الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشراقات صورة الأم..وتجليات الصورة الشعرية في -مهما كبرت يا أمّي - للشاعرة التونسية الفذة أ-نعيمة المديوني (التجليات النفسيّة)

محمد المحسن
كاتب

2024 / 2 / 2
الادب والفن


"أحنُّ إلى خبز أمي/وقهوة أُمي/ولمسة أُميوتكبر فيَّ الطفولةُ/يوماً على صدر يومِ/وأعشَقُ عمرِي لأني/إذا مُتُّ/أخجل من دمع أُمي !" (محمود درويش)

للأم حضور خاص في ذاكرة الشعراء،ولكل شاعر تجربته مع دلالات الأمومة ورموزها،وبصمة وجدانية تستعيد البراءة والحنين إلى ذكريات الطفولة،وعبر تاريخ ديوان العرب،تشكلت أيقونات إبداعية تحتفي برمز العطاء بلا ضفاف.
يلفت مؤرخو الشعر العربي إلى تنوع صورة الأم في وجدان الشعراء وثرائها،ومنذ فجر التاريخ توثقت الصلة بين القصيدة وفكرة الأم،وتشكلت من تناغم الرمز والأسطورة،وسخاء عاطفي في فضاء المديح والإحتفاء.
صارت(الأم) لدى بعض الشعراء (قصيدة "مهما كبرت يا أمي للشاعرة التونسية أ-نعيمة المديوني-نموذجا) مركزا كونيا،وسيدة نساء العالم،وحفلت قصائدهم بصور وأخيلة،ونزق طفولي،ورغبة جارفة في استعادة براءة مفتَقَدة،والخروج من برزخ الهموم إلى رحابة معاني الحب.
ورغم الطفرة التكنولوجية المذهلة،يبقى الإحساس بقوة الإنشداد إلى ذلك الحبل السري الذي يمدنا بالأمان والحب ويشدنا إلى توأمة الروح (الأم) إنها الحقيقة الروحية التي تحمل كل حواس الوجود الإنساني.
وحين يعجز القلم واللسان عن إعطاء الأم حقها..نلمس صدق التجربة والوفاء المتقد لها يسري في جسد قصيدة رائعة للشاعرة التونسية القديرة أ-نعيمة المديوني موسومة بعنوان ( مهما كبرت يا أمّي )،تعبر فيها عن حنينها المتوقد ومعاناتها الدفينة .وهذا أمر طبيعي تجاه من هي سبب وجودها في الحياة.انه الإقرار بالفضل الذي لا يمكن موازنته بكل الموازين،لان كفة الأم هي الأرجح دائما..
مهما كبرت يا أمّي
مهما كبرت يا أمّي
مهما تعاقبت المواسم
مهما آبتسمت ومهما نهشني الألم
مهما سرقتني السّنون
صفعتني
عاتبتني
عانقتني
ثم في حضنها دفّأتني
مهما كبرت يا أمّي
وشغلتني آلدّروب
مهما داعبت وجهي أصابع الشّمس
وسرّحت شعري خيوط الْقمر
فإنّ تلك الصّغيرة داخلي
لازالت تهفو لضمة حنان
لبسمة ترتسم على شعاب الفؤاد
ليد تمتدّ في الظّلام..تغطّيها
لقبلة تستقر في يوم قرّ على الجبين..تدفّيها
تذيب جليد الأوتار وتراقص الأحلام
مهما كبرت يا أمّي
لا زالت تلك الطفلة الصغيرة تبحث عن الأمان
عن عيون تفيض حنانا
عن حضن يأويها ساعة غروب
عن حبّات قمح تبذرها عبر المدى
تهب خيراتها للفقراء
يقتاتون الحُبَّ ويغنمون من السّخاء
مهما كبرت يا أمّي
مهما ذرفت الدّمع قهرا
خوفا من الضّياع في غابة أسودها جبناء
ينهشون لحم الأبرياء
فلا زالت أشواقي تراوغني
ولا زالت ظلمة الرّوح تستبدّ بي في الغياب
هذه الأيّام بعدك ظلماء
صمّاء
غبراء
أ أبكي غيابك أم أبكي عذاب روح أرهقها النّحيب
يا دمعة أخفيها عن العيون
يا نجما يشعّ حنانا
ماذا لو مزّقت الصّمت
لو جئتني في ليلة آكتمل فيها البدر
تزرعين حولي الأمل
أستعيد آبتسامة ضاعت منّي في زحام اللّيالي القاحلة
أستعيد صورة حبيبة في المرآة
صورة وجه طافح بالبشر والحنين
تهدأ مواجعي
يسرقني عطرك من أحزاني
يأخذني إليك
أضمّك ضمّ المحبّين
أتوه فيك وأنسى بساتيني العطشى للدّفء والنّعيم
أمّاه يا صبري ويا وجعي
رغم الحزن السّاكن في الأعماق
رغم آختلاف الزّمان وتغيّر المكان
لا زلتِ نورا تشعّين
ولا زلتُ تلك الطّفلة التّي تعرفين
و لا يزال حبّك كاللّجين
يضيء وحشة أيّامي وينبتني في رحاب الحنين
(نعيمة المديوني)
ولأنها تقدس الأم..تمنحها رمز الحياة والولادة..كما في الأساطير الموروثة حين قدست الآلهة (فينوس) لأنها كانت رمزا للجمال.
إن رمزية الأم في قصيدة الشاعرة،هي وسيلة لتأكيد (وجودها) في القلب.إذن الأم والقلب ثنائية تستند على دلالات وتجليات بحيث اقتنصت الشاعرة من تلك الثنائية تعابير موحية لتصبها في قصيدتها فتفيض العبارات بأحاسيسها المسكونة بطيف ذلك الرمز الشفاف (الأم)..
وإذ نتذكر الأم تتراءى لنا صورة الشاعر الهندي الكبير (طاغور) حين يزوره هاجس الأم والذي ظل يؤرقه كينونة ومعنى،حتى بدا صوته يتعالى فوق الزمان والمكان وهو يحس بذلك الثراء الروحي حين يتلفظ هذه المفردة (الأم) ” سأذكر اسمك وأنا وحيد،جالسا بين ظلال أفكاري الصامتة.أتلفظ اسمك بلا كلام وبلا سبب،كطفل ينادي أمه مئة مرة فرحا بترديد كلمة أمي “.
ولأن شاعرتنا تعانق الشعر معانقة المشدودة إليه حد الجزئيات،تولد خوالج النفس عندها دقة الشعور بنفسها،فتسمو بها المشاعر وتشمخ بالشعر إبداعا خلاقا (لا زالت تلك الطفلة الصغيرة تبحث عن الأمان/عن عيون تفيض حنانا/عن حضن يأويها ساعة غروب/عن حبّات قمح تبذرها عبر المدى..)
يتغنى الصوت بالفقد والحنين إلى الأم،وتتتابع الصور المجازية على نحو غائم،ويسطع حضور طفولي في فضاء تخيلي،وتنفلت الحواس بحثا عن رائحة أزمنة ماضية :(أستعيد آبتسامة ضاعت منّي في زحام اللّيالي القاحلة/أستعيد صورة حبيبة في المرآة/صورة وجه طافح بالبشر والحنين/تهدأ مواجعي /يسرقني عطرك من أحزاني/يأخذني إليك/أضمّك ضمّ المحبّين..)
لنعد إلى فضاءات الأم،حيث المعاني والصور ذات الوقع الخاص،لان الشاعرة تمتلك حاسة فنية تقودها إلى التقاء صور بارعة توظفها لخدمة القصيدة،كأننا أمام ( بانوراما ) مجسدة في قوالب شعرية،توقظ انفعالا خاصا لدى المتلقي،ورؤى تعبيرية جميلة،حين تصور نفسها في أحضان أمها (يسرقني عطرك من أحزاني/يأخذني إليك/أضمّك ضمّ المحبّين/أتوه فيك وأنسى بساتيني العطشى للدّفء والنّعيم..) (لا زالت تلك الطفلة الصغيرة تبحث عن الأمان/عن عيون تفيض حنانا/عن حضن يأويها ساعة غروب..)
إنها أحاسيس فطرية تقتحم الشاعرة بعفوية وتلامس شغاف قلبها..فتمطرها كلمات دافئة في ثنايا قصيدتها التي يتدفّق في تلافيفها حنين حارق،وشوق عاصف لأم غابت جسديا وبقيت شعريا في مخيلتها.
ومن البديهي أن مثل تلك الأحاسيس والاحتراق الصامت يخلقان من صاحبتهما شاعرة فذة تعي..ماتقول.وتنسج قصيدة غنية بالصور،باذخة بالخيال.
هذه القصيدة،تمتاز ببنيتها السردية،وبتعبيريتها المتدفقة من أعماق الذات الشاعرة.لقد تمكنت الشاعرة في قصيدتها هذه أن تحفزّنا أن نرى ونتلمس ونحسّ ونشعر بالحالة النفسية التي كانت تعانيها الشاعرة لحظة كتابة القصيدة.وهكذا تتجلّى مقدرة الشاعرة في كتابة القصيدة السردية التعبيرية وتتفنن في إدهاشنا وبثّ حالة شعورية نفسيّة في نفوسنا.وقد نجحت في ذلك أيما نجاج.
هكذا،فالقصيدة عذبة المعنى،جزلة الألفاظ ومتنوعة التراكيب والأساليب قوية الإيقاع،يصدق عليها قول الجاحظ :” أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء،سهل المخارج،فتعلم أنه أفرغ إفراغا،وسبك سبكا واحدا،فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان “.
ومن يطلع على تجربة الشاعرة التونسية المتميزة أ-نعيمة المديوني يدرك أن الشاعرة تهندس جملها بفنية آسرة،فهي تشتغل على الجملة الشاعرة،والمعنى البليغ والرؤيا الخلاقة،لدرجة أن الأبيات الشعرية تسير في قصائدها متلاحمة السبك قوية المعنى،شاعرية في إيقاعها وموسقتها،فهي تنوع في أشكال الجمل لإبراز شعريتها،وللتدليل على هذه القيمة الجمالية في التشكيل نأخذ قولها من قصيدتها هذه (مهما كبرت يا أمي) ما يلي : (أستعيد ابتسامة ضاعت منّي في زحام اللّيالي القاحلة/أستعيد صورة حبيبة في المرآة/صورة وجه طافح بالبشر/والحنين/تهدأ مواجعي /يسرقني عطرك من أحزاني..)
إن الممعن في هذه الأبيات يدرك بلاغة الشاعرة في إصابة المعنى البليغ من خلال جمالية التراكيب التي تظهرها الجمل الشعرية في توزيعها الإيقاعي المموسق النشط..
وصفوة القول..هذا هو قدر الشاعرة،أن تهب توهجها وشوقها لمن تحمل سر الحب والحياة.. لديمومة التواصل الإنساني الذي يعكس جوهر العمل الإبداعي.
وأختم : إن بلاغة الإمتاع التي تستشعر في القصيدة راجعة بالأساس إلى كثافة التصوير.بسبب التأثير الجمالي الذي تخلفه الصورة في نفسية المتلقي،و هذه البلاغة ترجع إلى عمق المضمون المبثوث في القصيدة،والداعي إلى معانقة قيم المحبة والصفاء التي تتجلى في صورة الأم رمز البهاء..عنوان العطاء..ومرآة الوطن.
وتظل مكانة الأم حاضرة في ذاكرة شاعرتنا أ-نعيمة المديوني،والملاذ الآمن لروحها المجهدة،وطاقة شعورية ملهمة للإبداع،والتحليق نحو آفاق التجريب والمغامرة الشعرية،وثراء الكتابة عن وشائج الحب والحنين الدائم إلى أسمى الكائنات.
ألا رفقاً بنا أيّها الشاعرة الفذة.رفقاً بأرواحنا المعذّبة في أتون حب الأم،وأنت ترشين الملح على جراحنا،فتستفيق وتلتهب،وكم هو رائع أن تلتهب..! فحب الأم إن لم يكن تناقضاً بين الحزن والفرح،وبين الحضور والغياب،بين الظلمة ولذّة الضوء،فهو رحلة في سراب،وقدرُه الانتهاء والتبدّد.
ملحوظة : لم أمر يوما على قصيدة وأقول فيها رأي،كل ما في الامر أني أحيانا أستمتع بنغم الايقاع وأتذوق معاني التعابير والمشاعر الانسانية فيها..
أما اليوم فليعذرني النقاد والشعراء أني تجرأت وتناولت قامة إبداعية مثل الشاعرة أ-نعيمة المديوني.
أما الشاعرة فهي-قريبة مني-وأستطيع أن أجد لنفسي عندها العذر..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟