الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شعر البعث والإحياء في المغرب

عبد الله خطوري

2024 / 1 / 31
الادب والفن


ظلت خصائص البعث والاحياء المشرقية هي نفسها المغربية، نتيجة تأثر هذه الاخيرة بالأولى، وهو شيء طبيعي بحكم شروط حضارية وتاريخية عاشتها العلاقة الثقافية بين المشرق والمغرب طيلة مدد من السنين، خصوصا وأن المغاربة ظلوا أوفياء لكل ما يأتيهم من الشرق العربي لتشبتهم بتوابتهم الدينية في أصولها ومنابعها الأولى زمانا ومكانا؛ بيد أن هذا التشوق والإعجاب بكل ما له علاقة بالمرجعية الدينية العربية الاسلامية،لم يُنْس المغاربة خصوصيتهم، لذا تجد الشعراء بالإضافة إلى محاكاة عيون الشعر العربي القديم بمفهومه التقليدي والبعثي، واستحضارهم أغراض طالما تحدث فيها شعراء العصر الجاهلي والأموي والعباسي كالمديح، والغزل، والرثاء والهجاء، والحكمة، والتغني بالذات، والطابع البدوي بمتانة تركيبه، وقوة لفظه، ونصاعة معانيه، وصلابة جرسه .. وتشبتهم بمبادئ عمود الشعر العربي من جزالة اللفظ وآستقامته وشرف المعنى وإصابة الوصف ومناسبة المشبه للمشبه به وملاءمة المستعار له للمستعار منه، وتخير لذيذ الوزن الذي تستسيغه الأذان وترتاح لسمعه، ونزوعهم نحو النزعة البيانية التصويرية بصور مادية واضحة لا غموض ولا لبس فيها؛ بالإضافة الى تعبير الشعر عندهم عن روح عصرهم وبيئتهم نتيجة وعي الشعراء لدور الشعر الإصلاحي التوجيهي في خدمة الحياة الاجتماعيّة، والثقافيّة، والسياسيّة ... بالإضافة الى هذه الخصائص المشتركة التي تأثر فيها المغاربة بنظرائهم المشارقة، فإنهم حافظوا على خصوصيات مغربية توارثها الشعراء المغاربة عن أسلافهم من عصور الدول المتعاقبة على حكم بلاد المغرب، فكان هذا الشعر شعر فقهاء ديني مذهبي وأداة للعلوم الفقهية الشرعية واللغوية يمارسه الفقهاء وعلماء الدين والقضاة يُتَوجون به مداركهم وموسوعاتهم المعرفية كوسيلة عقلية لحفظ الشواهد في معرض علم النحو، وعلم البلاغة وأصول الدين وفهم القرآن والحديث وتفسيرهما ورواية المثل السائر .. فلم يكن الشعر عندهم مقصودا لذاته وإنما وسيلة لغاية كبرى مهمة ومقدسة .. وآستمر هذا المنظور طيلة بداية القرن العشرين حتى الثلاثينيات منه، حيث بدأ الحديث بآحتشام في البداية عن الفن ونظم الشعر في ذاته لا وسيلة وآلة لفهم أو نقل معارف أخرى، ليتطور منظور المغاربة لوظيفة الشعر نتيجة عدة عوامل منها التطور الذي حدث للبنية الاجتماعية والثقافية والفكرية في المغرب، إذ عملت "الحركة الوطنية" على بث الوعي في نفوس الناس في فترة الاستعمار، وشجعت على إنشاء المدارس والمعاهد العلمية، وتقوت أواصر التواصل بين المغرب والمشرق بوجهات نظر مغايرة لنمط العلاقة القديمة بين الطرفين، عن طريق بعث البعثات الطلابية العلمية إلى مصر خاصة وقراءة الكتب والمجلات والصحف التي كانت تصل إلى المغرب من المنطقة العربية بآنتظام إلى درجة أن ظهرت في المغرب البوادر الأولى للشعر الوجداني، بله الرومانسي بالاحتكاك بالثقافة الفرنسية والإنجليزية آنذاك .. وتلك حكاية أخرى ...
وفيما يلي أمثلة من هذا الشعري التقليدي المغربي بمرحلتيه الأولى التي كانت أكثر عتاقة وقدما امتدت طيلة القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ويمثلها شعراء من قبيل أحمد بن المأمون البلغيثي، و أبو الفيض الكتاني، ومحمد السليماني، والسكيرج و بوجندار، ومحمد غريط، والطاهر الإفراني تشبت هؤلاء وغيرهم بالموروث الشعري العربي القديم مقلدين إياه في جميع مناحيه ... والثانية تخلصت من سطوة التقليد السابق بالانفتاح على قضايا العصر والبلد، امتدت طيلة القرن العشرين تقريبا تناصت مع النصوص الشعرية القديمة ونصوص البعثيين المشارقة، ويمثلها شعراء من قبيل محمد بن إبراهيم ومحمد بن العباس القباج (*) ومحمد القري والمختار السوسي وعلال الفاسي ومحمد الحلوي وغيرهم ...

_ قصيدة للمغربي الطاهر بن محمد الإفراني (1957/1867)يذكر فيها وده وأخوته لصديقه الشاعر المغربي محمد بن إبراهيم المراكشي المعروف بشاعر الحمراء، وهي من قصائد ما يعرف ب (الإخوانيات) ...

عليك ابن إبراهيم يا شاعر الحمرا
سلام اشتياق ثار عن كبد حرى
سلام أخ عبدت بالود قلبه
وقد كان قبل اليوم يدعونه حرا
أخيك الفقير الطاهر بن محمد
بقطر إذا رخمت سميته أفرا
رآك اختلاسا بعد شوق فلم يزد
لقاؤك إلا ما تزيد الصبا الجمرا
وزودت بكر الفكر فتانة النهى
وما كنت أدرى قبلها الفتكة البكرا
فيا شاعر الحمرا جليت سابقا
وفقت بفضل الشعر حتى على الشعرى
فته فأمير الشعر ولاك خطة
من الحوزة الحمرا إلى الحضرة الخضرا
إلى خلق كالمزن لطفا وكالحيا
صفاء وكالمسك الذكي الشذا عطرا
فدم يا ابن إبراهيم للمجد تجتنى
جنى روضه غضا وتشتمه زهرا
ومهما دجا ليل الجهالة واختفت
بغيم الهوى زهر النجوم فلح بدرا
وسر هكذا تعلو وتتلو مرتلا
على الشعرا مهما انتدو سورة الإسرا
عليك سلام الله ما حطت الصبا
على النهر ما قام الحمام له يقرا
يردده إليك شوق مبرح
من أفران الأقصى إلى حضرة الحمرا

_قصيدة لامية للشاعر المغربي أحمد بن المأمون البلغيثي المتوفى عام 1929 ميلادية :

ما نظمتُ القريض أبغي به الفخ
رَ ولا سائلا فضول نوال
شَغَلتني عنهُ العلوم ولم أرْ
ض اسمي بشاعرٍ سوّالِ
إنّما قلت ما نظمتُ من الشعْ
ر ولوعا ورغبةً في الكمالِ
إن أتاني للخوضِ فيه رجال
كنت تاجاً على رؤوس الرجالِ
أو بدا في الأديب يوماً بقولٍ
يرمني محيّر الأقوالِ
أو تشوّفتُ للحبيب تراني
مُظهِراً حبَّه بسحرٍ حلالِ
ليس نظم القريض بالحبرِ عيباً
بل كمالا مكبّلاً للمعالي
إِنّما العيبُ أن ترى شاعراً خلْ
وًا من الفضل والعلوم العوالي

_قصيدة بائية لمحمد بن إبراهيم شاعر الحمراء مراكش :

أتيهُ وأزهو في الأنام مجرراً
لأجيال مجدٍ في يدي الصارمُ العضبُ
أدوسُ بأقدامي جباه عزيزهمْ
وإن رام رفع الرأس؛ فالهلك والعطبُ
وأرفع رأسي شامخ الأنف في الورى
ولي من فعالي المال والجاه والصحبُ
وتعرفني الأخلاق والفضل والنهى
وتعرفني الآداب والعلم والكـُتـْبُ
ويتحدث عن المحيطين به
ويعرفهم بعد النذالة لؤمهم
وغدر ومكر والخيانة والنهبُ
متى حجزت عني المراقي والعلا
وهل بين ذي مجد وبين العلا حـُجـْبُ
وما أنا في أهل القريض كمعشر
إذا مُنــِحوا ذبـّوا وإن منعوا سبـّوا
وإن كان لي في الشعر متعة خاطر
فـِوردُه لي عذب ورَبعه لي خِصبُ
قريضي توحيه إليّ قريحتي
فأشدو به شدواً به يـُخلـَبُ اللب
معانيه لي قد أسفرت عن لثامها
ويأتي ذلولا منه ليَ يسهـُـلُ الصعبُ
أطوف على أزهاره متنشقاً
وأشرب من سلساله وهـْوَ لي عذبُ
وتجثو معانيه أماميَ خـُضـّعاً
وقافية عصماءُ لم يجدها هُرْبُ
ولم أحترف يوماً مديح قصائدي
إذا جاء ذو مدح وفي يده قـَعـْبُ
بلى؛ إن مدحي في البرية مـُوقــَفٌ
على مفرد تهمي بنائله السحبُ
فيعرفني رغم العدا وكلامـِهمْ
وأعرفه والندب يعرفه الندبُ
ولست تراني واصفاً غير خمرة
إذا كنتُ في حفلة وطاب ليَ الشربُ
يمازجها الساقي فيطفو حبابها
أيطفو بسطح الماء لؤلؤه الرطبُ
أو الحدق المرضى وهدب شفارها
إذا ما ارتخت في خدها تلكمُ الهدبُ
أو البانة الميساءَ أحرمُ ضمها
وقد ضمها ويلاه في أهيفٍ ثوبُ
ولي خير إخوان يودون عشرتي
ولي قد تصافى منهمُ الوُد والحبّ
يحبونني حباً أحبهمُ به
فمني لهم قلب، ولي منهم قلبُ

_دالية من الخفيف لمحمد القري ويظهر فيه الالتزام بقضايا البلاد وساكني البلاد :

زاد في الطين بِلّة وفسادا
مَنْ علَى الجهْل والضلال تمادى
يظهر الحق للعيان فيبْدي
مع بيان الدليل منه عنادا
ما على الحق من خفاء ولكن
ضل قوم فموّهوه كسادا
إيه ما أبين الحقائقَ للنا
س وهم كلهم يرون السدادا
هم بخير في أمرهم ما أقاموا الد
دين والعلمَ واستبانوا الرشادا
فإذا ما عموا عن الحق بادوا
واضمحلوا ثُنًى ثُنى وفرادى

قاتلَ الله أمة رضيت بالْ
جهل فيها وحببته العبادا
لا عفا الله عن أناس أضلو
نا فزادوا من الإله بعادا
أو يرضى حر بضيم وهل مِنْ
نَا فتًى يرتضي الخمول بدادا
علم الجاهلون أنهم في ال
جهل ما يطلبون منه ازديادا
لم يظنوا أنا فطنا لهم من
قبل أن يقلبوا علينا المرادا
واستطابوا حلاوة الجهل فيهم
وإلى الجهل أخلدوا إخلادا
وجدوا فيه راحة فاستكانوا
له واستوطنوه قصرا مُشادا
إنما الجهل لا يكلف أهلِي
هِ بما يُتعب العقول الحدادا
لا يذوقون منه مُرَّ سؤال
في أمور تُعْيي البليغ الحدادا
عرفوا أننا عرفنا على ما
ينطوي سيرهم فعموا المرادا
مِثْل مَنْ كَان في المنام رأى في
ه ملذات فاستطاب الرقادا
رأى في النوم أنه في جنان
يقطف الزهر وهو يجني القَتادا
فاسْتَلَذَّ الْمنام لَمْ يَبْغِ أَنْ يُو
قَظَ عَوْضًا مِنْ نومه الآمادا
خوف أن تذهب الملذة عنه
ثم لا يلقى بعد إلا الوسادا
يفتح العين ثم يغمضها مُظْ
هِرَ نَوْمٍ وما المنام أرادا
فهو يبدي تناوما ويغطي
وجهه كي يرى الضياء سوادا
ليعود النهار ليلا فتأتي
ه رُوًى مثْلها تسر الفؤادا
ما لقومي عموا عن الجَدَدِ اللَّا
حِبِ واسْتَوْبَلُوا به الإيرادا
ولووا عن طريقه الواضح الأع
لام من جهلهم فضلوا المرادا

ما كفاهم جهل الرجال فزادوا
له جهل النساء وإبعادا
تَعْلَم البنت ما تَعَلَّمَه الاب
ن ودين الإسلام أبدى اتحادا
ما لها لا تُعَلَّمُ العلمَ واهًا
ولَكَمْ قدْ ألفْتمُو الإلحادا
وبقاء الفتاة جاهلة عا
ر عليكم لا ينقضي الآبادا
أين دين أتى بحرمانها من
ه ضللتم لا تعرفون الرشادا
غنها إن تعلمت سدتم بال
علم فيها وتستزيد سوادا
آه من آلام بها قد ألمّت
آلمتنا وقطعت أكبادا
آه من جهلها الذي قادها ل
لذل حتى لاقت به أنكادا
وأمور جَنَتْ عليها خمولا
وأمور جَرَتْ إليها النّآدا
إنما الحمى أضرعتها لنوم
فألانت لمن بغاها القيادا
شردوها عن التعلم حتى
ليس تدري الفتاة إلا الشرادا
طردوها عن علم ما به ترقى
أوصدوا الباب دونها إيصادا

☆إشارات :
لمحمد بن العباس القباج 1916 / 1979 مساهمة نقدية قارب فيها الأدب في المغرب نهاية القرن التاسع عشر بداية العشرين سماها "الأدب العربي في المغرب الأقصى"، مما جاء في مقدمتها : ( منذُ سنتيْنِ كنتُ في مجمعٍ ضمَّ ثلةً من أدبائِنا وعلِّيةً من مفكرينا،فجرى ذِكرُ الأدبِ العربيِّ الذي تطوَّر في فجرِ هذا القرنِ تطورًا محسوسًا، وسايرَ العلمَ والحضارةَ في تقدُّمِهِما وارتقائِهما، فَساقَنا الحديثُ في الأمةِ العربيةِ من قطرٍ إلى قطرٍ،واستعرضْنَا أمامَنا شعراءَ العراقِ والشامِ ومصرَ والسودانِ والمَهَاجِرِ وتونُسَ والجَزائرِ، فإذا بِنا-وإِنْ كُنَّا بعيدينَ عنْ بعضِ تلكَ الأقطارِ- نُدرِكُ حَقَّ الإدرَاكِ،ونَعْلَمُ عِلْمًا يُوشِكُ أَنْ يكونَ يقينًا،مَقْدِرَةَ أيِّ أديبٍ مِنْ أُدباءِ كلِّ قُطْرٍ،ونَعْرِفُ حَقَّ المعرِفَةِ المكانةَ التي تَبَوَّأَهَا مِنَ البيانِ والبراعةِ والابتكارِ،وما ذلكَ إلاَّ من مزايا حركةِ النَّشرِ والتَّأليفِ التي أَمَدَّتْنا وأفادتْنا كثيرا،ومِنْ عظيمِ اهتمامِ أهلِ كلِّ قُطْرٍ بِشُعرائِه وأدبائِه، حيثُ قاموا أجلَّ قيامٍ بِنَشْرِ بناتِ أفكارِهِم وثمراتِ قرائحِهم.
هذهِ النظرةُ هيَ التي ألقيناها على الشعوبِ العربيةِ فَسَرَّتْنا أَتَمَّ سُرُورٍ، وطَفِحْنَا بِهِ بِشْرا واغتِباطًا،ولكنْ لمَّا حانتْ مِنَّا التفاتَةٌ إلى قُطرِنا المغربيِّ، الذي هوَ جُزْءٌ من أجزاءِ الأمةِ العربيةِ، ونَظَرْنَا هلْ لَهُ مِثْلُ هذهِ السُّمْعَةِ الأدبيَّةِ والشُّهرَةِ العاليةِ،وهَلْ أُوتِيَ أُدباؤُهُ وشعراؤُهُ ذِكْرًا يرفَعُ مقامهُم،ويُطَيِّرُ شُهرَتهُم، أَلْفَيْنا مِنْ خُمولِ الذِّكْرِ ما لا تَرضى به أُمَّةٌ تَنْشُدُ الحياةَ،وتأمل أن يكونَ لها مركزٌ في الوجودِ.
في ذلكَ الحينِ جالَ في ضميري لأولِ مَرَّةٍ أنْ أَتَصَدَّى للقِيامِ بجمعِ تأليفٍ يضُمُّ بينَ دَفَّتَيهِ تراجِمَ شعرائِنا ومنتخباتٍ من شعرِهِم؛لِيُعْطِيَ لِكُلِّ قارِئٍ صورَةً صادقَةً مِنَ الشِّعْرِ المغرِبيِّ، ويُفِيدَ كُلَّ باحِثٍ في الأُمَّةِ المغرِبِيَّةِ مبلغَ تَدَرُّجِ الأَدَبِ فِيهَا وطُرُقَ تَفْكِيرِ شُعَرائها.
وما بَرِحَ هذا الأَمَلُ يَتَرَدَّدُ في ذِهْني ويقْوَى في نَفْسِي،إلَى أَنْ رأَيْتُ الفُرصَةَ سانِحَةً والأسبابَ ميَّسرَةً لإِخراجِهِ من حيِّزِ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ، فوَطَّدْتُ العزْمَ وتَقَّدَّمتُ للعَمَلِ.
غايتي من جمع الكتاب:
مَضَى على الأدَبِ في الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ فَتْرَةٌ غيرُ قصيرةٍ،لا يَخْرُجُ عنْ موضوعاتٍ معدُودةٍ: المديحُ والهَجْوُ والرِّثَاءُ والغَزَلُ والأَلْغازُ! حتَّى لَيَتَعَجَّبَ الباحثُ في تاريخِ الآدابِ العربيَّةِ منذُ القرنِ الخامسِ إلى أنْ تكوَّنَتْ هذهِ الحرَكةُ الحديثةُ في مِصْرَ والشَّامِ في أواخِرِ القرْنِ الماضِي،حيثُ لا يكادُ يُوجَدُ من يَنْتَمي إلى الشاعِرِيَّةِ الصَّحِيحَةِ،أوْ يَدَّعِيَ النُبُوغَ فِيها، والاستحواذَ على ناصِيتِها، إلاَّ وهُوَ يبدِئُ ويُعِيدُ بينَ هذهِ الموضُوعاتِ الخَمْسِ،كأنَّ الآدابَ العربيَّةَ وَقْفٌ عليها،وكأنَّ اللَّغَةَ لاَ يتَّسِعُ صدْرُها بَعْدُ،لمِاَ كانَتْ تَتَّسِعُ لَهُ في العُصُورِ الأُولَى المُزْدَهِرَة.
وقَدْ كانَ الأَدِيبُ المَغْرِبِيُّ لا يعرِفُ طبْعًا إلاَّ هذهِ الموضوعاتِ الَّتِي ورِثَها عَنِ العُصُورِ المُتَأخِّرَةِ، فلا يَكادُ يَتَجاوزُها غالِبًا إلاَّ إِذا كانَ ذلكَ عَرَضًا غيرَ مَقْصودٍ، وَهُوَ لَعَمْرُ أبيكَ لا يُلاَمُ في ذلِكَ، اللَّهُمَّ إلاَّ إنْ كانَ يُلاَمُ الأُدباءُ أمثَالُهُ في بَقِيَّةِ الأقطارِ الذينَ كانُوا يعيشونَ في مثلِ وسَطِهِ وبِيئَتِهِ،قبْلَ أنْ يَطْلُعَ هذا العصرُ الحديثُ بعُلُومِهِ الجَدِيدةِ وعجَائِبِهِ المُدْهِشَةِ التي تَسْتَفِزُّ النُّفوسَ وتُوقِظُ جَذْوَةَ الشُّعُورِ.
ومُنْذُ عَهْدٍ قريبٍ وَصَلَ إلى المَغرِبِ الأقْصى صَدَى تِلْكَ النهضةِ الفكريةِ التي انبعثَتْ في الشَّرقِ العربيِّ،وأحدثَتْ انقِلابا في الأفكارِ والأساليبِ،فعادَ أُدباؤُنا الذينَ لمْ تَتَأَصَّلْ فيهم جُذورُ تلكَ الوِراثَةِ المذكُورةِ آنِفًا،ولمْ تَتَعَوَّدْ بعدُ أفكارُهُم الجمودَ على تلكَ التقاليدِ والاقتصارَ على تلكَ الأساليبِ إلى أن يَشْحَذُوا قرائِحَهُم من جديدٍ،ويُوَجِّهُوها إلى ما فيهِ نفعُ الأُمَّةِ،ويعودَ عليها بصلاحِ هيئتِها الاجتماعيةِ،من استنهاضِ الهممِ،ولفتِ الأنظارِ إلى الحالةِ التي وصلَ إليها الشعبُ من جهلٍ عامٍ وانحطاطٍ في الأخلاقٍ وعبثٍ بالدينِ.
ثُمَّ نشأتْ بَعدَ ذلكَ طائفةٌ مِنَ النَّشْءِ الحيِّ- وأشعارُ هؤلاءِ ملءُ الأفواهِ وحديثُ المنتدياتِ -فالتهَبَتْ جوانِحُ ذلك النَّشْءِ،واتَّقَدَتْ أفكارُهم، واهتزَّتْ عواطِفُهم،فإذا في المغربِ الأقصى شعرٌ جديدٌ طَلِيٌّ فيهِ من جَمالِ الأُسلوبِ وسُهولةِ الأَلفاظِ وصفاءِ الدِّيباجَةِ وسُمُوِّ الخيالِ، ما يُبَشِّرُ أنَّ لهذا القُطْرِ مُستقبلاً زاهِرا.فالأدبُ المغربيُّ اليومَ يُمَثِّلُهُ رِجالُ هَذِهِ الطَّبَقاتِ الثَّلاثِ:
طبقةُ أدبائِنا الكبارِ:الذينَ يمَثِّلونَ أدبَ الماضِي بطلاوَتِهِ وجناساتِه وأمداحِه وتغزُّلاتِه.وطبقةُ المخضرمينَ:الذينَ جَمعُوا بينَ الحُسنَيَيْنِ،وضَرَبُوا بالسَّهْمَيْنِ، فَنَالوا مِنْ أدبِ الماضي أوْفَى نَصِيبٍ وأَكبرَ حَظٍّ،وأخذوا منَ الأدبِ الحديثِ بعضَ معانيهِ ومقاصدهِ، فَأَفْرَغُوها في قوالبِ ذلكَ الأدبِ،فكانوا خيرَ واسِطةٍ قائِمةٍ بما يجِبُ عليها للماضي وللحاضرِ.
والطبقةُ الثالثةُ وهي الطَّبقةُ النابتةُ التي تَرَبَّتْ وتَثَقَّفَتْ في عَصْرٍ تُحَلِّقُ فيهِ الطَّياراتُ في الأجواءِ،وتخترِقُ فيهِ السياراتُ شاسِعَ الأطرافِ، وتَعُمُّ آلةُ البُخَارِ والكهرباءُ أغلبَ البقاعِ،وتُشاهِدُ ما تُخرِجُهُ العُقُولُ مِنَ الإبداعِ والاختِراعِ، فجاءَتْ أفكارُها مُطابِقةً لروحِ العصرِ مُناسِبةً لِرُقِيِّهِ وحضارَتِهِ نوعًا ما.
هكذَا ارتَأَيْتُ أَنْ أُرَتِّبَ هذا الكتابَ،فَتَرَى فيهِ الطَّبَقَاتِ الثلاثَ مُتَنَاسِقَةً،يأخُذُ بعضُها بِرِقابِ بعضٍ،وإِنْ لمْ يكُنْ ذلكَ واضحا أتَمَّ الوضوحِ بينَ الطبقتينِ الأُولَيَيْنِ.بَيْدَ أنَّ الناظرَ تتجلَّى لَهُ الأولى في أوَّلِ الجُزْءِِ الأولِ.وما يكادُ يصلُ إلى ثُلُثِهِ الأخيرِ حتَّى يَشْعُرَ أنَّهُ انتقلَ إلى الثَّانيةِ.
وهكذا أيضا ينبغي أنْ يُفهَمَ أدبُنا ويَدْرُسَهُ مَنْ أرادَ ذلكَ،فَيَدْرُسَ أدبَ كلِّ طبقةٍ في مُحِيطِها وَوَسَطِها ويعرِفَ كيفَ ينتَقِدُ انتقادا صحيحا نَزِيهًا.
ولَنا رجاءٌ أن يقومَ مِنْ كُتَّابِنا مَنْ يرى في نفسِه أهلِيَّةً واستِعدادا لذلِكَ الانتقادِ، فَيَكُونَ قدْ أفادَنا كثيرًا،وخَدَمَ أدبَ قومِه،وصَدَعَ بالحقِّ دُونَ خَشْيَةٍ أو رِيبَةٍ.لا سِيَما ونحنُ في الطورِ الأوَّلِ مِنَ الانتِباهِ والنُّهوضِ،وقدْ أصبَحْنا نَشْعُرُ بحاجَةٍ ماسَّةٍ وشِدَّةِ افتْقارٍ إلى النَّقدِ الأدبيِّ،لِنَتَبَيَّنَ موطِنَ الضَّعْفِ وموضِعَ الخللِ في أدبِنا وتفكيرِنا،فَنُسْرِعَ لإصلاحِهِ وتقوِيمِهِ.
وَلَقدْ كُنْتُ أَوَدُّ أنْ أنهَضَ بهذا العِبءِ، وأمزِجَ هذا الكتابَ بالنقدِ،ولَكِنْ لِوُفُورِ ما عِندي منَ الأشغالِ، وضِيقِ الوقتِ،تأخَّرتُ عن ذلكَ، وتراجَعْتُ عنْ كُلِّ ما كُنتُ أريدُ.وحَسبيَ الآنَ أنْ أُقدِّمَ للناطِقينَ بالضَّادِ مِنْ أبناءِ قومِي ثَمرةَ مجهُودي منذُ سنتينِ مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ نقدٍ.وعَسَى أَنْ أكونَ قدْ قُمْتُ بِبَعْضِ ما يجِبُ عَلَيَّ نحوَ الشَّعْبِ وأدبِهِ.
فإذا طالَعْتَ أيُّها القارئُ الكريمُ هذا السِّفْرَ، وعَلِمْتَ مِنْهُ أسماءَ بعضِ شُعرائِنا،وعَرَفْتَ مطروقاتِهمُ المُختلِفَةَ ومُتَّجَهَاتِهِم،وأدْرَكْتَ مَقْدِرَةَ كُلِّ واحدٍ منهم والمرْتبةَ التي يشغلُها في عالمَ الأدبِ،معَ صورةٍ صغيرةٍ من حياتِه، فإنَّ ذلكَ هو غايتي منْ تأليفِ هذا الكتابِ."

_محمد بن العباس القباج،
الأدب العربي في المغرب الأقصى،
الجزء الأول،
الطبعة الأولى،1929.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التجهيز للدورة الـ 17 من مهرجان المسرح المصرى (دورة سميح


.. عرض يضم الفنون الأدائية في قطر من الرقص بالسيف إلى المسرح ال




.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو