الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في قصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي -تقبّلْ دُعانَا وأخرِجًنَا رَبِّيَ مِنْ كلِّ ضيقْ!- (تأثير الواقع النفسي للشاعر في اتساق اللفظ والمعنى مع واقعه)

محمد المحسن
كاتب

2024 / 2 / 4
الادب والفن


"إذا أردتَ ألا تخشى الوت،فإنّ عليك ألاّ xتكفّ عن التفكير فيه" (snénèque)


يشكل الرثاء حلقة مهمة من الهيمنة النوعية للتفرد بأحاسيس ووجدان المتلقي الذي بالتأكيد قد عاش مأساة فقدان عزيز ما،الأمر الذي سيعيد في ذكرياته جراحات قديمة وعميقة لم تتمكن سنوات الماضي من نسيانها مهما طال الزمن.
وقد تمكنت قصائد الرثاء في الشعر العربي من تخليد شخصيات مختلفة جراء تلك المراثي التي بقيت في ذهن الإنسان العربي،ومن تلك القصائد ما قالته الخنساء في أخويها صخر ومعاوية.
ولما يمتلكه الرثاء من صدق العاطفة وتأجج المشاعر،فقد حلقت قصائد الرثاء بإحساس ومشاعر الشعراء،وما تحمله تلك المراثي من رقة المعاني، وعذوبة الألفاظ،وصدق العاطفة، فتحولت دموع الشعراء إلى مراثيَ حزينةٍ حروفُها الأحزانُ،وسِفرها قلبٌ مُضنى،وقافيتها اللوعة والأسى،وبحرُها من فيضانات العبرات.
ومع كل موت يتضاعف الألم في قلبي..لكن الألم الآن يقترب مني أكثر،مثل كائن يرتجف في داخلي،الحزن يصير آلة تحفر فيّ مع كل موت.فها هو الموت يبحث عن أحدهم فيجد والد شاعرنا الكبير د-طاهر مشي المحب للحياة بكل ورع وتقوى فيأخذه،فيما هو لا يزال يفكّر ويحلم..
هو الغياب القدَري الذي يحفر عميقا في نفوسنا..أحيانًا يجعلنا الغياب المفاجئ أن ننتبه إلى قسوة الحياة،إنها الخسارة بشكل موجع يحز شغاف القلب..الأب العطوف هو كما الوطن الذي لا يمكن استبداله..يورثنا الوَجَع،الإحساس بالوحدة،وذلك الشعور الذي يحدث مع الذين لا نصدّق خسارتهم.ثمة شعور بالمنفى في المكان الذي يتركه رحيل الأب،كأنه صار يخص الموت أيضًا، وكأننا نصير في غربة داخل غربة.الموت مفهوم،هناك فكرة يومية اسمها الموت،هكذا يقولون، ولكن الأباء في-اللاشعور-لا يرحلون،يصبحون مثل حمامة بيضاء تمرّ في سمائنا كل يوم تلقي علينا السلام وتمضي من يوم لآخر،سلام نحتاجه كل يوم جميعًا في حياة تمضي في التفتت والخراب،ونحن سنبقى مقيمين في الزمن الذي كنا فيه سويًا مع أبينا..قبل أن نعود سويًا إليه..
وإذن؟
هو الموت إذا،وذلك الفراغ الذي يحدث مع الذين نخسرهم.الموت الذي حاول الشعراء التعبير عنه كلٌّ من وجهة ألمه.ثمة شعر يُقال عن الموت على المستوى الفردي،وآخر على المستوى الجمعي الذي يرتبط بفكرة الحياة وفكرة الموت أو برثاء الأوطان والمدن.علمًا أن الموت على المستوى الفردي لم يكن فقط رثاءً لأم أو أب أو ابن أو لشخص عزيز بل يمثّل الموت هاجسًا شخصيًا للشعراء العرب منذ العصر الجاهلي حتى يومنا هذا.
هنا قصيدة تدمي القلوب للشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي..هي لوحة رثائية مبكية نحتها هذا الشاعر الموجوع بحبر الروح ودم القصيدة تجلى فيها حزن صعب المراس يلتحف بأضلاعه :
تقبّلْ دُعانَا وأخرِجًنَا رَبِّيَ مِنْ كلِّ ضيقْ!
مُصابي عظيمٌ وجُرحي عميقْ
غزتْنِي المنايا وضاقَ الطّريقْ
وشقّتْ عِظامي شَظايا الرّحيلِ
وبانَ العدوُّ وبانَ الصّديقْ
أبِي ألأرضُ هذِهِ،منها خُلِقنا
وفيها ُدفِنتَ وغابَ الرّحيقْ
حياة ُالزّوالِ الّتي كنتَ فيها
وَقد غاب عَنْهَا الضِّيا والبَريقْ
وبات السّوادُ بِكلِّ الدّروبِ
فلا عيْشَ يحلو بِهي نستَفيقْ
إلهي أتاكَ الخليلُ الضّعيفُ
فنَجِّهِ مِن كلِّ سوءٍ محيقْ
وسكِّنْهُ جناتِ خُلدٍ وَعَدْنٍ
صبورٌ،شكورٌ وَنِعْمَ الرفيق!
تقبّلْ دُعانَا وسَدِّدْ خُطانَا
وأخرِجًنَا رَبِّيَ مِنْ كلِّ ضيقْ!
(طاهر مشّي)
ترى..ماذا سأقول..والمصاب جلل..؟
ولكن..الرجال الأنقياء-يا شاعرنا الفذ-يولَدون مصادفة في الزمن الخطأ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة ضوء،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..
مذ رحيل والدك يا "الطاهر"وأنت تحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إنك مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما انبجست دمعة من ثقوب المرايا..
ماذا تعني كلمات أو مفردات-يا شاعرنا-: منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟..لا شيء سوى الفراغ الذي كان والدك-رحمه الله-يملأه فيما مضى.يتسع به ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الجميل في زمن مفروش بالرحيل..
دَعه ينام بهدوء على التخوم الأبدية،وروحه تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادر المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
إذا رأيت والدك في المنام نائما في الصمت الأبدي،فلا تعكرّ سكينته بالكلمات.
اسكب دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتم الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..
إن في هذه الوقفة عند قصيدة د-طاهر مشي دليلاً على الزخم في المشاعر والحيوية لأن روح الشعر تنساب منها،وفيها تاكيدًا على أن الطاقة الشعرية الخلاقة هي التي أهلت هذا الشاعر للدخول في محراب الشعر الرفيع.
عاطفة الشاعر سارت في هذه القصيدة هبوطاً وارتفاعاً،وهذه عاطفة شاعر منكوب في أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه (الوالد)ومن الطبيعي أن تنخفض وتيرة عاطفته وترتفع تبعاً لزفرات قلبه الحزين وفؤاده المفجوع،وكأننا نصغي إلى موسيقى الروح وأنينها لا إلى موسيقى القصيدة.
وأختم :" تقبّلْ دُعانَا وأخرِجًنَا رَبِّيَ مِنْ كلِّ ضيقْ!" رؤية شعرية عن كينونة الوجود صوفية الصور روحية التأمل بمنولوج روحي جسد فيها الشاعر ذروة الجانب النفسي بمضامين انسانية شفيفة التعبير عميقة الدلالات توالت برموز الحواس وإيحاء بكيان الأحاسيس والمشاعر،أثرى النص بتبادل الحاس والمحسوس،بلغة ايقاعية وأصوات حميمية تحاكي عاطفة القارئ فتستدرجه للبحث والتنقيب عما خلف المفردات ودواخل العلامات وباطن الإشارات، ببنية السهل الممتنع،وأسلوب سلس بنسجة فنية وتشكيل جمالي مترابط الأنساق متناغم الأصوات،أسلوب انسيابي بهمس وجداني نبيل من تداعيات الشعور بترددات حزينة تتوافد من مأتم مفجع وأليم،فأجاد الشاعر بإيصال الفكرة بحسب قول فلوبير (اذا كنت تعرف ما تريد ان تقوله بالضبط فسوف تقوله بصورة جديدة،وذلك نبض الإبداع الذي يستمد ديمومته من الانفعال الصادق والقدرة على صياغته بأسلوب ملائم).
وأختم بهذا التساؤل المرير: هل يمكن للحزن أن يستريح في قلب شاعر موجوع..؟!
صبرا جميلا يا شاعرنا الكبير.ورحم الله والدك رحمة واسعة وأسكنه فسيج جنانه.وإنا لله وإنا إليه راجعون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟