الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امرأة الكشك

مزهر جبر الساعدي

2024 / 2 / 4
الادب والفن


(امرأة الكشك)
فجأة تعطلت سيارتي التي كنت اقودها بأقصى ما فيها من سرعة، بعد دقائق من انطلاقي بها، عند بداية عبوري عدة الكيلومترات من الطريق، كما هي عادتي في كل مرة، أو مرة من كل اسبوع؛ اجتاز هذه المساحة المشحونة بالتوجس والرهبة والخوف، ذهبا وايابا، التي فرضتها عليَ ظروف هذا المكان الذي يبعد عن العاصمة بعشرات الكيلومترات، الى الجنوب، وعلى مقربة بعدة كيلومترات من مدينة الاسكندرية. شعرت بخيبة شديدة في هذه الساعة من النهار، حين تعطلت سيارتي، على طريق، من النادر ان تمر فيه سيارة في هذا الوقت، وفي هذه الأيام التي انتشر فيها القتل على الهوية، التي لم تكن موجودة ابدا قبل ثلاثة اعوام من الآن. نزلت منها وأنا لا اعرف ما هو عطلها؛ لأني لا اعرف الا قيادتها. درت حولها، وأنا أنظر الى الطريق، عل احدا من معارفي، أو ان احدا، من سكان الحي السكني، المجاور للمصنع الذي اعمل فيه، والذي يبعد عن هذا المكان المقفر، بكيلومترات التي تتعادى نصف أصابع اليد الواحدة؛ يصادف ان يمر من هنا. ظللت واقفا بجانب سيارتي على جانب الطريق الذي كان موحشا يبعث على الاكتئاب والحزن والخوف والترقب. السماء فوقي بدت لي في تلك اللحظات، رمادية يظللها الغبار الذي تصاعد منذ حين من الأن. كان هناك في كبدها؛ طائر ظهر كأنه متعبا أو، اتعبه التحليق في سماء يلبدها الغبار، حتى بدت كقطعة واسعة جدا، سعة لا حدود لها، أو كلوحة كئيبة يجللها الحزن. ظل الطائر يدور في سماء رمادية وصفراء في آن واحد. قلت مع نفسي ربما هو لم يجد شجرة او نخلة يحط عليها. بالفعل لم يكن في المكان، لا شجر ولا نخيل، كان بديلا عنها؛ مخلفات لحرائق سابقة، مخلفات من رماد اسود، كأني به اي بهذا الرماد؛ يحكي عن مجازر حدثت هنا، والتي كنت أنا، على معرفة بها حين حدثت، بحكم مروري الاسبوعي بها. انما الحقيقة كان هناك غابة من النخيل والشجر، لكنها كانت جرداء تماما الا من اعجاز نخل سود، نابتة في اعماق الارض كأعمدة الانارة الممتدة على طول هذا الطريق. ظهيرة القيظ تنز حرارة، كما النار تلتهب في فضاءات الأنحاء حولي. ثمة فصيل من الحمير، يدور حول بيدر للأزبال. الطائر في السماء، تخيلته ينوح، وهو يطلق في الفضاء اصواتا لاتشبه صوته كطائر، انما كان يشبه الى حد بعيد، نوح الناحات في النوائب. مر موكب من السيارات الفارهة، خلفها عجلات الهمر، يعتليها رجال مدججين بالسلاح. امتلأت الانحاء كلها في هذه الظهيرة بنهيق الحمير، وزعيق مزامير السيارات، وصوت طائر السماء؛ في الطريق المقفرة، الخالية من الحياة، الا من صوت السكون الكوني الذي يحمل بصمت مهيب؛ اصوات وحوش في غابة مدلهمة، كأني بها تبحث عن فريسة، ظلت عن الطريق، كما ظهرت لي، أو كما اظهرتها لي مخيلتي الممتلئة برعب هذا المكان. حين ازداد واشتد نهيق الحمير؛ توقف موكب السيارات، اشرأبت الاعناق من نوافذ هذه السيارات، اطلت الرؤوس، والايادي منها. ايادي رجال الهمرات، كانت تمسك البنادق برهبة، وهي تصوب افواهها الى نهيق الحمير، وصوت بكاء الطائر المحلق في السماء بين دوامة الغبار، الذي شكل سحب حجبت الرؤية تماما. تلفتت العيون من على الهمرات، تفتش بين الغيوم عن من يتربص بها، أو يباغتها، الذي، ربما مختفي، بين غيوم الغبار. استمر صوت الخوف والترقب لفترة دقيقة او اكثر او اقل، ومن ثم انطلقت السيارات والهمرات على الطريق الى غايتها. نهقت الحمير نهيقا اشد واقوى وراء الموكب، ومن ثم توقفت عن النهيق عندما اختفى الموكب في دوامة الغبار؛ توقف تماما عن النهيق. بدأت الحمير تحرك رؤوسها في جميع الجهات، التي كان سرب من الذباب، يفتر طائرا في حركة دائرية عليها. صديقي الذي هاجر كي ينجو من رعب هذا المكان، وتركني وحيدا، ألملم جراحاتي في وحدتي القاتلة، قال لي ذات يوم بعيد، بعيد جدا؛ العصافير والطيور، عندما تتألم تبكي، وعندما لا تجد لها مكانا لها في الوجود تبكي. موكب السيارات اختفى في غيوم الغبار المدوم على الطريق، وعلى جانبيه، وفي جميع الانحاء هذه، التي شهدت في السنوات الأخيرة، عواصف غبارية، ما انفكت تهب بين شهر وأخر، على عكس ما كانت عليه في السنين السابقة. نظرت حولي والى الطريق، عل هناك سيارة قادمة، في هذه الساعة من الظهيرة التي تلتهب فيه الحرارة كما النار؛ إنما لم يكن فيه؛ الا صراخ الرياح في صمت المكان الممتلىء بالتوجس والترقب. ثم أخذت انصت الى هدوء وسكينة المكان، الذي لم يزل يصفر فيه الخوف والجوع، وشيء من الرهبة والوجع. الحمير غرقت في بحر من الصمت الحزين، أو هكذا خيل لي منظرها، وهو تمد اعناقها نحو السماء، ومن ثم تنزلها، وتنظر وراء الموكب الذي لم يعد له وجود. ثم نهقت نهيقا متواصلا وقويا. تحركت مبتعدا عدة خطوات من كتف الطريق. كنت اشعر بالعطش حتى ان حنجرتي احسست بها متيبسة. مشيت عدة امتار حذاء الطريق. فقد كنت اعرف ان هنا، في مكان ما من هذا الطريق؛ كشك صغير، تديرها امرأة لا يظهر منها سوى عنينيها فقد كنت كلما رأيتها اثناء مروري، ملفعه بالسواد كأنها جني يظهر فجأة من اعماق غابة. تقدمت عدة خطوات بين الغبار الذي بدأ يخف، باتجاه المكان الذي كنت اعرف ان فيه، كشك المرأة. دقائق وكنت امام، تلك المرأة التي لم يتجاوز عمرها الاربعين سنة بعد، أو هكذا بدت لي. كانت مكشوفة الوجه هذه المرة على عكس المرات السابقة، حتى اني تصورتها؛ غير المرأة التي كنت أراها من بعيد، من داخل سيارتي، كلما مررت من هنا على هذا الطريق. – ألهي قلت بصمت مع نفسي، ثم حاورتني:- هل هي زوجة صديقي، لا، فقد قال صديقي عندما، في أخر يوم له في المصنع وهو يودعني:- سوف أخذ معي زوجتي، كما تعلم فنحن لم نرزق بذرية على الرغم من مرور عدة سنوات على زواجنا.:- لكنها تشبهها تماما. قلت لي:- لأسألها. سألتها-هل انت شيماء؟ - نعم أنا هي. وانا انظر إليها، او احدق في عينيها، رأيت فيها؛ خيوط خجلة من الدموع ترفض ان تخرج، او لا تريد ان تنسكب على خدييها، انما هذه الدموع؛ واصلت تجولها في بياض عينيها. لكن من الجانب الثاني كانت معالم وجهها، رقيقة، رقة مذهلة، وصوت شجي فارط النعومة، في تناقض صارخ بين دموع تترقق في العينين، وتألق في معالم وجه دافيء. صديقي الذي افتقدته، منذ سنوات قليلة، من الآن، رحل ولم يعد، أو انه للحقيقة؛ رحل على الرغم من إرادته، الى حيث لا يريد.. حضر امامي في هذه اللحظة، بصوته الذي كان في حينها يقطر ألما، كلماته كان فيها؛ الكثير من الحكمة والوجع، والكثير من العمق. في احد المرات كنا نجلس في احد الحدائق الصغيرة، المنتشرة على حافات الدروب، التي تربط مصانع المنشأة مع بعضها البعض، في هذه المرة كان على غير عادته، التي تعودت عليها؛ لاذ بالصمت. أما أنا فقد احترمت هذا الصمت، قلت مع نفسي ربما صديقي؛ هناك مشكلة ما تقض مضجعه، او انه يتفكر فيها، او في ايجاد حل لها. مجموعتنا التي حضرت في هذا اليوم، وهو اليوم المقرر لها في الحضور، الحضور فقط، غادروا بما فيهم مسؤول المجموعة، ومدير المصنع. مدير المصنع، المصنع، الذي هو واحد من عدة مصانع؛ تعمل على انتاج مكونات ساحبات عنتر، بعد اشهر من توقف الانتاج في هذه المصانع ومن بينها المصنع الذي نعمل فيه، أنا وصديقي؛ قسم حضور العاملين، جميع العاملين من مهندسين وفنيين وعمال على عدد ايام العمل الاسبوعي. كنت اشعر بأن المدير حزينا وكئيبا، حين يحضر الى المصنع الذي لم يعد يعمل بفعل ان انتاج المصنع، قد توقف من سنين قليلة. فقد تراكم في مخازن المنشأة، عدد كبير من ساحبات عنتر، التي لم يشترِها احد، أو لم تباع كما هي العادة التي درجت عليها، هيأة التسويق والبيع الى المزارعين. مرة قبل ايام، عندما كنت في مكتب المدير؛ قلت له، وهي محاولة مني في التخفيف عنه، فقد كنت ارى انه يغرق اكثر واكثر مع كل يوم يمضي في الحزن:- لا عليك يوما ما، سوف يعود العمل في المصنع والمنشأة. لكنه، لم يجب باي كلمة. فقط نظر بعيون ممتلئة بالألم أو هكذا كنت في حينها، رأيت هذه العيون التي طالما رايتها، أو رأيت منها، يشع شعاع من الآمل والفرح والسعادة. ظل صديقي على صمته. حاولت، او اني انشغلت في محاولة مني لتزجية الوقت وكي لا اضطر، بسبب الفراغ الذي يخلقه الصمت؛ في التعدي على حرمة صمته؛ اتأمل الورش، والمخازن ومباني الادارة والمطعم ودار الاستراحة. قطط وكلاب تخرج على شكل مجاميع من الورش. الشيء الذي لفت انتباهي؛ ان الكلاب لا تهاجم القطط، كان هناك بينهم سلام. مجموعة النخيل، التي تشكل حزام كما السوار حول الحديقة؛ كانت صفراء وبعضها مائلة كأنها تريد ان تعانق الارض. قلت مع نفسي؛ انها بداية لرحلتها نحو الموت. اشتدت الرياح بغتة. تطايرت مزق الاوراق في الممرات، وفي الساحات بين المباني والورش، والمخازن، ومعرض البيع، وبناية هيأة التسويق والبيع. اخذتني صفنة وأنا انظر الى مزق الاوراق التي تلاعب بها الهواء؛ فقد بدت لي مباني المصنع كما الاثار التي تركت مهملة، ومن غير ان يهتم بها اي احد، أو انها منسية حتى من الذين يروق لهم، أو أن من اهتماماتهم زيارة الاثار. اشعرني هذا الوضع بالاسى والحزن. صديقي استمر سارحا في عالمه، أو همومه التي طالما حدثني عنها في اوقات كثيرة. فقد أفتقدَ القدرة على التعايش مع هذا الوضع الذي هو فيه. كان يرى ان لا مخرج هنا؛ الا بالهروب الى مكان اخر حتى لو كان في ركن بعيد من الارض. كان في كل مرة يتحدث فيها، عن وضعه، يشعرني بحياته الموحشة مع زوجته، على الرغم من حديثه المفعم بالحب والفرح والاشراق في حياته معها، إنما أنا كنت أقرأ في معالمه ونبرة صوته؛ خيط من الحزن الشفيف في حياته. عاشا وحيدان، وهما راضيان، أو أن الصحيح، كان صديقي راضيا تماما كما كان يقول لي، مع ان السبب كان في زوجته وليس فيه، كما كان يقول لي في كل مرة، يستحضر فيها؛ زوجته المهمومة والمتألمة لوضعها هذا، كانت تقول له:- تزوج. لكنه كان يرفض بإصرار، قائلا لها في كل مرة، تطرح عليه موضوع الزواج :- ان هذا لن يحدث ابدا. حاولت ان أهدىء من روعه، ازرع في نفسه الآمل، والنظر نحو المستقبل، لكنه لم يقتنع ابدا في كلماتي. :– انت واهم، واهم جدا. كان يقول. ثم يتدفق في الشرح. مما يدفعني الى الصمت بفعل ما يقدم لي من اسباب هي مقنعه تماما، أو ان الحقيقة هو أنا الاخر؛ في داخلي ذات القناعة، لكني كي اخفف عنه، اتحجج بالآمل في التغيير. :– سوف اهاجر. باغتني وأنا غارق في تداعياتي. قلت له:- ماذا؟ أجابني :- ألم تسمعني؟ قلت:- نعم سمعتك. لكن ماذا عن زوجتك؟ - سوف تلتحق بي لاحقا. نظرت الى شيماء، بنظرات هي اكثر واقوى من اي حزن، نظرات هي خارج اي وصف، يتبادر الى ذهن اي شخص ينظرني في هذا الوضع الذي صرت إليه، في هذه الثواني. كانت قد أطرقت برأسها الى الارض، او الى بيادر القمامة التي تبعد اشبار عنها وعني. عندها تيقنت بأنها قد عرفتني على الرغم من السنين الماضية، التي لم ارها فيها. الحقيقة هو اني لم ارها في حياتي على الرغم من العلاقة التي تربطني بزوجها؛ سوى مرة واحدة، وكانت وقتها لدقائق. كنت قد حضرت الى المركز الصحي الخاص بالمصنع؛ عندما اخبروني بأن فؤاد، اصيب بجرح في يده اثناء العمل. تركت مكتب التخطيط والتصميم، حيث كنت اعمل فيه، كمهندس تصميم. ركضت مسرعا الى المركز الصحي، لأن فؤاد لم يكن عامل فقط، بل كان صديقي الذي تربطني به، صداقة قوية. وقفت فوق السرير الذي وضعوه عليه، بعد ان القيت التحية عليه، وعلى زوجته التي كانت تقف على رأسه، من الجانب الثاني من السرير، (فقد كان المجمع السكني قريب جدا من المركز الصحي، لا يبعد سوى امتار قليلة) وعلى الكادر الطبي الذي بادر احدهم قائلا. :– الجرح رغم انه عميق، انما هو بسيط، وسيلتئم سريعا، من حسن حظه؛ ان الآلة عندما سقطت على ذراعه، لم تمس الاعصاب والعضلة. تآملتها مليا، وهي تقدم عبوة الماء البلاستيكية الى فؤاد، بعد ان فتحتها له. اخذ منها جرعة صغيرة. قلت لها:- لم اكن اعلم انك هنا، في هذا الكشك. كنت محجبة جدا. جسد من سواد. اجابتني:- لا عليك. أما أنا فقد كنت قد عرفتك من لون ونوع سيارتك، حين تمر مسرعا جدا، تخطف سيارتك امامي كما الطلقة على الطريق. سألتني:- هل تدري؟ أجبتها:- ماذا تقصدين؟ من دون ان انتظر الايضاح منها؛ سألتها:- هل من اخبار عن فؤاد؟ لم تجب لاذت بالصمت لثواني، ومن ثم تفجر شلال من الدمع سال على خديها حتى انسكب في فمها، الذي انفتح من بين كرات من الدمع الذي كونها الأخير في اسنانها البيض، لتقول بصوت حزين وخافت، وفيه خنة ألم عميق.: ابتلعه البحر..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية