الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللبرالية في التاريخ السوري - خالد العظم نموذجٌ

كامل عباس

2006 / 11 / 26
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


كان للعامل الخارجي الدور الأساسي في تحرر سوريا من الاستعمارين العثماني والغربي.
المرة الأولى جاء جلاء الأتراك عنها نتيجة هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى وتوزيع مستعمراتهم بين المنتصرين.
المرة الثانية جاء جلاء الفرنسيين عن سوريا نتيجة الصراع بين البريطانيين والفرنسيين على النفوذ في البلدان العربية , أكثر منه نتيجة للمقاومة السورية لهذا الاحتلال ,
ان ألف عام من القمع والحصار والتجويع المطبق على هذا الشعب ( بدءا بعصور الانحطاط العباسية مرورا بحكم المماليك , انتهاء بالسلاطين العثمانين ) أنهك هذا الشعب وأورثه الجهل والتخلف والتعلق بالغيب والأساطير ,
برغم ذلك الليل الاستبدادي الطويل احتضنت سوريا غرسة اللبرالية التي جاء بها الغرب إليها رغما عنه , وأعطت تلك الغرسة ثمارا رائعة بعد الاستقلال , ليصبح حكامها بشر من الشعب وليسوا سلاطين معزولين عنه بالحراس والخدم والحشم , و كانت الثمرة الأولى هي الدستور السوري اللبرالي المقر من الجمعية التأسيسية عام 1950 المتقدم أشواطا كبيرة عن دساتير كل البلدان العربية والمشرقية وقد جاء في مقدمته

(( نحن ممثلي الشعب السوري العربي، المجتمعين في جمعية تأسيسية بإرادة الله
ورغبة الشعب الحرة، نعلن أننا وضعنا هذا الدستور لتحقيق الأهداف المقدسة
التالية:
إقامة العدل على أسس متينة حتى يضمن لكل إنسان حقه دون رهبة أو تحيز وذلك
بدعم القضاء وتوطيد استقلاله
في ظل حكم جمهوري ديمقراطي حر.
ضمان الحريات العامة الأساسية لكل مواطن، والعمل على أن يتمتع بها فعلاً في
ظل القانون والنظام، لأن الحريات العامة هي أسمى ما تتمثل فيه معاني الشخصية والكرامة والإنسانية.
نشر روح الإخاء وتنمية الوعي الاجتماعي بين المواطنين حتى يشعر كل إنسان أنه
جزء في بنيان الوطن وأن الوطن في حاجة إليه.
دعم واجب الدفاع عن الوطن والجمهورية والدستور، وذلك بمساهمة كل مواطن بدمه
وماله وعمله وعلمه.
تحرير المواطنين من ويلات الفقر والمرض والجهل والخوف بإقامة نظام اقتصادي
واجتماعي صالح يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي العامل والفلاح، ويؤمن الضعيف والخائف، ويوصل كل مواطن إلى خيرات الوطن.))
نسي الشعب السوري في غمرة فرحته بالحرية الغول والجن والعفاريت المقيمة في عالمه الباطني , نسي الزوايا والتكايا وطقوس وأشعار الطرق الصوفية كالجيلانية والنقشبندية والرفاعية والقلندية والسعدية وغيرها و نسي أيام سفر برلك والفقر والجوع وأقدم على السياسة بشيبه وشبابه , فعرفت البلاد نشاطا محموما تتنافس فيه كل التيارات السياسية بشكل سلمي وديمقراطي من اليسار الى اليمين شيوعيون واشتراكيون ولبراليون واسلاميون
( الحزب الشيوعي وحزب البعث والحزب الوطني وحزب الشعب وجماعة الاخوان
المسلمين ) وكانت أروع ثمار تلك الحرية هي حرية الصحافة بنقدها الساخر والبناء وبأقلام كتابها الأحرار
1- الأيام لصاحبها نصوح بابل
2- الانشاء """""" وجيه الحفار
3- النضال """"""" سامي كبارة
4- ألف باء """""" يوسف العيسى
5- الكفاح """""" أمين سعد
6- فتى العرب"""""" معروف الأرناؤوط
7- النقاد """"" فوزي امين
8- المضحك المبكي """" حسيب كحالة
9- القبس """""""نجيب الريس
في تلك الفترة تمت أكثر من انتخابات حرة وكان أجمل ما فيها انتخاب رئيس للجمهورية غير الرئيس السابق , ومراسيم التسليم والتسلم بين القديم والجديد , لتبدو دمشق كأنها واحة للحرية ضمن محيط عربي , الحاكم فيه ملك او سلطان مثل السلاطين العثمانيين لا يغادر كرسيه الا بالموت او بالحديد والنار ,وصف لنا مدير عام القصر الجمهوري آنذاك كيف تمت تلك المراسم والتي تبدو حتى كتابة هذه السطور حلما تراود كل أبناء البلدان العربية بلا استثناء
(( بعد مأدبة الغذاء التي أقامها الرئيس القوتلي للرئيس الأتاسي في القصر الجمهوري جرى وداع حافل للرئيس الأتاسي ، اذ ذهب الرئيسان بموكب رسمي الى القابون , حيث أقيم سرادق خاص , ووقفا أمام الحرس الجمهوري مع موسيقى الدرك , فعزفت النشيد السوري وأدت لهما التحية , فاستعرضها الرئيسان , وكان في السرادق أعضاء الحكومة ورئيس وأعضاء مكتب مجلس النواب ورئيس الأركان العامة , ثم ودع الرئيس الأتاسي الرئيس القوتلي , وبموكب رسمي اتجه الى حمص حيث مدينته ومنزله . )) (1)
تكتمل الصورة اذا أضفنا اليها شهادة الدكتور بشير العظمة عن مظاهر الأبهة والبيرقراطية المتفشية في نظام يعد نفسه طليعة القوى التقدمية العربية , وعدوا لدودا للملوك والسلاطين , مقارنة بالنظام السوري في نفس الفترة الزمنية .
(( قصدت مركز عملي الجديد لأبلغه قبل ربع ساعة من الدوام الرسمي و كأي موظف متحمس يريد ان يكون أمثولة للتابعين له , وصلت الى بوابة المبنى ماشيا على قدمي وهو لايبعد عن داري أكثر من مئتي متر تقريبا , استوقفني الحارس , قلت – وزير الصحة – اجاب : لا يأتي قبل الحادية عشرة , قلت – هو أنا - . أفسح لي الطريق بإشارة والشك واضح في حركاته وسحنته , سمح الجندي للمخبول أن يدخل دون تحية باليد او بالسلاح , افهمني مدير المكتب بعد ذلك بان التقاليد لا بد وان تراعى , فالوزير لا يحضر لوزارته قبل الحادية عشرة , اذا توفر لديه وقت لذلك .
إخفاء وحجب الملوك والوزراء والأمراء عن الأنظار إجراءات لها ضرورتها , لتبقى صورة القادة في خيال الجماهير أقرب الى صورة الآلهة والأئمة , نقية وطاهرة .
لم تعرف سوريا في تاريخها الحديث الملكية والحاشية والبلاط والحجاب و كان مسكن شكري القوتلي رئيس الجمهورية عند قيام الوحدة شقة مستأجرة عادية جدا في حي الجسر الأبيض وحارسه شرطي يداوم نهارا فقط )) (2)
ولم يكن شكري القوتلي بوصفه رئيسا الجمهورية قادرا على اعتماد عدد من الحجاب والموظفين في القصر الا بعد موافقة مجلس النواب (( كان في القصر ضارب واحد على الآلة الكاتبة هو عبد الوهاب زين العابدين , وكان يطبع المراسيم والرسائل العادية ويقوم بالأعمال الإدارية , وكنت أساعده في كتابة الرسائل الرسمية الى رؤساء الدول والرسائل الهامة الأخرى , ولما كان العمل في القصر قد ازداد كثيرا فقد لحظت في الميزانية الجديدة تعيين ضارب آخر على الآلة الكاتبة العربية ,
وهكذا فقد بلغت ميزانية القصر بما فيها رواتب الرئيس وتعويضاته ورواتب الموظفين ونفقات حفلات القصر للضيوف الرسميين ونفقات الانتقال والنفقات الخاصة وسواها (250 ألف ل س ) وكان علي ان أناقش هذه الميزانية مع لجنة الموازنة في مجلس النواب لإقرارها وقد عرضتها قبل ذلك على الرئيس فوافق عليها
كان رئيس لجنة الموازنة أكرم الحوراني , وكان معه من الأعضاء علي بوظو و بدوي الجبل و رزق الله انطاكي وآخرون من نواب العشائر .
بادرني اكرم الحوراني بشكل عنيف , لم هذه الزيادة في اجرة القصر و هل تدفعها من جيبك , فشرحت له اسباب الزيادة , فشطبها ,ثم جاء الى تعيين ضارب على الآلة الكاتبة فشطبه أيضا و وقال قم أنت بالعمل . ثم جاء الى النفقات الخاصة و قال لماذا هذه النفقات ؟ .. )) (3)
لم تكمن ايجابية تلك المرحلة في إظهار الحاكم الشرقي أنسانا عاديا يأكل ويشرب كغيره من البشر على عكس الحكام الشرقيين , بل تعدتها من الشكل الى المضمون , لتنتج دولة وطنية على كافة الأصعدة الاقتصادية (4) والاجتماعية والسياسية , لها قرارها الوطني المستقل تسعى اليه بأخذ مايحققه من الكتلتين الدوليتين المتنافستين .- حكم لبرالي يصون الحريات السياسية على الطريقة الغربية . ومعاهدات اقتصادية مع الكتلة الشرقية كون قروضها ومساعداتها لا تشترط التخلي عن ذلك القرار , وبسبب طبيعة ذلك القرار الوطني المستقل كثرت المؤامرات على سوريا لجرها الى أحلاف لا ترتضيها في مقدمتها (( المؤامرة العراقية وحلف بغداد : وقد استقطبت تلك المؤامرة عددا كبيرا من الضباط وشيوخ القبائل , وحتى أعضاء الحزب الوطني القدامى , كان منهم محمد سليمان الأحمد – بدوي الجبل – وميخائيل لبان بالإضافة الى أعضاء من حزب الشعب – الدكتور عدنان الأتاسي – ومن الحزب القومي الاجتماعي - جورج عبد المسيح - , والحزب التعاوني – فيصل العسلي – وغيرهم من النواب البارزين الدكتور منير العجلاني و الدكتور سامي كبارة , السيد حسن الأطرش , فرزت المملوك , المقدم حسن الحكيم , النقيب عبدو وهبة و النقيب عز الدين الجراح , بالاضافة الى العقيد صالح مهدي السامرائي الملحق العسكري العراقي في سوريا .
ولقد كشف أمر هذه المؤامرة , التي استغرقت تهيئتها من نيسان الى تشرين الأول عام 1956 , النفيب ابراهيم أدهم , واحيل المتآمرون الى المحاكمة و حكم على بعضهم بالاعدام و خفض الحكم الى الأشغال الشاقة المؤبدة بعد وساطات عربية .
كانت المحكمة قد شكلت برئاسة اللواء عفيف البزري وعضوية العقيد أمين النفوري والعقيد محمد الجراح كنائب عام , وكان لهذه المؤامرة أثر سيئ على استقرار سوريا )) (5)
و(( في أوائل سنة 1957 أعلن أيزنهاور , رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مبادئه السياسية حيال الشرق العربي , وخلاصة هذه المبادئ انه بعد انسحاب الانكليز والفرنسيين من الشرق حصل فراغ سياسي في المنطقة , وان الولايات المتحدة هي الذي ستملأ هذا الفراغ حتى لاتقع المنطقة في قبضة دول "الستار الحديدي" يعني الاتحاد السوفياتي
- وسوف تقدم الولايات المتحدة المساعدة لجميع دول المنطقة وذلك لدرء الخطر السوفياتي .
- وقد صادق الكونغرس على هذه النظرية وأعطى الرئيس كافة الصلاحيات والامكانيات لتنفيذها بما في ذلك ارسال القوات العسكرية الأمريكية الى المنطقة )) (6)
استمات "الأشقاء العرب" ( نوري السعيد ) من العراق و ( الملك حسين ) من الأردن و (كميل شمعون) من لبنان , و( الملك سعود) من السعودية , لجر سوريا الى الحظيرة الأمريكية خوفا عليها من الخطر الشيوعي !! فردت عليهم الحكومة السورية ببيان شهير في 10 / 1/ 1957 نقتطف منه مايلي
(( اولا – ترفض الحكومة السورية النظرية القائلة بان وجود مصالح اقتصادية لدولة أو لمجموعة من الدول في إحدى مناطق العالم , يبيح لها الحق بالتدخل في شؤون هذه المنطقة للحفاظ على تلك المصالح , اذ ان هذه النظرية تخالف بصراحة مبدأ احترام السيادة , هذا المبدأ الذي يجب اتخاذه أساسا لعلاقات الدول فيما بينها والذي قام عليه ميثاق الأمم المتحدة
ثانيا – ترى الحكومة السورية أن نظرية الفراغ هي نظرية مصطنعة يتذرع بها الاستعمار لتبرير تدخله وسيطرته , وأن الحكومة ترفض هذه النظرية رفضا قاطعا , إذ لا فراغ في منطقة الشرق الوسط بعد أن حصلت دوله على حريتها واستقلالها , كما ان الدول العربية هي وحدها صاحبة الحق الطبيعي في الدفاع عن استقلالها ووحدة أراضيها , وفي ممارسة سيادتها الكاملة دون أي سيطرة أو نفوذ أجنبي .
ثالثا – ان الوقائع التاريخية البعيدة والقريبة الحدود , والتي ما زالت ماثلة في أذهان العالم بأسره , تثبت بشكل قاطع انه لا اثر لوجود خطر الشيوعية في بلادنا يهدد سلامتها واستقلالها وحريتها , بل ان الوقائع الثابتة لتؤكد ان الاضطراب في الوطن العربي واحتمال العدوان عليه ليس لهما من سبب , ولا يتأتيان الا من الاستعمار والصهيونية , ولعل متتبع هذه الحوادث يرد مبدأها الى تاريخ طويل حيث ينتهي الى إنشاء اسرائيل في قلب الوطن العربي )) ( 7)
على عكس ما أراد "الأشقاء العرب" اتجهت حكومة دمشق شرقا و (( في أوائل آب عام 1957 سافر خالد العظم وكان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للدفاع الى كارلو فيفاري في تشيكوسلوفاكيا للعلاج , الا انه وبعد يومين غادرها الى موسكو حيث أجرى مع زعماء الاتحاد السوفياتي مباحثات أدت الى عقد اتفاق اقتصادي وفني بين البلدين , وبعد عودته الى دمشق جرى التوقيع في دمشق باحتفال رسمي على هذا الاتفاق الذي يقدم بموجبه الاتحاد السوفياتي الى سوريا المساعدة الفنية والمالية بفائدة 2,5%لمدة 12 سنة (8) ونشر الاتفاق وبنوده علنا وبشكل مفصل في بيان رسمي جاء فيه
(( مادة 1- ان حكومة اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية , بقصد المساهمة في الإنماء الاقتصادي السوري , وتلبية لرغبة حكومة الجمهورية العربية السورية , مستعدة للتعاون مع الحكومة السورية في مجال إنشاء الخطوط الحديدية , ومراكز توليد الكهرباء المائية والحرارية , وأجهزة الري وشيكاته , وري المراعي لتربية الماشية وبناء الجسور للطرق الصالحة للسيارات , ومعمل للسماد الآزوتي و وتنظيم مختبر زراعي للبحوث العلمية و وكذلك في القيام بأعمال التنقيب الجيولوجي لاكتشاف موارد سوريا الطبيعية وتقديرها و وبصورة خاصة من النفط والمعادن والمواد الأولية اللازمة للصناعة الكيمياوية , وموارد الطاقة المائية )) (9)
لم ترق تلك اللبرالية السورية للغرب لأنها لا تحقق مصالحه , ولا لقوى الاستبداد العربي الذي تعودت ان تنظر للجماهير العربية كقطيع تهش بعصاه لها فيتبعها , فاتفقت الجهتان على تصريف تلك اللبرالية , ووجدتا بالجيش السوري خير من يستطيع ان يؤدي هذه المهمة ,
(( والجيش في تكوينه وقياداته شريحة منظمة انضباطية نسبيا من أبناء طبقات القاعدة المسحوقة تاريخيا .
لم أفكر إطلاقا في خيار الكلية العسكرية , ولم يفعل ذلك أي من الرفاق في نهاية الدراسة الثانوية . ذلك ان مجالات العمل الحر موفورة لأبناء المدن – تجارة , محاماة , طب , وظيفة , - وهي أعمال مريحة ومجزية ولا يمكن ان تقارن دخولها المادية وموقعها اجتماعيا مع أي مرتبة عسكرية مهما بلغ عدد الأوسمة المضافة التي ترفع الصدور , بينما توفر الكلية الحربية لأبناء الريف المحرومين إمكانيات تحقيق الطموحات حتى في جموحها , المأوى والراتب واللباس الأنيق والسلطة وتجاوزاتها – التسلط , الثروة , الاستعلاء – كان كل ذلك بديلا عن العمل في الطين كخيار وحيد متاح , لأرض لاتكاد تطعم او تشبع العاملين فيها )) (10)
والجيش يفترض به ان يكون وزارة تعنى بشؤون الدفاع عن الوطن وحراسة حدوده مثلها مثل أي وزارة أخرى تخضع لتوجيهات رئاسة الوزارة , لكن في دول الشرق لا يصح ذلك حيث السلاح والقوة تجعل وزارة الدفاع تفرض شروطها دائما على رئاسة الوزارة وتتحكم بالوضع الداخلي , وان لم تستجب الرئاسة لها فالحل يكمن بالانقلابات العسكرية . وهذا ماجرى في سوريا حيث قامت سلسلة من الانقلابات لم تتوقف حتى استقر الأمر للجيش كليا وطمست معالم تلك اللبرالية بشكل تام
1- انقلاب حسني الزعيم في آذار 1949
2- انقلاب سامي الحناوي في آب 1949
3- انقلاب اديب الشيشكلي في كانون اول 1959
4- انقلاب وليد حمدون في شباط 1954
5- انقلاب حيدر الكزبري في أيلول 1961 ( الانفصال عن مصر )
6- انقلاب 23 شباط 1966
7- انقلاب 16 تشرين 1970
هذا عدا عن الانقلابات التي لم يكتب لها النجاح

.....................................................................

يعتبر خالد العظم مهندس تلك اللبرالية الوطنية - اذا صح التعبير - مع انه سليل أسرة ارستقراطية اقطاعية , تعاونت مع المحتل العثماني وكان منها خمسة ولاة لمدينة دمشق في عهدهم , ولكن للإنصاف لم يكن كل أبناء تلك العائلة في الصف المعادي لوطنهم وشعبهم وخاصة أبناؤها المثقفون الذي وضعوا ثقافتهم وعلمهم في خدمة أمتهم ومنهم من أوصله التزامه بالوطن الى حبل المشنقة , مثل شفيق مؤيد العظم الذي أعدم في السادس من أيار عام 1916 , وحتى ابن عمه محمد فوزي باشا العظم – والد خالد العظم _ ومع انه كان وزيرا للأوقاف في حكومة العثمانيين المركزية , الا أن سلوكه وميوله كانت عربية وطنية خالصة وهذا ما أهله لأن يُنتخب رئيسا للمؤتمر السوري العام بعد رحيل العثمانيين ويبقى في منصبه حتى وفاته في 15 / تشرين الثاني 1919
أما خالد العظم فقد كان لبرايا وطنيا بامتياز , ومع أن العظم لم يكن مُنّظِرا ولم يكن بعمق فلاسفة اللبرالية الغربيين أو الشرقيين , الا ان سلوكه وتواضعه رغم كل مناصبه السياسية ترشحه لأن يصنف مع العظماء الذين عملوا من اجل أوطانهم , وهذه بعض الجوانب من سيرته كمثال على ذلك
1- اشتهر خالد العظم بكرهه للعسكر (( وهو يرى أنهم احترفوا هذه المهنة لفشلهم الدراسي أو لأن أهلهم فقراء لم يستطيعوا الصرف عليهم لمتابعة تحصيلهم العلمي , فوجدوا في الجيش رزقا حسنا في الحاضر ومغانم كثيرة في المستقبل )) ( 11) وهو لايثق بهم ولا يؤيد تدخلهم بالسياسة وقد لاحق فضائحهم وعلى رأسها فضيحة السمن المشهورة , ولم يتملقهم يوما , وكان يعرف انه سيدفع الثمن , وهذا ما حصل فعلا في أول انقلاب عسكري قاده حسني الزعيم في 28 آذار 1949 حيث كان خالد العظم وزيرا للمالية
(( وصوب الجندي رشاشه الى صدري , فحولته عني , ثم قال لي الضابط لا تقاوم والا قُتِلت , ثم امسك بي وقال امش معنا , فقلت الى أين ؟ فلم يلتفت الي وجذبني مع الجندي نحو الدرج , وهناك وَقَعْتُ عند آخره وسقطت النظارة ولم يُسمح لي بالتقاطها .. وقد وجدت نفسي أخيرا في السيارة حافي القدمين وبدون نظارتي وليس علي سوى (بيجاما ) حريرية رقيقة
ومن ثم أخذوني الى سجن المزة ووضعوني في "سيلول "بارد كريه الرائحة ,أرضه من تراب , وبعد قليل جاءني كل من فريد زين الدين وفرزت المملوك فطمأناني عن زوجتي وبنتي . ثم بكيت طويلا ... )) (12)
2- خالد العظم صاحب نظرية الانفتاح على المعسكر الشرقي واستيراد السلاح منه كونه الضمانة الوحيدة لاستقلال سوريا , ولذلك لقب بالمليونير الأحمر.
3- خالد العظم له رأي واضح بالشعب الجاهل والذي لايعرف مصلحته والذي يمكن ان يخدم الاستبداد بسبب ذلك الجهل او ما سماه ستوارت ميل استبداد الرعاع , وبسبب من هذا الجهل تصفق الشعوب العربية دائما لحكامها من عهد جمال باشا السفاح الى عبد الناصر كما دوّن في مذكراته , ولذلك على السياسي الوطني التعامل معها بصبر وروية
4- خالد العظم المنسجم في لبرايته واحترامه للرأي الأخر حتى ولو كان فيه شرشحة شخصية له كما فعلت مجلة المضحك المبكي (( نشرت مجلة المضحك المبكي صورة كاريكاتيرية لخالد العظم وزوجته ليلى خانم وهما في الفراش ويغطيهما غطاء قصير وضيق , الأمر الذي أدى الى إظهار مؤخرة ليلى خانم لأنها كانت سمينة وقصيرة فاستاء خالد العظم واستاءت الخانم ايضا ,فاستدعي السيد حسيب كيالة الى مكتب مدير الأمن الداخلي السيد مطيع السمان للتحقيق معه وقيل له لاتعد الى مثلها . فقال الكحالة بغضب : اما ان استمر على هذا المنوال او أغلق المجلة )) (13)
5- ومع ان خالد العظم كان يسعى بكل السبل لأن يصل الى المركز الأول في سوريا فيجلس على مقعد الرئاسة , وقد عمل بكل ما أوتي من قوة لذلك , ولكنه لما فشل في ذلك عام 1955 وفاز شكري القوتلي بمنصب الرئاسة , أصيب بعدها العظم بنوبة قلبية كادت ان تودي بحياته , ولكنه تجاوز الأمر بعد فترة وعمل تحت أمرة خصمه كما كان يعمل سابقا .
ربما كانت اكبر نقطة سلبية في سلوكه , هي ضعفه تجاه زوجته - ليلى الرفاعي - التي حولت بيته في الصالحية وهو في قمة عطائه الوطني الى صالة للقمار والمشروبات ولم يستطع حسم الأمور معها ويطلقها كما أراد له أصدقاؤه وأقرباؤه المخلصين له
( ان الله جميل يحب الجمال وربما سيغفر للعظم ضعفه أمام جمال زوجته )
بالمقابل عرفت سوريا خالدا آخر حصل على أصوات نيابية تقارب أصوات خالد العظم ولم ينحدر من عائلة عريقة , بل انبثق من قلب الطبقات الشعبية وكان نصيرا متحمسا لقضية العمال والفلاحين والمظلومين عموما ليس في سوريا بل وفي العالم بأكمله, وله مواقف تجاه نصرتهم لا يرقى إليها الشك , لكنه لم يكن يوما في حياته ديمقراطيا يحترم الرأي الأخر حتى ولو كان ذلك الرأي صادر عن أحد رفاقه , ونحن هنا نسرد حادثة واحدة من آلاف الحوادث التي تشهد على ذلك
(( انتسب الياس مرقص الى الحزب الشيوعي السوري عام 1955 , وبحكم عمله في الترجمة , اخذ يطلع على أساسيات الفكر الماركسي , وسرعان ما لاحظ وجود أخطاء جدية وممارسات لا تمت بصلة لأسس التنظيم اللينيني , وبسبب من طبيعته الفكرية شرع بمحاربة تلك الأخطاء , بسذاجة أولئك الطوبويين الذين لايعرفون الكثير عن رزائل العالم .
جاء نقولا الشاوي الى الياس مرقص في اللاذقية , ولما فهم القضية أدرك أنها لا تعدو ان تكون جزءا من مشاكل الشيوعيين اللبنانيين و بل جزءا من مشكلته , و هو الذي فرض عليه انتقادا ذاتيا في العام التالي و بضغط من خالد بكداش .
ثم أرسل خليل الحريري الذي تفرغ لهذا الموضوع و وكان الياس مرقص أشبه بولد صغير يبكي وكلما قيل له اسكت !! ازداد صراخا . في الواقع كان الياس مرقص يقطف الأزهار في حقل من الألغام .
تم تدبير اعتداء بالضرب على الياس مرقص في اللاذقية بترتيب مباشر من خالد بكداش , الا أن المكلف بالعملية لم يطاوعه قلبه في اللحظات الأخيرة , سيما ان مرقص لم يكن ذو بنية تحتمل الضرب ,
أما في دمشق فقد قام المدعو عبد الجليل الكردي المكلف بتأديب الياس مرقص بالهجوم عليه عندما كان جالسا في أحد المقاهي مع ياسين الحافظ الا أن احد الحاضرين اتصل بالشرطة التي تدخلت لحل المشكلة .
أخيرا وبعد عدة أيام نجحت العملية , فبينما كان الياس مرقص يتمشى قرب مقهى الهافانا , ترجل صبحي الحبل عن دراجته وانهال بالضرب عليه دون سابق انذار , وقد قام المارة بتخليص مرقص من بين يدي الحبل )) ( 14)
لم يخالف بكداش أحد من القياديين في الحزب الا ووجد نفسه بالنهاية خارجه وهذا مااستدعى كاتبا لبنانيا هو - باسم السبع - ليكتب في جريدة السفير عام 1984 في ذكرى تأسيس الحزب مقالا بعنوان – الحزب الشيوعي السوري ستون عاما من الانشقاقات - طبعا سيبرر الرفاق البكداشيون ذالك بقولهم : ان تلك الأصوات كانت تضعف الحزب وتخدم أعداءه الطبقيين المتعددين , ولكن كيف سيبرر الرفاق ما آل اليه وضع زعيمهم بعد ان أصبح له وزيران في الحكومة السورية و وارتهان موقفه بالكامل للبعث من اجل الحفاظ على وزيرين هامشيين , وبذلك يرددون ببساطة شعار المرحلة قائدنا الى الآبد , وكيف تستقيم معهم وهم العلمانيون أن يحكمهم قائد من القبر !! , وكم هم مسئولون عن ذلك النفاق في المجتمع الذي أنتج تحلل القيم الاجتماعيه بالكامل , واذا كان وزيران هامشيان قد فعل بحزبهم كذلك فماذا لو ان خالد بكداش أصبح رئيس وزارة مثل خالد العظم ؟
لقد ترك لنا خالد بكداش بعد رحيله حزبا بيرقراطيا يذّكر بسلالات الروم والفرس قبل الاسلام والصراع ضمن العائلة من اجل كرسي الحكم , وهكذا اذا كان بكداش قد ورّث المنصب الى زوجته وهي تسعى بدورها لتوريثه لابنها , واذا كان الصهر يجد انه الأحق بمنصب الأمانة العامة , فلا مانع من ان ينشق عن الحزب وينشئ حزبا جديدا يصبح فيه الصهر أمينا عاما .
بينما ترك لنا خالد العظم مذكرات من ثلاثة أجزاء تؤرخ بشكل دقيق وواقعي ل( ستين سنه ) من عمر سوريا الحديث , تفيد كل من يرغب في خدمة الوطن استخلاص الدروس منها
.
عبّر خالد بكداش بشكل او بآخر عن اللبرالية ( كمدرسة سياسية ) فلسفتها الحرية و والطريق الى الحرية عبر الديمقراطية واحترام الرأي الآخر , وهي ترى ان من ينسجم مع تلك الفلسفة من الطبقات الاجتماعية هي الطبقات الوسطى فهي محرك التاريخ الإنساني وهي ضميره بما تحمل من ثقافة ووعي لقضية الإنسان ,
في حين عبر خالد بكداش عن مدرسة الماركسية اللينينية و التي تحتقر الطبقات الوسطى وتنظر اليها بازدراء كونها متذبذبة ولا برنامج سياسي او ايديولوجيا خاصة , بها بل هي تأخذ بشكل انتقائي ما يخدمها من الطبقتين الرئيستين البورجوازية الكبيرة والطبقة العاملة وهي بالنهاية ستتحلل بين الطبقتين .
لهذه الأسباب سيعتبر التاريخ السوري خالد العظم صاحب الثغرة الثانية بعد الكواكبي في جدار الاستبداد السوري , بينما سيعتبر خالد بكداش صانع دعامة إضافية لذلك الجدار العالي
ترى أي طريق أقدر على تخليص سوريا من أزمتها الحالية وجعلها تسير على سكة السلامة وتنسجم مع محيطها العربي والعالمي وتواصل تنميتها الاقتصادية التي تحقق بالنهاية العدالة الاجتماعية
طريق خالد بكداش الاشتراكي أم طريق خالد العظم اللبرالي؟؟
كامل عباس – اللاذقية
....................................................................

هوامش :
1- سوريا بين الديمقراطية والحكم الفردي . تأليف عبد الله فكري الخاني – مدير عام القصر الجمهوري من سنة 1948 الى سنة 1958 ص 140
2- من كتاب – جيل الهزيمة من الذاكرة – تأليف بشير العظمة ص 186
3- عشر سنوات من الحكم الفردي ص 158
4- يحتاج ذلك الى توثيق عبر إحصائيات الجريدة الرسمية السورية لنكشف ان معدل التنمية في تلك الفترة كان أعلى منها في فترة نهوض البعث , وذلك ما سنفعله مستقبلا بدراسة مستقلة .
5- عشر سنوات من الحكم الفردي ص 199
6- من كتاب – خالد العظم آخر حكام دمشق من آل العظم – تأليف أكرم حسن العلبي ص 297
7- البيان منشور في كتاب الخاني تحت بند وثيقة رقم 21 ص 314
8- من كتاب الخاني ص 198
9- بنود الاتفاق منشورة بشكل مفصل تحت اسم وثائق – وثيقة رقم24 كتاب الخاني ص322
10- جيل الهزيمة ص170
11- من كتاب العلبي عن خالد العظم ص 57
12- ------------------------------ص239
13- من كتاب وطن وعسكر ص 285
14- من كتاب - ازمتنا – تأليف – دياب – ص55 اسم مستعار لشيوعي شاب من اللاذقية توفي العام الماضي , والاسم المستعار خوفا من عائلة بكداش وليس من أجهزة السلطة فهي حسب الكتاب أكثر تقدمية من بكداش .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من ساحة الحرب إلى حلبة السباقات..مواجهة روسية أوكرانية مرتقب


.. محمود ماهر يطالب جلال عمارة بالقيام بمقلب بوالدته ????




.. ملاحقات قضائية وضغوط وتهديدات.. هل الصحافيون أحرار في عملهم؟


.. الانتخابات الأوروبية: نقص المعلومات بشأنها يفاقم من قلة وعي




.. كيف ولدت المدرسة الإنطباعية وكيف غيرت مسار تاريخ الفن ؟ • فر