الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة... 6 من 8‏

عبداللطيف هسوف

2006 / 11 / 26
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لنتحدث الآن عن مسالة مخزية أخرى ترتبط بالنظام الليبرالي الجديد. إنه نظام يخلط بين العمل والكرامة، ‏كما لو أن كرامة الشخص ترتبط بامتلاك منصب شغل وتسقط بالدخول في عداد العاطلين. لو أن كرامة الإنسان ‏كانت ترتبط فقط بالشغل، لما كانت لهذه الكرامة نفسها قيمة، فكرامة الإنسان هي قبل كل شيء كونه إنسانا. ‏والذين يقدمون البطالة على أنها اندحار مخجل، يساهمون في دعاية ديماغوجية اكتسبت رواجا شعبيا واسعا. أن ‏يحتقر أصحاب المناصب العاطلين لا يعد فقط هروبا من المسؤولية، بل إنه أيضا الرغبة في الشعور بالانتماء إلى ‏نظام أسمى في منأى عن كل التقلبات.‏
إن هذه البيداغوجية النشيطة للاحتقار هي مصدر كل المشاكل الاجتماعية والعنصرية. يجب فعلا التأسف ‏لوجودها بين أصحاب الرواتب والمعطلين. إن التضامن بين هاتين الشريحتين ليس فقط ضروريا، بل يجب أن ‏ينشأ عن وعي الطرفين بأن لا حدود بين الشغل والبطالة. دون أن ننسى أن المعطل والعامل يتبادلان الأدوار ‏داخل التاريخ المشترك للشغل والبطالة. لدرجة أن الذين كانوا يظنون أنهم محميون، يعلمون اليوم أن ناقوس ‏البطالة يرن في كل لحظة فوق رؤوسهم. إذن يبدو واضحا أ ن تلاحم الطبقتين أصبح ضروريا لرفض الوضع ‏الراهن. وأحسن وسيلة للقضاء على هذه المصيبة هي الاتحاد من أجل المواجهة ورفع شعار واحد: (عمال ‏ومعطلون من أجل صراع مشترك).‏
‏ سنة ‍‍‍‌‌‌ ‍‍‍‍‍‍‍1977 م، مثلت مظاهرات المعطلين في فرنسا و ألمانيا حدثا تاريخيا: لقد عبرت فعلا على رفض ‏هذا العار. لكن العمال المأجورين والنقابات لم يشاركوا في الغالب إلى جانب المعطلين خلال هذه المظاهرات ‏رغم أن مكانهم كان هناك. يجب إذن خلق نوع من التلاحم والمساندة بين الطبقتين العاملة والمعطلة على الصعيد ‏العالمي. لماذا نجد أصحاب الاقتصاد الحر مجتمعين على هدف واحد (هو الربح) رغم ادعائهم ركوب بحر ‏المنافسات؟ لماذا نتركهم يغنون النشيد العالمي، بل تصدح أصواتهم به؟ لماذا نتركهم يرددون أن المعطلين عن ‏العمل عالة على المجتمع، لا يتصرفون كالكبار، لا كرامة لهم؟ ‏
إن الإدعاء بأن النظام الليبرالي الحالي يسعى لإيجاد العمل للمعطلين أمر يثير البكاء والضحك في آن ‏واحد. لأن تلك الوعود المتكررة لا تهدف سوى للتستر على الأرباح في البورصة: ثروات واستراتيجيات تأسست ‏على عدم التوازن. كما أن الطبقة السياسية ترتكب هي الأخرى خطأ كبيرا بالتستر على الحقيقة. هذه الحقيقة المرة ‏التي أصبحنا نعرفها و نعلم من المستفيد منها. يجب أن نفرق بين مناصب الشغل وبين العمل. لنعلم أن المقاولة لم ‏تعد قادرة على اقتراح مناصب شغل وأن تحقيق الربح فيها لم يعد مرتبطا بعدد هذه المناصب.‏
كم نحن في حاجة إلى عاملين في الحقل التربوي، في حقل الصحة... في الحقل الاجتماعي عموما؟ ‏والغريب أن هذه القطاعات أصبحت تعد مكلفة وغير مرغوب فيها بالنظر إلى الميزانيات المخصصة لها، ذلك ‏لأنها لا تدر أرباحا هامة بالمقارنة مع المضاربات التجارية. لماذا إذن نكون شبابا لشغل مناصب عمل في وظائف ‏مقلقة و مكلفة ؟ المقاولات لا ترغب فيهم. أما القطاع العام فهو في تقلص متزايد يوما بعد يوم. ‏
رغم ذلك يعمل النظام الحالي على إيجاد (مشغلة) لبعض من هؤلاء الشباب، على الأقل للتأكد من أنهم لن ‏يقوموا بردود أفعال، وكذا إبعادهم عن البطالة الرسمية أي إبعادهم عن الإحصائيات المخجلة. من هنا تظهر ‏ضرورة (أشباه الأشغال) التي تسد الطريق أمام أجيال كانت تظن أن المستقبل سيبتسم لها: أجرة زهيدة وغير ‏قارة، حياة تلامس البؤس أو تقع فيه. إنها وظائف للتخدير، مضيعة للوقت وخسارة للجميع. وفي المقابل يبقى ‏المجتمع في حاجة إلى أساتذة، قضاة، مستخدمين في المواصلات، حراس سجون، شرطة، مربيين، حراس ‏متاحف، ممرضين... الخ. كلهم لا يتلقون الأجرة الملائمة لأعمالهم. يبقى المجتمع في حاجة للأطباء، ‏للجراحين... قائمة طويلة من الصعب إغلاقها. ‏
في الوقت الذي يحتاج المجتمع لمثل هذه المهن، نجد التكوين يصب في اتجاه آخر ويهئ الشباب لأعمال ‏نحن في غنى عنها. ذلك أن إيديولوجيا الليبرالية المتوحشة لا تتوقف عند الاستغلال المالي الناجم عن تسريح ‏العمال بالجملة، بل تدفع أيضا إلى حذف مناصب حيوية، وذلك باسم تخفيض (العجز العمومي). بالتأكيد، يجب ‏مراقبة النفقات العمومية. لكن أن تقلص باستمرار هذه النفقات بدعوى حسن التسيير، هذا يدعو للتساؤل. إن ‏مجتمعا يحترم نفسه، لا يخاف من النفقات المخصصة للمجال الاجتماعي. لا يجب أن تخجله ولا يجب أن يتبجح ‏لأنه قام بتقليصها، بل عليه أن يشرك أفراده في كل وسائل التقدم المتاحة له وأن يهنئ نفسه بذلك.‏
كيف انطلت علينا الحيلة نحن والطبقة السياسية فقبلنا بهذا الانحراف الشاذ عن ناصية الصواب؟ ‏
كيف حققت الأسواق المالية وأعمال المضاربة هذا النجاح الفاجر؟ هل نضحي بالأجيال المقبلة لصالح هذا ‏النوع من الاقتصاد؟ هل يجب أن نواصل التضحية من أجل تسديد المديونية الثقيلة؟ لكن هذه المديونيات من ‏صاحبها، من قررها وفي أي سياق؟ هذه المديونيات التي يجب، كما يدعون، تسديدها حتى لا تصبح ثقلا على ‏الأجيال القادمة والتي نضحي من أجلها بقطاعات التربية، الصحة، البيئة، القدرة الشرائية، بل إننا نضحي من ‏أجلها بالقيم، بالأمل والمستقبل...‏
حتى لو لم توجد البطالة لخلقها نظام الليبرالية المتوحشة. بواسطتها يخضع الاقتصاد الحر الشعوب ويتأكد ‏من خنوعها الأزلي. سياسة الليبرالية هي تهديد كل فرد بإمكانية انتقاله من طبقة العاملين إلى طبقة العاطلين. إنها ‏وسيلة ناجعة للضغط. إنها ضمان للحفاظ على السلم الاجتماعي وعلى تماسك المجتمع. من هنا ترى الليبرالية ‏ضرورة الحث على العمل دون توفيره، ثم تجعل الوضعية غير محتملة لكي تلهب رغبة العاطلين في الحصول ‏على العمل وقبول أي شيء يقدم لهم، فالفقر المتصاعد وهضم الحقوق يؤدي في الواقع إلى قبول هذه الأجور ‏الزهيدة وهذه الظروف الشاقة في العمل المهينة للحياة...‏
لقد تنبه الاقتصاد الحر منذ مدة أنه يملك سلاحا قويا، فهذه الحشود من البشر لا يمكن الاستغناء عنها، لكنها ‏في الوقت ذاته لا بجب أن تكون مكلفة، يجب اعتبارها هدية من السماء. نقترح عليكم بعض الأرقام التي استقيناها ‏من التقرير العالمي حول التطور البشري ( 1998 ) الذي نشره برنامج الأمم المتحدة للتطوير ( ‏PNUD‏ ): 7,5 ‏في المائة من السكان النشطين في فرنسا يعيشون تحت عتبة الفقر المالي، 19,1 في المائة في الولايات المتحدة ‏الأمريكية و 13,5 في المائة في بريطانيا.‏
الميدالية الذهبية للولايات المتحدة الأمريكية والفضية لبريطانيا في مجال الفقر. إذن ليتوقف الليبراليون عن ‏ترديد نشيد الرفاهية والتقدم. حقا إن البطالة لا تتجاوز 4 في المائة في الولايات الأمريكية، من هنا نستنتج عدد ‏العاملين الفقراء. إنهم كما سبق وقلنا يمولون فقرهم. ‏

‏------------------------‏
ملحق:‏
‏-------‏
فيفيان فورستير‎( VIVIANE FORRESTER )‎‏ روائية في الأصل، كاتبة وناقدة في صحيفة لوموند ‏الفرنسية وعضوة في لجنة تحكيم جائزة فيمينا ‏‎( Prix Fémina )‎‏. أصدرت عدة كتب أدبية منذ سنة 1970: (فان ‏غوغ أو الدفن في حقول القمح)، (عنف الصمت) ، (هذا المساء، بعد الحرب)، (عين الليل)، (أيادي)...إلخ. لكنها ‏قررت سنة 1996 مساءلة الأفكار الاقتصادية والتوجهات السياسية بكتابها الذي حاز شهرة واسعة : (الرعب ‏الاقتصادي). كتاب حصل في نفس السنة على جائزة ميديسيس ‏‎( Prix Médicis )‎‏ وترجم بعد ذلك إلى 24 لغة.‏‎ ‎في شهر فبراير سنة 2000، يصدر لفوريستر كتاب آخر ينتقد الليبرالية في شكلها المعاصر تحت عنوان: ‏‏(ديكتاتورية غريبة). ‏
تقول فوريستير: إننا نعيش اليوم تحت سيطرة ما يسمى بالعولمة ونرزح تحت ثقل نظام سياسي كوني وأحادي ‏التوجه. هذا النظام يتخفى تحت غطاء الليبرالية المتوحشة التي تتحكم في العولمة وتستغلها لصالح عدد محدود ‏وضد مصالح الفئات الشعبية الواسعة. تنتقد فوريستر في هذا الكتاب الفكرة القائلة بأن الاقتصاد يهيمن على ‏السياسة، و تبين أن هذه السياسة المهيمنة والأحادية التوجه تخرب اليوم الاقتصاد لصالح المضاربة، لصالح الربح ‏الذي أصبح متعارضا مع توفير الشغل، مع كل ما يتعلق بالمجال الاجتماعي (الصحة، التربية والتعليم... الخ)، بل ‏ضد كل ما يرتبط بالحضارة الإنسانية. ترد فيفيان فورستير على الدعاية الغربية التي تروج خطأ بأن البطالة تكاد ‏تنعدم في الولايات المتحدة الأمريكية فتقول : (نعم لقد تقلصت البطالة مقابل ارتفاع عدد الفقراء، حتى وإن كانوا ‏يتوفرون على شغل. إنهم في الحقيقة يمولون بطالتهم وفقرهم). إنها دعوة لمقاومة هذه الديكتاتورية الغريبة التي ‏تقصي عددا كبيرا من الاستفادة من التقدم الذي حققته الإنسانية. نعم يمكن مقاومتها لأنها تحافظ رغم ذلك على ‏تمظهراتها الديمقراطية: إنه في آن واحد الفخ والأمل المنشود.‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من المفاوض المصري المتهم بتخريب المفاوضات بين حماس وإسرائيل؟


.. غزة: ما الجديد في خطاب بايدن؟ وكيف رد نتنياهو؟




.. روسيا تستهدف مواقع لتخزين الذخيرة والسلاح منشآت الطاقة بأوكر


.. وليام بيرنز يواجه أصعب مهمة دبلوماسية في تاريخه على خلفية ال




.. ردود الفعل على المستويات الإسرائيلية المختلفة عقب خطاب بايدن