الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-يوليتزر9

عبدالرحيم قروي

2024 / 1 / 31
الارشيف الماركسي


أصول الفلسفة الماركسية
الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
الحلقة التاسعة

في المجتمع
تقوم الميتافيزيقيا بعزل الظواهر الاجتماعية كلا منها عن الاخرى فتعزل الواقع الاقتصادي عن الحياة الاجتماعية وتعزل الحياة السياسية عنهما. كما أنها تدخل الحواجز داخل كل من هذه الميادين. وهذا يؤدي إلى القول بأن "إعدام آل روزنبرج الأبرياء على يد الحكومة الأميركية غباوة لا معنى لها". ويرد الجدلي على ذلك بقوله: "لهذا الإعدام مغزى فهو يعكس سياسة الزعماء الأميركيين بأجمعها، وهي سياسة حرب تحتاج إلى الأكاذيب وإلى الذعر".
ولا يفهم الميتافيزيقي تاريخ المجتمعات بل هو عبارة عن خليط من العوارض (أي الظواهر التي لاسبب لها) ومن الصدف العابثة حتى أن هناك فلاسفة يؤكدون (ومنهم البير كامو) أن جوهر العالم هو العبث (L absurde) هذه الفلسفة مفيدة لصانعي الكوارث. أما الجدلي فهو يعلم أن كل شيء في الطبيعة مرتبط بعضه ببعض. فإذا ما انهارت المدارس فليس ذلك لعجز الحاكمين بل لأن سياسة الحرب تتطلب تضحية أبنية المدارس. ولقد لاحظ (أراجون) أن الاستعداد للموت يقصر الحياة "كل شيء يتعلق بظروف المكان والزمان". وتستطيع الجدلية أن تفهم الظواهر الاجتماعية وتفسرها لأنها تصلها بالظروف التاريخية التي تولدت عنها والتي تتفاعل معها. أما الميتافيزيقي فهو يعيش في التجريد، ولا يعبأ بظروف المكان والزمان.
وهكذا يعتقد البعض، بنية حسنة، أنه كان بإمكان العمال الفرنسيين في سنة 1944، بقيادة الحزب الشيوعي، الاستيلاء على الحكم، وأن تقاعسه عن ذلك "فوت عليه الفرصة". وهذا تقدير مغر لأول وهلة ولكنه تقدير خاطىء. لماذا؟ لأنه يفصل جانبا لا معنى له الا في علاقته بالمجموع.
الخطأ أنما هو في معرفة طابع حركة المقاومة وهدفها. ولا شك أن القوة الأساسية كانت الطبقة العاملة التي يقودها الحزب الثوري الا وهو الحزب الشيوعي. غير أنه لم يكن هدف حركة المقاومة القيام بثورة عمالية، بل كان هدفها تحرير البلاد والقضاء على الفاشية. ولقد وحد هذا الهدف الفرنسيين في جميع الطبقات (حتى أنه قسم البرجوازية على نفسها وانفضت طائفة منها عن حكومة فيشي). وهكذا اتخذت حركة المقاومة صورا شتى من نضال مسلح، واضرابات العمال، ومظاهرات النساء في الشوارع، ورفض الفلاحين تسليم المحصول، ونسف لجهاز حكومة فيشي الاضطهادي على يد الموظفين، ونضال الشبان ضد الخدمة الإجبارية في ألمانيا والمعلمين والعلماء ضد الهتلرية المضللة. فكانت حركة المقاومة عملا قوميا عظيما. ذلك هو طابعها الأساسي. ويرجع الفضل للشيوعيين الفرنسيين في أنهم فهموا الوضع بمجمله، فعملوا على تكوين جبهة وطنية واسعة للنضال ضد هتلر ومعاونيه، ولم يسمحوا بأن تصبح حركة المقاومة حزبا منفصلا عن جماهير الشعب الفرنسي. وهكذا أمكنت الثورة الوطنية عام 1944 ضد العدو الذي أصبح وحيداً آنذاك.
ماذا كان يحدث لو أن طبقة العمال حاولت، في تلك الأيام، "القيام بثورة" وتأسيس الاشتراكية؟، لو أن الشيوعيين في سنة 1944، بينما كانت الحرب ضد هتلر لا تزال مستمرة، قالوا: "لم يعد هدفنا تحرير فرنسا و العالم من النازيين بل القيام بالثورة العمالية"، لو فعلوا ذلك لرأوا ملايين الفرنسيين من مختلف الطبقات، المستعدين للنضال من أجل تحرير البلاد، ينفضون عن طبقة العمال لأنهم غير مستعدين لمساعدة حركة ثورية، فيا له من عيد للهتلريين وأعوانهم من البرجوازية الفيشية الرجعية! وهكذا تصبح طبقة العمال وحيدة في الميدان فتفقد قيادة حركة المقاومة، تلك القيادة التي بذلت من أجلها أغلى التضحيات. ويخلو طريق الدكتاتورية أمام ديغول بمساعدة الجيش الأميركي. وذلك لأن الجيش الأميركي، وهذه هي المسألة الثانية التي يجب توضيحها، لم يهبط أرض فرنسا إلا لأن الانتصارات الروسية قد جعلت الجبهة الثانية أمرا لا مفر منه في أوروبا. كان غرض الزعماء الأميركان حرمان الشيوعية من الاستفادة من انهزام هتلر في البلاد المحتلة. فإذا ما اندفعت الطبقة العاملة، متجاهلة هذه الأوضاع الموضعية، للاستيلاء على الحكم لكان مصير شعبنا القتل، ولاتخذ الجيش الأميركي صفة الجيش المحتل كما يفعل اليوم، ولقضى على الثورة بمساعدة النازيين العائدين كما عادوا إلى أورادور.
ألم يكن أمل ألمانيا الهتلرية والبرجوازية الألمانية (كآل كروب الذين أطلق الأميركان سراحهم) زوال التفاهم بين الكبار الثلاثة؟ وهكذا عاد تحالف ميونيخ بين البرجوازية والرجعيين ضد بلد الاشتراكية، ضد الاتحاد السوفياتي الذي قام بدور كبير في تحرير الشعوب. فإذا بجميع الفوائد والجهود والآلام التي عانيناها خلال أربعة أعوام يمحوها دم الشعب الفرنسي.
بينما كانت المطالبة بالقضاء على الفاشية وإقامة جمهورية ديمقراطية برجوازية تتفق ومجموع "الظروف المحيطة" وهذا ما فعله الشيوعيون. وكان ذلك مطلبا في مستوى جماهير الشعب الفرنسي، يمكن تحقيقه بصورة تدريجية لأنه كان يمثل خطوة كبرى إلى الأمام. وذلك لأن طبقة العمال تجد في الجمهورية الديمقراطية البرجوازية أفضل الظروف لنضالها الطبقي. ويفسر لنا هذا ازدهار حركة العمال الفرنسية في الأشهر التي تلت التحرير، وقد حمل هذا الازدهار الشيوعيين إلى الحكم وعاد على شعبنا ببعث اقتصاده وارتفاع مستوى المعيشة والضمان الاجتماعي وتأميم الصناعات وإيجاد مجالس الإدارات وبدستور ديمقراطي، وورقة الانتخاب، وإعطاء المرآة حق التمثيل في المجلس، وقانون الموظفين. الخ.. وهكذا وجدت الطبقة العمالية نفسها في عام 1947 في أفضل الظروف النضالية لمجابهة قوى الرجعية في هجومها المعاكس.
كما أتاح استمرار تفاهم الكبار الثلاثة، على المستوى العالمي، ضد ألمانيا الهتلرية، والقضاء على الطيران الألماني(Wehrmacht)، كما أنه أمكن من تكوين الأمم المتحدة وعقد اتفاق بوتسدام، فأصبح ذلك فيما بعد حجر عثرة في وجه النزعة الإمبراطورية الأميركية. كما سهل مهمة الديمقراطيين الشعبيين الشبان في أوروبا، وهذه مسألة مهمة جدا. ولو أن الشيوعيين الفرنسيين اتبعوا سياسة خرقاء عام 1944 لكان من الصعب الحصول على هذه الانتصارات. ولقد اضعفت هذه الانتصارات الرأسمالية العالمية. ولهذا يجب النظر إلى الحركة العمالية في بلد ما في نفسها بل في علاقتها بالمجموع.
لا نستطيع تحليل العديد من الأمثلة الأخرى التي تدل على ضرورة النظر إلى الحوادث في ترابطها وكليتها وأن لا نفصل الواقعة عن "ظروفها" المحيطة، ولنكتف بالمثل التالي:
أن المطالبة بجمهورية ديمقراطية برجوازية ضد البرجوازية الفاشية هي مطلب يتفق تماما ووضع الحركة العمالية الفرنسية اليوم. وهي مطالبة بامكانها أن تضمن أكبر تجمع للشعب حول طبقة العمال ضد العدو الرئيسي وهو البرجوازية الرجعية التي لا أمل لها، كي تعيش، الا في القضاء على شرعيتها الخاصة. غير أن المطالبة بنفس الشيء في الاتحاد السوفياتي لا معنى لها. لماذا؟ لأنه إذا كانت الديمقراطية البرجوازية تعتبر تقدما على الفاشية، فأن الجمهورية الاشتراكية السوفياتية (التي تضمن للعمال ملكية وسائل الإنتاج) تعد أيضا تقدما باهرا على الجمهورية البرجوازية. وهكذا يصبح ما كان خطوة إلى الأمام، بالنسبة لشعبنا، خطوة إلى الوراء بالنسبة للاتحاد السوفياتي.
يجهل الميتافيزيقي أوضاع الزمن والمكان، ولهذا يفصل الديمقراطية عن ظروفها، كما لا يميز بين ديمقراطية برجوازية وديمقراطية سوفياتية. وبما أنه لا يعرف سوى الديمقراطية البرجوازية فهو يماثل بينها وبين الديمقراطية، فيأخذ على الاتحاد السوفياتي بأنه ليس "ديمقراطية".
وهذا حق، فليس الاتحاد السوفياتي ديمقراطية برجوازية لأنه قضى على الاستغلال الرأسمالي وأوجد ديمقراطية جديدة تجعل السلطة كلها بيد العمال.
ومجمل القول أن الميتافيزيقي يفصل ويجرد الصورة السياسة عن مجموع الظروف التاريخية التي أوجدتها والتي تفسرها بينما الجدلي يعود إلى الأخذ بهذه الظروف.
5 – الخلاصة
ليست الطبيعة وليس المجتمع خليطاً يستعصي على الفهم بل ان جميع جوانب الواقع تترابط فيما بينها بروابط ضرورية متبادلة.
ولهذا القانون أهمية عملية. يجب إذن أن ننظر إلى وضع أو حادثة أو مهمة نظرة تحيط بالظروف التي تولد هذه الأشياء وتفسرها، كما يجب الاهتمام دائما بما هو ممكن وما هو غير ممكن.
إذ لا يجب أن نجعل من رغباتنا حقيقة واقعة، ويجب على الثوري أن يدرك الوقائع في حقيقتها. وهكذا أعتقد أننا نتخذ قرارا معينا في ظرف معين حتى إذا ما تغير الظرف اتخذنا قرارا مختلفا عن الاخر الذي اتخذناه أولا. فنحن نتراجع إذا لم تعد ظروف النجاح كافية، كما نسير رأسا إلى القتال إذا أملنا بالنصر بهذا الهجوم. وعلى كل لا يمكن أن نرتبط بصيغة أو قرار لأننا لا يمكننا أن نعرض حركتنا للخطر
وما تجاهل ظروف العمل الا نزعة عقيدية متطرفة (dogmatique) إذ بينما مصلحة العمال في احترام هذا القانون الأولي للجدلية فأن البرجوازية تود أن تنسيهم اياه لأن مصلحتها تتعارض وهذا القانون. فهي تجيب على الذين ينددون بالظلم الاجتماعي "هذا نقص موقت!" كما أنها تصور الأزمات الاقتصادية على أنها "ظواهر سطحية عابرة". ويجيب العلم الجدلي على ذلك بأن الظلم الاجتماعي والأزمات الاقتصادية هي نتائج حتمية للرأسمالية.
يقدس الفلاسفة البرجوازيون الميتافيزيقا لأنها تتيح تجزأة الواقع وتشويهه لمصلحة الطبقة المستغلة. حتى إذا بلغ التفكير الواقع في كليته اعترض هؤلاء الفلاسفة قائلين بأن ذلك لم يعد "تفلسفا". لأن الفلسفة عندهم ملف تحتفظ فيه كل فكرة بمكانها: فهنا الفكر وهناك المادة، هنا "الإنسان" وهناك المجتمع، الخ...
أما الجدلية فهي تعلمنا أن كل شيء مترابط مع الآخر وأن ليس هناك من جهد ضائع لتحقيق هدف معين. وهكذا يعلم المناضل من أجل السلام أن الحرب ليست ضربة لازب لأن كل عمل يقوم به لمنعها هو عمل له قيمته، يمهد السبيل لانتصار السلام.
ولهذا يدرك المناضل الثوري، وقد تسلح بالجدلية، مسؤولياته. فهو لا يترك شيئا للصدف بل يقدر كل جهد قدره.
ويتيح لنا هذا الفهم للواقع أن ننظر بعيدا. كما يمدنا بالشجاعة التي لا تقهر حتى أن الفيلسوف الجدلي ف. فلدمان استطاع أن يصرخ في وجه الجنود الألمان الذين رموه بالرصاص قبل أن يخر صريعا: "يا لكم من أغبياء. أني أناضل من أجلكم!".
وقوله حق، لأنه كان يناضل من أجل الشعب الألماني كما ناضل من أجل الشعب الفرنسي، لأن مصير كل منهما مرتبط بالآخر.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Politics vs Religion - To Your Left: Palestine | فلسطين سياس


.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي




.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل