الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر13

عبدالرحيم قروي

2024 / 2 / 4
الارشيف الماركسي


أصول الفلسفة الماركسية

الجزء الأول
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
الحلقة الثالثةعشر
– في الطبيعة
أمامنا ليتر من الماء. فلنقسمه إلى قسمين متساويين، نجد أن هذه القسمة لم تغير قط من طبيعة الجسم لأن نصف ليتر من الماء ماء أيضا. ونستطيع أن نستمر في التجزئة حتى تصل إلى حجم رأس الإبرة من الماء ومع ذلك يظل هذا الحجم ماء ولا يحدث عن ذلك أي تحول كيفي. ويظل الحال كذلك حتى نصل إلى جزيء الماء فهو يتكون من ذرتين من الهدروجين وذرة من الأكسجين. فهل يمكننا مواصلة التجزئة وتحليل الجزيء؟ أجل. بواسطة طريقة خاصة... ولكن لن يكون لدينا حينئذ ماء بل هيدروجين وأوكسجين. اذ أن الهيدروجين والأوكسيجين اللذين نحصل عليهما بتجزئة جزيء الماء لن يكون لهما صفات الماء. ويعلم كل منا أن الأوكسيجين يشعل اللهيب وأن الماء يطفيء الحرائق.
هذا المثال شاهد على القانون الثالث للجدلية وهو أن التحول الكمي (تجزئة حجم الماء تجزئة تدريجية) يؤدي بالضرورة إلى تحول كيفي (ظهور جسمين مختلفين كيفيا عن الماء).
والطبيعة مفعمة بمثل هذه التحولات.
ولا يمكن أن تحدث التحولات الكيفية في الطبيعة، بصورة واضحة في كل حالة معينة، الا بإضافة كمية من المادة أو الحركة أو ازالتها (أو من الطاقة كما يقولون) .
ويستشهد انجلز نفسه على ذلك بعدد من الأمثلة. فالأوكسيجين مثلا إذ اتحدت ثلاث ذرات منه بدلا من ذرتين لتكوين جزيء لحصلنا على الأوزون، وهو جسم يختلف عن الأوكسيجين العادي برائحته وتأثيره. وكذلك القول في النسب المختلفة التي يمتزج بها الأوكسيجين مع الأزوت والكبريت فتكون كل نسبة جسماً يختلف عن الأجسام الأخرى! إذ الفرق كبير بين هذين الجسمين N20 وN205 فالأول غاز بينما الثاني جسم صلب متبلور. ومع ذلك يرجع كل الاختلاف بينهما في أن الجسم الثاني يحتوي على خمسة أضعاف ما يحتويه الأول من الأوكسيجين. ويقوم بينهما ثلاثة أجسام هي:NO2, N2O3, NO, تختلف عن الجسمين الأوليين كما تختلف فيما بينها .
ولقد أتاحت هذه الصلة الضرورية بين الكمية والكيفية لمندلييف أن يقوم بتصنيف العناصر .
فلقد صنف العناصر حسب أوزانها الذرية المتصاعدة . ويظهر هذا التصنيف الكمي للعناصر الذي يبدأ بأخفها (وهو الهيدروجين) وينتهي باثقلها (وهو الأورانيوم)، ما بينها من اختلاف كيفي في الصفات. ولقد وجد في هذا التصنيف أماكن فارغة مما جعل مندلييف يستنتج أن هناك عناصر جديدة كيفيا يجب اكتشافها في الطبيعة، فوصف مسبقا صفات أحد هذه العناصر الكيمائية، ثم أكتشف هذا العنصر فيما بعد. وهكذا استطعنا بفضل تصنيف مندلييف المنهجي التنبؤ بوجود أكثر من عشرة عناصر كيمائية لم يكن توجد من قبل في الطبيعة تم الحصول عليها صناعيا.
ولقد أتاحت لنا الكيمياء، التي تدرس لب الذرة، أن نزداد فهما لأهمية الصلة الضرورية بين الكمية والكيفية، كما أنها وسعت من ميدان معارفنا. وهكذا حقق روذرفورد بتدمير ذرات الأزوت بواسطة ذرات الهليون (وهي جزيئات ذرية تنشأ نتيجة لتحلل ذرة الراديوم) تحويل ذرات الأزوت إلى ذرات الأوكسيجين. وهذا مثال رائع للتحول الكيفي. بيد أن دراسة هذا التحول قد دللت على أنه مشروط بتحول كمي، ذلك لأنه لب الأزوت ـ الذي يحتوي على سبعة بروتونات ـ يفقد بتأثير الهيليون بروتونا واحدا بينما يأخذ من جهة ثانية بروتونين من لب الهيليون فينتج عن ذلك لب ذو ثمانية بروتونات أي لب الأوكسيجين.
ويمكن لعلوم الحياة أن تمدنا بطائفة من الأمثلة. وذلك لأن نمو الطبيعة الحية لا يشبه مجرد ترداد نفس العمليات. لأن مثل هذه النظرية تحول دون فهم التطور. وتلك هي نظرية علم الولادة (genetique) القديم (ولا سيما عند ويزمان) الذي يقول بأن مستقبل الكائن الحي كان في مادة وراثية (les genes) لا تتغير ولا تتأثر بالبيئة. فيصبح مستحيلا عندئذ فهم ظهور الشيء الجديد. غير أن نمو الطبيعة الحية، في الواقع، يفسره تراكم التحولات الكمية التي تنقلب إلى تحولات كيفية. ولهذا كتب انجلز يقول:
"أنه لمن الجنون تفسير ولادة خلية واحدة من المادة الجامدة رأسا بدلا من المضغة (albumine) الحية، أو الاعتقاد بأنه يمكننا، بواسطة قليل من الماء الآسن، حمل الطبيعة على أن تضع في خلال أربع وعشرين ساعة ما قضت ملايين السنين في اعداده .
نفهم الآن كيف أن هذا النمو الكمي والكيفي للطبيعة الحية يستطيع أن يجعلنا نفهم ما نعنيه، في الجدلية، بالانتقال من البسيط إلى المعقد، مما هو سفلي إلى ما هو علوي. ذلك لأن الأنواع التي تنشأ عن التطور تتعقد شيئا فشيئا ولهذا تنوع تكوين الكائنات الحية أكثر فأكثر.
وكذلك تكون من البيضة عدد كبير من الأعضاء المتمايزة كيفيا لكل منهما وظيفته الخاصة. وهكذا ليس نمو الكائن الحي مجرد تكاثر الخلايا، بل هو عملية تمر بالعديد من التحولات الكيفية.
فإذا أخذنا بدراسة الجهاز العصبي وعلم النفس الفينا من جديد قانون العلاقة بين الكمية والكيفية في صور متعددة. فالاحساس (sensation) مثلا (كرؤية النور، والإحساس بالحرارة، والسمع واللمس الخ). وهو ظاهرة خاصة بالنظام العصبي، لا يظهر الا إذا بلغت الإثارة ـ أي تأثير المثير على الجهاز العصبي ـ مستوى كميا معينا يسمى بالعتبة. وهكذا لا يمكن أن تتحول الأثارة الضوئية إلى إحساس الا إذا استمرت مدة من الزمن بقوة دنيا. وعتبة الإحساس هو الوقت الذي يحدث فيه الانتقال من كمية المثير إلى كيفية الرد عليها: أما قبل هذه العتبة فلا يحدث الإحساس لأن المثير ضعيف جدا.
وكذلك يتكون "المفهوم" (Concept) بواسطة تكرار الاستعمال له اعتمادا على الإحساسات.
فاستمرار الاستعمال الاجتماعي يؤدي في استعمال الناس إلى تكرار الأشياء التي يدركونها بحواسهم والتي تؤثر فيهم، فيحدث بالنتيجة في ذهن الإنسان قفزة في عملية المعرفة ويخرج المفهوم إلى الوجود .
والإحساس هو انعكاس جزئي للواقع، فهو لا يكشف لنا الا عن الجوانب الخارجية. غير أن الناس باستعمالهم الاجتماعي المتكرر وبعملهم، يتعمقون هذا الواقع فيدركون مغزى العمليات الداخلية التي جهلوها آنفا، كما يدركون القوانين التي تفسر الواقع وتتخطى الظاهر. وهذا هو "المفهوم" وهو شيء جديد كيفيا بالنسبة للإحساسات بالرغم من أن هذه الإحساسات ضرورية لتكوينه. وهكذا لن يقدّر "لمفهوم" الحرارة أن يتكون إذا لم يحس الناس في ظروف عديدة متنوعة بالحرارة. غير أنه وجب استمرار الاستعمال الاجتماعي آلاف السنين قبل الانتقال من الاحساسات إلى المفهوم الحالي للحرارة كصورة من صور الطاقة، فأمكن حينئذ تمثيل الصفات الرئيسية للحرارة: فقد تعلم الناس "إشعال النار" واستخدام آثارها الحرارية في مئات الصور لإرضاء حاجاتهم، ثم تعلموا بعد ذلك قياس كمية الحرارة، وتحويل الحرارة إلى عمل والعمل إلى حرارة. الخ...
وكذلك الانتقال من مسح الأراضي، الذي نشأ عن حاجات اجتماعية (قياس الأراضي)، إلى الهندسة (وهي علم الأشكال التجريدية) هو تحول الإحساسات إلى مفاهيم.
وهذا هو الحال فيما يتعلق بمبادىء المنطق التي يعتبرها الميتافيزيقيون أفكار أزلية. مثال ذلك المبدأ الشائع القائل بأن "الكل أكبر من الجزء" وأن الجزء أصغر من الكل" هو، كصورة من صور المنطق، ثمرة جديدة كيفيا لاستعمال وجد في المجتمعات القديمة في أشكال مختلفة كأن تلاحظ، مثلا، أنه يجب كمية من الغذاء لإطعام رجل، أقل مما يجب لاطعام عشرين رجلا.
ولقد كتب لينين يقول في "كراسات فلسفية":
"حمل نشاط الإنسان العملي وعيه على تكرار مختلف الصور المنطقية حتى أصبح لهذه الصور قيمة المباديء ".
كما يقول:
"يستقر النشاط العملي للانسان، بعد تكراره مليارات المرات، في وعي الإنسان في صور منطقية".
تلك هي الميزة الثالثة للجدلية التي تدلنا على تفسير عقلي للاختراع، إذ أن الميتافيزيفي يعتبر ظهور الأفكار الجديدة، كما يعتبر الاختراع، وحيا إلهيا أو مجرد صدفة. أو ليس الاختراع (في الوسائل الصناعية، وفي العلوم والفنون وغيرها) تحولا كيفيا يحدث في انعكاس الواقع العقلي بعد إعداد طويل بواسطة تراكم التحولات الطفيفة في نشاط الإنسان العملي؟ ولهذا لا تتم الاكتشافات الكبرى الا بعد تحقق الشروط الموضوعية لإمكانية تمامها.
وتدلنا الأمثلة الأخيرة التي اخترناها (كالانتقال من الإحساس إلى المفهوم، والاختراع الذي يؤدي إليه الاستعمال العملي الطويل) على جانب مهم من عملية الانتقال من التحول الكمي إلى التحول الكيفي . ذلك لأن الانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى الحالة الكيفية الجديدة هو في الغالب تقدم. فهو إذن انتقال من السفلي إلى العلوي. وهذا هو حال الإنسان حين ينتقل من الأحساس (وهو صورة سفلية للمعرفة) إلى المفهوم (وهو صورة عليا للمعرفة). وكذلك الشأن في انتقال الجامد إلى الحي، لأن مثل هذا الانتقال انما هو تقدم خطير. ولهذا كانت الحركة التي تؤدي إلى مثل هذه التحولات الكيفية، كما يقول ستالين: "حركة تقدمية صاعدة5 6".
وسنرى أن ذلك هو الحال أيضا في تطور المجتمعات.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل


.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري




.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج




.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام