الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شفافية أم تغطية ؟

شريف حتاتة

2024 / 2 / 2
العولمة وتطورات العالم المعاصر


-----------------

ربما تكون أروع الاكتشافات التى وصل إليها الإنسان ، هي اللغة ، وهبته القدرة على استخدام الرموز الدالة على الأشياء ، على تخزين التجربة ، على الربط بين الظواهر على التجريد ، ومعرفة القوانين المتطورة للحياة، على الخلق فى العلم والفن توجد بينهما روابط وثيقة رغم الفصل التعسفي القائم بينهما في نظم التعليم..
لكن اللغة، والكلمات كثيرا ما تستخدم لإخفاء الحقيقة، للتضليل. وفي عصر تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال تصبح اللغة (والصورة بالطبع) أداة خطيرة في صراع المصالح، وفى السيطرة على العقول، ولعبة معقدة تحتاج الشعوب إلى فك رموزها حتى تدرك أين يوجد الصواب ، وأين يجب أن يقف الناس حتى يصنعوا المجتمع الذي يحقق مصالحهم.
في مصر لدينا خبرة طويلة فى لعبة الكلمات فالاستعمار ، والحكام أخفوا مصالحهم دائما خلف الكلام . احتلنا الإنجليز باسم الحماية وعندما ألغيت الامتيازات قالوا هذا هو الاستقلال ثم أرادوا استبدال الاحتلال ، بالأحلاف فقالوا الأمن المتبادل ضد المخاطر الحمراء.
وأنا مغرم بلعبة الكلمات، بالنفاذ إلى معناها في الحياة ، بمعرفة ما يختفي في ثناياها . يوما بعد يوم تضاف كلمات جديدة دون أن نعي ما بستترر وراءها . فصيغة مثل التنمية المتواصلة تعنى في الواقع مواصلة الاستعمار فى ثوبه الجديد أو التكيف الهيكلي يعنى إعادة ترتيب اقتصاد الفقراء ليستنزفه الأغنياء، أو «التكامل» يعنى أن تنتج بلادنا ما تحتاج إليه الشركات المتعددة الجنسية من قطع لتصنيع آلاتها، أو من إجراءات لتسهيل تجارتها ، أو نهاية التاريخ التي تعنى نهاية تاريخنا لصالح تاريخ الحكام.
ومنذ شهور كنت جالسا في صالة أحد مراكز البحث أستمع إلي ندوة عنوانها «فن إدارة الصراع العربي الإسرائيلي» وهو يعنى عند بعض الناس فن قبول الواقع ، أو اللحاق بمكاسب جديدة قبل أن يفوتهم قطارها. عند نهاية الندوة أعلن عن تكوين هيئة أسمها الجمعية المصرية للشفافية . أعجبت بهذا الاسم، فكلمة «الشفافية» أثارت فى نفسى أشجانا كلمة جميلة تذكرني ببراءة الأطفال بالفراشات الطائرة حول الأزهار ، بنور الصباح يدخل من النافذة ، بعيون الأم ، والبحيرات والجداول تهبط من قمم الجبال ، بكل شئ جميل لم يعكره الفساد.
أخذت هذه الكلمة تتردد في أذنى مع مرور الأيام . كثرت في تصريحات المسئولين الأمريكان في تقارير البنك الدولى المطبوعة على ورق مصقول من أجل الفقراء ، في النشرات الدولية تصدرها البنوك للعملاء شارحة فيها النظم الجديدة في حساب الأرباح ، في تصريحات الدوائر الغربية عن شئون بلاد العالم الثالث وفساد الحكم.
قلت لنفسي ، إنها لظاهرة مشجعة أن يتحدث كل هؤلاء عن محاربة الفساد . صحيح أن هذه البنوك متورطة في غسيل أموال تجارة الرقيق الأبيض ، والمخدرات، أو تهريب وإيداع ما سرقه حکام مثل مارکوس ونوريجا ، وموبوتو ، وفاروق ، وشاه إيران ، وأغاخان ، وحكام الخليج ، وسلطان برونای وبول بوت، وجنرالات تايلاند، من دم الشعوب ، وصحيح أن الحكومة الأمريكية والبنك الدولى متعاونان في إبقاء الحكام المفسدين متربعين علي السلطة في بلادهم ، وصحيح أن البنوك الأجنبية فرضت استقطاعات جديدة على عملاتها باسم مزيد من الشفافية في إجراءات الاستثمار ، وصحيح أن الذين أوصوا بتكوين الجمعية المصرية للشفافية تباعدت بيني وبينهم المسافات لكن يجب ألا أكون شكاكا أمام هذه المبادرة في محاربة الفساد. ألا أقف ضد هذه الشفافية الجميلة وأولئك الذين ينتصرون لها في حماس ، ألا أكون سيئ الظن هكذا ، خصوصا أن أصدقائي أنصار السوق الحرة ، والليبرالية والمجتمع المدنى والشفافية يتهمونني بأنني أعاني من مرض يساري عضال ، يجعلني أرى فى كل ما يحدث مؤامرة تدير في الخفاء رغم أننى أنفى هذه التهمة، وأرد عليهم قائلا إنه النظام له آلياته وعلاقاته تعمل لحساب الأقوياء ، على حساب مصالح الأغلبية الساحقة للناس.
قررت أن أتخلص من هذا المرض النفسى الذى يقولون إنه أصابني نتيجة العزلة عن تطورات العصر، أن أؤمن بشفافية من يتحدثون عن الشفافية . وينشئون الجمعيات للدفاع عنها.
سارت بي الأيام وانشغلت عن مسألة الشفافية هذه. ثم أصبحت أذهب إلى مكتبة الجامعة الأمريكية في بعض الأيام ، فوقعت عيني على بعض المطبوعات كان المطبوع الأول نشرة غير دورية تصدرها إحدى الجمعيات وجدت فيها موضوعا اسمه ، مصر والشفافية، والنمور الأسيوية .. وتحت عنوان "راندان مصریان" قرأت:
"من أهم الشخصيات العالمية في دراسة رأس المال الاجتماعي والأخلاقي، وعلاقته بالفساد كل من د. إبراهيم شحاته و د. إسماعيل سراج الدين ، وكلاهما يشغل منصب نائب رئيس البنك الدولى للشئون القانونية ، والتنمية المتواصلة على التوالي ، وقد رعى د. إبراهيم شحاته ، وعدداً من خبراء البنك الدولى التأثير المدمر للفساد على التنمية الشاملة فخصص جزءاً من الوقت والجهد الدراسة هذه الظاهرة وكيفية كبح جماح الفساد ، ووصل د. شحاته ورفاقه إلى أن أسلوب الحكم الأمثل الذي بناهض الفساد ، ويحتويه في أضيق الحدود هو ذلك الذي يعتمد على:-
1- الشفافية.
2- المحاسبة.
3- حكم القانون بصرامة ، وحزم.
لم يذكر د. إبراهيم شحاته في دراسته أن الشركات المتعددة الجنسية التي أصبحنا وأصبح العالم يخضع لها هى منبع الفساد ، وهي التي تملك وسائله بحكم أموالها الطائلة لأنها هى القوة وراء الحكومات تظل فوق المحاسبة : فوق القانون إلا في الحدود التي تخدم أغراضها ؟ وأن هذه الشركات تتكتم كل ما يتعلق بها حتى تستطيع أن تفعل ما تريد ، تخفى أرباحها الحقيقية وعملياتها واكتشافاتها العلمية وأبحاثها.
ثم شاءت الصدفة أن تقودني إلى مقال منشور في مجلة شهرية اسمها ليموند دبلوماتيك» تعتبر من أكثر المجلات اهتماما بنشر الدراسات الجادة في مختلف الشئون.
فقى العدد الصادر في مايو سنة ۱۹۹۷ دراسة منشورة تحت عنوان «الحكومة العالمية تتناول منظمة التجارة العالمية التي ستحل محل الجات . وتتعرض هذه الدراسة للقواعد الاقتصادية التي ستخضع لها بلاد العالم في ظل المنظمة الجديدة التي تسيطر عليها حفنة من البلاد الرأسمالية الكبرى . فتقول إن الهيئات المهيمنة على منظمة التجارة العالمية معنية بتحقيق أكبر قدر مما تسميه بالشفافية » فى المعلومات الاقتصادية الدولية ، وهذا يتطلب في رأيها ما يلى:
1- ألا ترسى الحكومات المحلية العطاءات الخاصة بالأشغال ، والخدمات القومية العامة على الشركات الوطنية وحدها. وإنما يجب أن تكون مفتوحة لجميع الشركات الدولية ، أى للشركات المتعددة الجنسية في أمريكا ، وانجلترا ، وفرنسا، وألمانيا ، واليابان، وسويسرا ، وسائر البلاد الأخرى ، وقد وقع على هذا الاتفاق حتى الآن أربع وثمانون دولة على اعتبار أن هذا الإجراء سيحول دون حدوث فساد في العطاءات عن طريق ترسيتها فقط على الشركات الوطنية.
2- من حق رؤوس الأموال الأجنبية أن تنشئ مصنعا ، أو تبتاع أرضا زراعية ، أو تزرع أى محصول من المحاصيل التي تريدها ، أو تستثمر في أي مشروع، أو تشترى عقارات ، أو تستخرج معادن أو ثروات من باطن الأرض، أو تنشئ مناجم فى أى قطر من الأقطار وفى حرية كاملة دون أية قيود من جانب الحكومات أو المؤسسات ، أو الإدارات الوطنية . كما أن لها أن تصدر الأرباح الناتجة عن هذه الأنشطة إلى مراكزها في الخارج دون أية موانع أو عراقيل ، أو قيود ، أ إتاوات ، أو ضرائب.
وهذا يعنى انتهاء كل أنواع الرقابة، أو التوجيه ، أو السيطرة من جانب السلطات الوطنية على أراضيها ، أو مشاريعها ، أو ممتلكاتها ، أو استثماراتها . هكذا يقترب اليوم الذي ستفقد فيه الدولة الوطنية أية قدرة علي حماية صناعتها أو زراعتها، أو السيطرة على نظم التعليم أو الصحة ، أو الإنتاج الدوائي على أرضها.
وقد حول هذا المشروع للمناقشة إلى منظمة التنمية والتعاون الدولي التي تمثل %٨٥ من الاستثمارات فى العالم، ومن المتوقع أن توافق على هذه القواعد قريبا رغم المحاولات التي بذلتها بعض الدول لتخفيف وطأتها عليها أثناء الاجتماع الذي عقد في سنغافورة في بداية هذه السنة.
هذه إذن هى الشفافية التي يتحدثون عنها في الدوائر المالية الكبرى والتي ينشئون لها الجمعيات والهيئات كجزء من المجتمع المدنى، أن هدفها سوق عالمية واحدة ترتع فيها الشركات المتعددة الجنسية ، تخترق الحدود والموانع والأسرار، وتغتصب ما يحلو لها اغتصابه بشكل مفضوح الشفافية هى أن تعرف هى كل شئ وتطلع على كل سر ، وتنتهك كل مجال لتسيطر عليه ، وأن تبقى هى مهيمنة على كل المعلومات لنعيش نحن شعوب العالم الجنوبى فى الفقر والمرض، والجهل محاطين بالغيوم الكثيفة.
فكم من الجرائم ترتكب باسم الكلمات الجميلة في عصر رأسمالية ما بعد الحداثة.
------------------------------------
من كتاب : " العولمة والاسلام السياسى " 2009
-------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟


.. ماكرون يثير الجدل بالحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا | #غرفة




.. في انتظار الرد على مقترح وقف إطلاق النار.. جهود لتعزيز فرص ا


.. هنية: وفد حماس يتوجه إلى مصر قريبا لاستكمال المباحثات




.. البيت الأبيض يقترح قانونا يجرم وصف إسرائيل بالدولة العنصرية