الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا كَسَبَت العراق بعد صدام

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2024 / 2 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


تَعرضُ العراق في عهد صدام حسين النموذج المثالي للدولة القومية العربية الحديثة منذ التحرر من الاستعمار حتى الوقت الحاضر. الدولة القومية هي هذه التي يتعلق انتماء قاطنوها الأول والأخير بأرض وتاريخ هذه الدولة على امتداد العصور المختلفة نكوصاً إلى آلاف السنين الماضية؛ هي دولة الامتداد، عبر الماضي والحاضر والمستقبل. وهو ما يستلزم درجة كبيرة من الثبات والاستقرار النسبي في حدودها الجغرافية والسياسية والديموغرافية عبر حقب شاسعة من الزمن. بهذا التعريف، قد لا نجد سوى أقلية من الدول العربية المعاصرة بجانب العراق هي بحق ’قومية‘، مثل مصر وتونس وربما المغرب، بينما الأغلبية الساحقة أقل من ذلك، من شاكلة السعودية وسوريا والأردن وليبيا والجزائر، على سبيل المثال لا الحصر. من مفهوم وممارسة الثقافة القومية العربية الحديثة، نضج وتوطد التنظيم السياسي في عهد صدام حسين إلى ما يشبه الشمول المطلق، السيطرة شبه التامة بوسائل القوة القمعية من قبل أقلية زهيدة للغاية على ملايين المواطنين. ماكينة قتل وقمع جبارة قوامها آلاف مؤلفة من الكوادر العسكرية والأمنية والتكنوقراطية والبيروقراطية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية، يتناوب على قيادتها وتوجيهها نَفَرٌ يُعَدّون على الأصابع، جميعهم في النهاية يتلقون أوامر مباشرة من رئيس الجمهورية، صدام حسين نفسه.

لم تكن ثورة سلمية، ولا حرب أهلية، هي التي نسفت نموذج الدولة القومية العربية الحديثة في العراق من جذوره؛ بل بول بريمر، الحاكم الإداري الأمريكي للعراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003. حتى بعد هزيمة مُذلة وتامة على يد القوات الأمريكية والبريطانية الغازية، كان لا يزال بمقدور الدولة القومية العراقية بمفهومها العربي الحديث أن تجدد دمائها وتبعث نفسها من جديد، مثل نظيرتها الناصرية بعد 1967- لكن بشرط الحفاظ على ما بقي من حُطام مقوماتها الأساسية، تحديداً الجيش والمنظومتين الأمنية والبيروقراطية. لكن بريمر، بتشجيع من ربما أغلبية القوى الفاعلة العراقية آنذاك، كان له رأي آخر: رفع كل الأنقاض وتطهير الأرض، تمهيداً للحفر وإعادة البناء من جديد. وهذا ما كان فعلاً. ثم بدأت حقبة أخرى تُضاف إلى عمر العراق المديد، في معظمها امتداد لأسس راسخة على مر العصور، لكان يغيب عنها متغير وحيد- تنظيم الدولة القومية بمفهوم الثقافة العربية الحديثة. كيف سيكون مستقبل العراق في غياب هذا التنظيم الحديث كما جسده في أبشع صوره نظام صدام حسين؟

الفوضى الأمنية الشاملة
فور تسريح الجيش، إنهاء خدمة الدولاب البيروقراطي للدولة واجتثاث البعث، تحولت العراق إلى حالة ’حرب الكل ضد الكل‘. فوضى كاملة، تحرش وقتل وتصفية حسابات من كافة المكونات العراقية الدينية والطائفية والحزبية والقبلية والفكرية ضد بعضها البعض. أكثر من ذلك، فُتِحت الحدود العراقية على مصراعيها أمام التدخلات الخارجية من كل حدب وصوب، لتعم وتشتعل الفوضى أكثر إلى الحد الذي كاد أن يأتي على كيان العراق ذاته تحت أقدام تنظيم طُفيلي عشوائي مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). وهو ما جعل الكثيرين، ومعهم العذر، يتحسرون على أيام دولة صدام، حين كان الأمن يعم ربوع البلاد، والجيش العراقي محط خشية ومهابة وسط الإقليم ودول الجوار. كانت القوات الدولية بقيادة أمريكية، وليس أبناء العراق المتناحرون فيما بينهم، هي التي أنقذت العراق من الضياع في نيران الفوضى الأمنية الداخلية العارمة التي بثها الداعشيون وغذاها حتى العراقيون أنفسهم.

الفساد المستشري
في غياب قوة القانون- سواء المستند إلى القوة الغاشمة أو إلى مؤسسات التشريع الوطنية الديمقراطية- المنظم لحق حيازة السلاح واستخدامه، يسود العنف والاحتراب الأهلي الذي يهدد حياة الكل والوطن معهم. كذلك، في غياب القانون الموحد والمنظم لحق حيازة واستغلال موارد الثروة العامة، يستشري الفساد في ربوع البلاد ويُخَّرب ويَنهب حاضره ومستقبله. هذا هو واقع العراق بعد صدام، عقب الإطاحة بنظامه وقوانينه التي لا ترحم القائمة على القوة الغاشمة. وهو ما يجعل الكثيرين من داخل العراق وخارجه يتساءلون: أين فقر العراق الحاضر من غناه الماضي؟ أين ذهبت، تبخرت، مكامن ثروته النفطية؟

العراقيون المسلحون والفاسدون
في عهد صدام، كان السلاح والثروة حكر شبه مطلق للدولة التي يمثلها هو وزمرته من دون أي سند ديمقراطي من المواطنين. حين كان السلاح بيد الجيش العراقي وحده، بدا الأخير قوياً ومهاباً حتى لو كان ما لديه من أسلحة أقل بكثير مما ينتشر فوق أرض العراق حالياً. بدا قوياً ليس لأنه كان قوياً بحق، بل لشدة ضعف وهوان وقلة حيلة كافة من كانوا يطمحون إلى تحدي قوته. هذا الوضع لم يعد قائماً فور تسريح الجيش، حين انتقل السلاح إلى يد الكافة ليحاربوا ويقتلوا بعضهم بعضاً وتعم الفوضى. حينئذٍ بدت العراق ضعيفة. لكنها ليست ضعيفة بحق، بل هي في الحقيقة أقوى مما كانت أيام صدام. لكن قوتها هذه الأضخم الآن منتشرة ومبعثرة وسط العراقيين أنفسهم. وهؤلاء لا يزالون يرفضون الاتفاق معاً على قانون جامع والانصياع له طواعية، بل يتمسكون بأسلحتهم وتشكيلاتهم المسلحة التي يزداد عددها وتتعاظم قوتها يوماً بعد يوم. كذلك الحال مع الثروة العامة. كانت ثروة العراق في عهد صدام عظيمة بحق، لأنها كانت مُرَّكَزة بالاحتكار بيد شريحة ضيقة. اليوم ثروات العراق باتت مشاعاً، وفي غياب قوة القانون غنيمةً لكل من هب ودب، سواء من داخل العراق أو من آخر الدنيا. كما مع السلاح، ثروة العراق اليوم هي في حقيقة الأمر أضعاف مضاعفة ما كانت عليه أيام صدام، حتى رغم افتقارها لأُبهة وفخامة وثراء قصوره الرئاسية الخالية.

خلاصة القول، لم يكن للعراقيين أنفسهم فضل أو مساهمة تُذكر في الإطاحة بدولة صدام. لكنهم رغم ذلك ورثوها، وكان من ضمن التركة السلاح والثروة العراقيين. السلاح الذي كان صدام يُرَكِّزه بيد جيش قوي يقمع ويقتل العراقيين، ويرمي بهم حطباً لحروب لا تنتهي لإرضاء غروره، انتقل إلى يد العراقيين اليوم ليقمعوا ويقتلوا به بعضهم بعضاً. كذلك الثروة، لم تعد حكراً على الطغمة الحاكمة، بل تتناوب عليها أيادي العراقيين أنفسهم من دون ضابط أو رقيب أو حسيب أو قانون موحد ونافذ على الكافة. وهو ما يجعل الفساد والفقر مستشريان إلى حدود تجعل البعض يتحسرون على أيام صدام. رغم ذلك، ثَّمة متغير جوهري وحاسم قد دخل الحقبة العراقية المعاصرة: العراقيون لم يعودوا بعد مجرد نكرة، يُفعل بهم ولا يَفعلون. وحتى لو كانوا اليوم يقتلون ويسرقون بعضهم بعضاً، هم يفعلون ذلك بأيديهم، لا يفعله بهم غيرهم. من دون فضل منهم، نال العراقيون حريتهم. وهم حتى الآن لا يقدرون هذه الحرية حق قدرها. رغم ذلك، حتى لو كانوا يركضون ويهرولون الآن كوحوش البراري، شاهرين أسلحتهم وأطماعهم وفسادهم الذي لا يشبع ضد بعضهم البعض، لا يزال أفضل لهم من العيش في حظيرة صدام كالخراف الوديعة الناعمة بالآمن ولقمة العيش السائغة.

إذا كان العراقيون اليوم، بعد تحررهم من عبوديتهم لدولة صدام، قادرون على أن يقتلوا ويسرقوا بعضهم بعضاً، لا شك أنهم أيضاً، بفضل هذه الحرية ذاتها، قادرون في المستقبل على بناء وطن حر لمواطنين أحرار. ربما هذا هو مكسب العراق الوحيد من الإطاحة بدولة صدام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المحصلة بالعراق وليبيا دولة فاشلة منزوعة السيادة 1
محمد بن زكري ( 2024 / 2 / 3 - 10:09 )
إنه النفاق والتقية . فلكي يجرؤ الكاتب - أي كاتب - على أن ينتقد حرب إسرائيل على غزة ويفضح ما يرتكبه جيش الدولة اليهودية من جرائم الإبادة الجماعية ؛ لابد له من أن يدفع الضريبة ، فيندد بعملية 7 أكتوبر . ولكي ينتقد حكام العراق (أو حكام ليبيا) الجدد الفاسدين ويفضح ما آل إليه حال البلد من فوضى و تفكك و فساد وتخلف ، فلابد له من ان يدفع الضريبة فيتهجم ، بالحق أو بالباطل ، على صدام أو القذافي . ولقد دفع كاتب المقال الضريبة المطلوبة .
حسنا .. نعم ، صدام كان دكتاتورا سفاحا مهووسا بالسلطة ، لكنه لم يهبط على العراق من السماء ، فهو نتاج بيئته . ونظامه لم يكن سوى محصلة التاريخ السياسي والاجتماعي لبلده وشعبه . وحتى حربه على إيران والكويت ، كانت سلوكا بدويا ؛ فكلما شعر شيخ قبيلة بدوية ما بقوتها ، بادر بقبيلته إلى غزو القبائل المجاورة واستباحتها .
لكن بالرغم من كل مثالب صدام ، فإنه لم يخن وطنه ، ولم يكن فاسد الذمه ، فلم يجدوا حسابا باسمه في بنوك السرية المصرفية ، وقصور صدام الرئاسية مسجلة باسم الدولة العراقية .
وللمرة الثانية يشهد أياد علاوي (في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط السعودية) بأن ’’السلطات ..
يتبع


2 - المحصلة بالعراق وليبيا دولة فاشلة منزوعة السيادة 2
محمد بن زكري ( 2024 / 2 / 3 - 10:11 )
يشهد أياد علاوي (في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط السعودية) بأن ’’السلطات التي قامت بعد سقوط النظام أجرت تحقيقات ولم تعثر على عقار واحد باسم صدام حسين ، بما في ذلك الطائرة التي كان يستخدمها في أسفاره- ، وأنه ’’لم يقترب من المال الحرام ، لأنه - حسب علاوي - كان محافظا‘‘ .
في عهد صدام ، كان العراق قوة إقليمية مهابة الجانب ، وكانت مستوى معيشة الشعب فوق المتوسط عموما ، وكان تصنيف الجامعات العراقية متقدما ، وكان بالعراق آلاف العلماء في مختلف المجالات العلمية التطبيقية .
وبالمقابل ، فكل حكام العراق الجدد لصوص ، نهبوا ما يربو عن ترليون دولار ، هرّبوها إلى خارج البلد ، ولقد جوعوا الشعب العراقي وأذلوه (وأتحرج من الحديث عن أحوال اللاجئات العراقيات في دمشق بعد الغزو) . ولقد شهد فيهم بول بريمر بالحق ، فقال عنهم : ’’ إن القادة العراقيين ، دجالون ، ومنافقون ، وكذابون ، ولصوص ، وقد اتينا بهم من الشوارع ‘‘ .
بقي القول ، فيما يخص القومية العربية وحزب البعث العربي (الاشتراكي) ، ان التحاليل الجينية لعينة من جثة صدام حسين ، أظهرت أنه من أصول هندية . (قارن ملامح وجهه بالهنود) .
انتهى الكلام . نقطة على السطر


3 - السيئ و الاسوء
طلال بغدادي ( 2024 / 2 / 3 - 13:35 )

مقارنة السيئ بالاسوء لاظهار السيئ حسن؟؟

صدام والقذافي ومن جاء بعدهما!!


4 - انهاء الدولة في العراق بدأ منذ انقلاب ناصر
د. لبيب سلطان ( 2024 / 2 / 4 - 09:18 )
الشكر للاخ الشهاوي على تغطيته لوضع العراق المنهار اليوم كدولة وعلى المآسي التي عاشها ازمن صدام و تسميتها ايضا اللادولة او تسميتها دولة صدام التكريتي فهو واخوانه واعمامه يديرونها
والواقع ان جذور انهاء الدولة العراقية بدأت بعد الانقلاب العسكري الناجح عام 58 ورغم ان الزعيم عبد الكريم قاسم كان رجلا وطنيا ولكنه لم يدرك ان ماقام به هو اغتيال للدولة تعادل اغتيال وقتل انسان عن عمد وفق اعتقاده الشخصي انه سيئ ..وهو قد خدع كما بقية العرب بانقلاب عبد الناصر ان النظم الملكية فاسدة ورجعية ..بينما هي التي انشأت دولا دستورية ومؤسسات دول حديثة قوضتها ولم تنشئ غير ديكتاتوريات يقودها عسكر ومن يومها كانت تنهار المعاول واحدة بعد الاخرى وانهت ما في الدار من مؤسسات ومواطنة وحلت محلها قائد فذ وحزب قائد ..اي حولت مفهوم الدولة الى سلطة قائد واتباعه حزب او اتحاد اشتراكي او عشيرة او مجرد مجموعة عسكر..هذا النموذج ساد كل الدول العربية التي حدثت فيها الانقلابات باسم محاربة الاستعمار وتحرير فلسطين كما جاء على لسان ناصر ومنه انتقل كالعدوى الى العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال وهي اليوم دولا مدمرة

اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة