الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضاة يرفضون بيت الطاعة

صالح سليمان عبدالعظيم

2006 / 11 / 27
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


قُضاة يرفضون بيت الطاعة!!
تصدرت الحياة السياسية المصرية مرة أخرى تلك المواجهات التي هدأت لفترة قصيرة بين النظام السياسي المصري وبين رجال القضاء. فبعد الانتخابات المصرية الأخيرة التي أشرف عليها القضاة، اندلعت العديد من المواجهات الحادة بين القضاة والحكومة المصرية، بعد أن كشف العديد منهم عن حالات التزوير التي حدثت في اللجان الانتخابية التي أشرفوا عليها. وهو الأمر الذي لم يعجب الحكومة المصرية، وبشكلٍ خاص بعد أن استخدم القضاة الصحافة والإعلام في خطوة غير مسبوقة من جانب ذوي الياقات البيضاء والملابس الأنيقة والعزلة المجتمعية.

يأتي ذلك في وقت يواجه فيه النظام السياسي المصري العديد من المواجهات المرتبطة بما يُسمي الآن "بانتفاضة النخب المهنية". فالذين يواجهون النظام المصري الآن لا ينتمون إلى العمال والفلاحين بقدر ما ينتمون إلى الفئات المهنية المثقفة، والتي تنتمي غالباً إلى الطبقة الوسطى، مثل المحامين والأطباء والمهندسين والصحفيين وأساتذة الجامعات وأخيراً القضاة. وهى فئات بدأت تستشعر ضرورة التغيير السياسي، والعمل على تحديث البنية السياسية بما يسمح بتنشيط المجتمع المصري على كافة الصعد والمجالات.

جاءت الجمعية العمومية التي عقدها قضاة مصر بمقر نادي القضاة يوم الجمعة 17 نوفمبر 2006 غير مسبوقة من حيث طبيعة النبرة الحادة التي واجه بها القضاة النظام السياسي في مصر، ومن حيث رفضهم التسول والدخول في تلك المعادلة التاريخية المعروفة، ذهب المعز في يد وسيفه في اليد الأخرى. فالنظام المصري بدأ هذا العام ضغوطه الاقتصادية على القضاة، وحرمانهم من المزايا المادية التي اعتاد النظام توفيرها لهم منذ حكم السادات. فالامتيازات المختلفة التي كان يوفرها لهم عبر بنوك الدولة، وأنظمة التقسيط التي توفر لهم الحصول على السيارات والمساكن بطرق سهلة ومريحة وطويلة الأجل، أصبحت الآن، وفي غمضة عين، في مهب الريح. وهى مسألة على درجة كبيرة من الخطورة تكشف عن الطريقة التي تتعامل بها النظم السياسية مع مواطنيها حيث سياسية المنح والمنع تظل هى سيدة الموقف.

وفي الواقع بدأ القضاة أنفسهم، خصوصاً بعد فوز القائمة المناوئة للحكومة في انتخابات الجمعية العمومية، في البحث عن مصادر أخرى لتمويل ناديهم ومتطلباتهم الاقتصادية. وتتمثل هذه المصادر في الاعتماد على التبرعات الشهرية من القضاة أنفسهم، وعلى الاستعانة بمساهمات المنظمات التي تدعم المجتمع المدني في العالم، بما في ذلك اللجوء إلى صندوق الأمم المتحدة لدعم منظمات المجتمع المدني، الذي أنشأه الأمين العام للمنظمة الدولية كوفي أنان. ويؤشر ذلك عن امكانية توسيع نطاق المواجهات بين القضاة والنظام السياسي من المستوى المحلي إلى المستوى الدولي، وهو ما يرهق كاهل النظام بأعباء جديدة هو في غنى عنها في الوقت الراهن.

ويمكن القول بأن تلك المواجهات لن تنتهي في القريب العاجل، خصوصاً بعد أن وسع القضاة حجم ارتباطهم بالشارع المصري والتحولات السياسية الحادثة فيه. حيث ربطوا مطالبهم بدائرة أوسع تشمل تعظيم الحقوق السياسية العامة، وتوسيع سلطة القضاء، بحيث ينفصل عن ممارسات وقيود السلطة التنفيذية وتوغلها في كافة أرجاء المجتمع. ورغم أن معظم مطالب القضاة مازالت ترتبط بالعمل على استقلالية القضاء وتدعيم نفوذه مجتمعياً، إلا أنهم وعبر جمعيتهم العمومية الأخيرة قد خرجوا على هذه المطالب الفئوية الضيقة ليرتبطوا بالمتطلبات المجتمعية العامة وعلى رأسها ضرورة العمل على توسيع دائرة الحريات العامة والديمقراطية لكافة القوى الاجتماعية المصرية، وهى خطوة تعبر عن سلوك وتوجه جديدين للقضاة المصريين.

تثير المواجهات الحادثة الآن بين النظام السياسي المصري وبين القضاة العديد من المسائل على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة في الوقت نفسه. فلقد تمتع القضاة لفترات طويلة بمزايا اقتصادية كبيرة بدت للكثير من العاملين في المهن الأخرى كبيرة جداً، إن لم تكن مبالغ فيها. فالكثيرون من العاملين في المهن الأخرى، مثل أساتذة الجامعات على سبيل المثال، حينما يتحدثون عن تحسين مستوياتهم الاقتصادية يقارنون أنفسهم مباشرة بوضعية القضاة الممتازة، وما يحصلون عليه من مزايا تفوق بدرجة كبيرة ما يحصلون عليه.

فالسلك القضائي كان إلى فترة قريبة جداً هو الإبن المدلل للسلطة في مصر. وهو أمر لاغبار عليه إذا لم تشبه شائبة؛ فالقضاة في النهاية يجب أن يعيشوا في مستوى اقتصادي يتناسب وطبيعة عملهم، وبما يجنبهم بيع ضمائرهم وانخراطهم في أية ممارسات أخرى غير نزيهة. وإذا كان من الممكن قبول الفساد في أية مؤسسات مهنية أخرى، فإن الأمر لا يمكن تصوره مع سلك القضاء والقائمين عليه. لكن المسألة الخطيرة هنا تبرز حينما يحصل فصيل اجتماعي ما على امتيازات من الدولة، وهو يعلم تمام العلم أنها نظير سكوته أو صمته أو تحالفه غير المعلن مع النظام السياسي في الدولة.

وربما يكمن هنا مأزق القضاء المصري الحالي، فعبر فترات طويلة من التدجين السياسي، ارتكن القضاة لكلمات النظام المعسولة التي تؤكد على استقلالية القضاة واحترامهم، كما تؤكد على عدم المساس بهيئاتهم التي تمثلهم. ولم يقف النظام فقط عند مستوى الخطاب السياسي، لكنه كان كريماً إلى حد بعيد بخصوص تلك الامتيازات المادية التي ما فتأ يمنحها للعاملين في مؤسسة القضاء بين الفينة والأخرى. ومن خلال تضافر هذه الدغدغة الخطابية وتلك الإكراميات المادية أصبح رجال القضاء هم أهم نخبة مهنية في المجتمع المصري يتم تهميشها بشكلٍ كبير، على مستوى الممارسة والفعل والإسهام السياسي.

وللإنصاف، لابد من القول هنا أنه رغم كل عمليات التدجين هذه، كان لبعض القضاة الشرفاء أحكام كثيرة على المستوى السياسي والدستوري والإداري في قضايا كثيرة كان الخصم فيها هو النظام السياسي نفسه. لقد مثلت هذه الأحكام منارات مضيئة يجب الإشادة بها ليس على المستوى المصري فقط لكن على المستوى العربي بإجمال. لكننا هنا لا نتحدث عن حكم هنا وقضية هناك، بقدر ما نتحدث عن فصيل هام تمت عملية تدجينه لفترات طويلة من الزمن، شارفت على النصف قرن. ولا نقصد بالتدجين هنا عملية الخضوع للنظام السياسي والانضواء تحت لواءه، رغم حدوث هذا المستوى من التدجين بدرجة أو بأخرى، لكننا نقصد ذلك التحول الذي أصاب رجال القضاء وقطاعات أخرى مهنية هامة مثل أساتذة الجامعات، وأحالهم إلى مجرد موظفين وتكنوقراط، عاملين مطيعين لدى الدولة. بحيث تفقد المهنة برمتها وهجها السياسي، وقيمتها المجتمعية المؤثرة، ويتحول العاملون بها إلى مجرد موظفين يؤدون تلك الأدوار الوظيفية الضيقة التقليدية، رغم أهميتها،، نظير ما يحصلون عليه من أجر حكومي واكراميات أخرى.

هذا التحول هو ما أصاب الهيئة القضائية بدرجة كبيرة، وهو تحول لا يتحمل مسئوليته القضاة فقط، بقدر ما يتحمل مسئوليته أيضاً النظم السياسية المتعاقبة على مصر، واهتراءات الواقع السياسي المصري المعاصر. ولعل ذلك هو ما يلقي بعبء كبير على القضاة الشرفاء الذين يحاولون ألا يكونوا مجرد أداة في أيدي السلطة السياسية، وأن ينفصلوا بقضائهم وبأحكامهم وبتأثيراتهم عن قبضة السلطة. فالمطلوب أولاً أن ينجح القضاة في تحقيق تلك الاستقلالية، وثانياً أن ينجحوا في ردم تلك الهوة العميقة التي فصلتهم تاريخياً عن مجريات التحولات السياسية المصرية، وثالثاً أن يتجاوزوا أدوارهم الوظيفية الضيقة إلى أدوارهم المجتمعية العميقة والمؤثرة.

كما أن تلك المواجهات تثير مسألة أخرى على درجة كبيرة من الأهمية تتعلق بمسألة كرم النظام السياسي، والثمن المرتجى من وراء ذلك. فهل من حق النظام أن يمنح حينما يشاء ويمنع حينما يشاء؟ يجب هنا اعتماد مبدأ الفصل بين حقوق الأفراد المادية، التي تكفل لهم الحياة الكريمة وبين حرية ابداء الآراء السياسية حتى ولو كانت معارضة للنظام السياسي وتوجهاته. فالقضاة، على سبيل المثال، لهم أسر يعولونها واحتياجات يومية حياتية، لا يجب أن تتوقف لمجرد غضب النظام السياسي واستثارته. يجب أن يكون هذا التعامل مبدأً عاما في التعاملات بين النظم السياسية العربية المختلفة وبين المناوئين والنشطاء السياسيين. وبلغة المصريين، يجب ألا تتسبب النظم السياسية في قطع لقمة العيش لهؤلاء الأفراد النشطين سياسيا. وعلينا هنا أن نؤكد أن هذه الأموال هى ملك لأفراد الشعب وليست هبة من أحد، يوزعها على من يرضى عنه، ويمنعها عن من تصيبه لعناته.

إلى الآن يرفض القضاة الامتثال للنظام السياسي في مصر، وإلى الآن يزداد سيف المعز لمعاناً، وإلى أن يتفاوض الطرفان ويقبلان حلاً مشتركاً سوف تستمر المواجهات والتصعيد فيما بينهما. لكن الشيئ المؤكد هذه المرة، أن القضاة لن يقبلون بيت الطاعة الخاص بالنظام السياسي المصري، كما أنهم حتماً لن يقبلوا قواعد العلاقة السابقة!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التبوريدة: فن من الفروسية يعود إلى القرن السادس عشر


.. كريم بنزيمة يزور مسقط رأس والده في الجزائر لأول مرة




.. بعد إدانة ترامب.. هل تتأثر فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية ا


.. لابيد يحث نتنياهو على الاستجابة لمقترح بايدن بخصوص اتفاق غزة




.. الوسطاء يحثون إسرائيل وحماس على التوصل لاتفاق هدنة في غزة