس لها أي فاعلية/وجود على أرض الواقع، فالذي سرقة لسان القاص هو القاص نفسه عندما باعه وتخلى عنه مقابل ثمن، فبعد أن كانت/كان له فتاه أمست امرأة، وصراخه/صوته لم يعد موجودا وليس له أي صدى/دوي كما كان وهو يملكه، وقبل أن يبيعه.
في قصة "خرفاستان" يتقمص القاص دور خاروف ويتحدث عن مشاعره عندما يرى السكين وهي تلاحقه وعائلته: "هل أكون أنا أول من تنال السكين من جسده" ص17، لكن بعدها يتخذ قرارا في مواجهة السكين من خلال هذا الطرح: "لم أسمح للسكين بذبحي دون مقاومة" ص19، اللافت في هذه القصة طرح فكرة المقاومة وعدم الاستسلام/التسليم بالواقع، فالقاص ألغى/أهمل وجود الجزار وركز على السكين، أداة الذبح، وكأنه من خلال تجاوز الجزار أراد تتفيه دور الجزار، وتوجيه اهتمام القارئ إلى أداة الذبح، السكين التي يمكن أن يحملها أي جزار، ودون هذه الأداة/السكين يفقد الجزار دوره.
في قصة "لوحتان وامرأتان" يتحدث في اللوحة الأولى عن حالة (جنون) تتجاوز، "رجل يعتبر نفسه يعرف امرأة لأنه جلس بجانبها قبل سنة، وعندما يعرفها باسمها "فتحية" تنفي، وبعد أن يتمادى أكثر في حواره تخبره "لا اسم لها" لكي يتركها وشأنها، تأخذ في الابتعاد عنده إلى أن تأتي حافلة وتقلها بينما يبقى هو منتظر حافلة أخرى، وتنتهي القصة: عاد إلى غرفته اليتيمة المظلمة، تذكر أن لا إنارة فيها، دس جيده في الفراش، وراح يحلم بلقاء "لا اسم لي" ثانية" ص 42، في هذه القصة نجد فانتازيا الوحدة، الرجل بلا امرأة، وكيف أنها تنعكس على تفكيره وعلى سلوكه، ورغم أنها جاءت تتحدث عن حالة مزعجة وغير سوية، إلا أن طريقة تقديم القصة كانت سلسة مما خفف من حدة القسوة فيها.
في قصية "السكين لم تقتله" تبدأ بمشهد مسرحية يقدم بصورة فانتازيا، اللافت فيها عندما يدخل عسكريان على الأب ويأخذان التحقيق معه حول القتيل، لكن خاتمة المشهد تثير القارئ عندما طلب الأب/الكاتب/القاص من أحد العسكريين أن يجعله بطل لقصته القادمة: "لا تخشى شيئا، فقط دعني أكمل القصة إلى نهايتها، دون تدخل منك، ولو مرة واحدة في حياتي، دعني أقوم بقتلك مرة واحدة، فلقد قمت بقتلي في كل قصة آلاف المرات" ص85، ما يمز هذه القصة أنها جمعت بين الفانتازيا والرمزية، فعندما أشار القاص إلى قتل (رجل الأمن) لقصصه آلاف المرات أكد وقع الرقابة الخانق والقاتل لإبداعه.
أعتقد أن ذروة الإبداع جاء في آخر قصة، حيث قدم القاص صورة تجمع بين الفكر/الفلسفة والفانتازيا، فقد تناول مسألة الفن ومكانة/واقع الشخص/المرأة المرسومة في اللوحة: "لا أريد أن أكون هذه المرأة التي نسيها الرسام في لوحته، بعد أن ثبتها على الحائط بمسمار، كي لا تسقط عن الجدار، لتعتقد أنها في مأمن من غدر الزمن ماتت المرأة، وبقي جسدها العاري في اللوحة" ص86، إن يدخلنا القاص إلى أبعاد فلسفية/فكرية متعلقة بالفن فهذا أمر يكاد يكون نادرا، فقد أنشأ الشخصيات في اللوحة (وأحياها) من خلال الحديث عنها ككائنات حية وليست مجرد رسوم/لوحة، ولم يكتفي القاص بهذا بل جعل الشخصيات في اللوحة تتحرك وحتى أنه أخرجها من اللوحة: "تلفع العجوز بمعطفه الرث على المقعد الحجري في اللوحة، ... اهتزت اللوحة المعلقة على الجدار، ...للوحة لا تتسع لهما، فمزق إطار اللوحة الضيق، خرج من ضيق اللوحة.. كسر العجوز باب المقهى المغلق، وخرج مع البنت، فكان اتساع المدى والبحر" ص88، فهناك لم يقدم القاص فانتازيا فقط، بل قدم بعدا فلسفيا/ثويا، من خلال تحريك(الصور في اللوحة، ومن خلال إخراجها من اللوحة، وإنزالها عن الحيط ثم حركتها وخروجها من المكان/المقهى|.
هذه الثورة التي جاءت في خاتمة المجموعة تمثل دعوة من القاص للتمرد على كل ما هو كائن/ حاصل في الواقع، فمن خلال "عجوز المقهى" أعطانا دفعة للحركة، فمن قام بالتمرد هو عجوز، فما بالنا نحن الشباب نبقى ساكنين أمام هذا الظلم والقهر، وإذا علمنا أن من قام بالحركة كانت من شخصيات (جامدة) فكيف بنا نحن الذين نتحرك ونتنقل يومياّ؟
المجموعة من منشورات الآن ناشرون وموزعون، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2023.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال