الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعذبون في الأرض

خليل الشيخة
كاتب وقاص

(Kalil Chikha)

2024 / 2 / 5
الادب والفن


المهمشون في الأرض
ذكرني أحد الأصدقاء بكتاب كنت قد قرأته في المرحلة الثانوية لعميد اللغة العربية الدكتور طه حسين – المعذوبون في الأرض-. رغم انقضاء زمن مديد، إلا أني مازلت أذكر تلك المجموعة القصصية التي أمتلأت بالحزن والكآبة من خلال مجريات أحداثها. ويساورك شعور بعد القراءة أن هذا العالم عبارة عن بالونة صغيرة وأنت مسجون داخلها. لم ترق لي أحداث تلك القصص لكن تمتعت باللغة الراقية التي كتب بها طه حسين، وهو رجل معروف بدقة عباراته وانتقاء مفرداته ليس في هذه المجموعة فقط، بل في جميع مؤلفاته. ومن قرأ له كتاب – مع أبي علاء في سجنه – أو كتاب الأيام الذي هو عبارة عن سرد سيرة ذاتية أو حتى الفتنة الكبرى يعرف مدى اشتغاله على دقة المعاني وجمال التعبير. المجموعة أتت بسرد حكائي أكثر منها سرد قصصي حديث، لأن كما هو معرف بدأت الرواية والقصة الحديثة مع بروز كتاب كبار مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد عبد الحليم عبدالله ويوسف إدريس وهناك كثر لامجال لذكرهم في هذه العجالة.
اتبع طه حسين في كتاباته المنطق الديكارتي، خاصة في كتابه الفتنة الكبرى وكتاب – في الشعر الجاهلي. والكتاب الأخير هذا سبب له مشكلة كبيرة مع شيوخ الأزهر ومحاكمة طويلة عريضة، كونه قد تخطى الخطوط الحمر التي وضعها الأزهر، إضافة إلى أنه قد تزندق وكفر في كتابه هذا، كما ادعى عليه خصومه، مما أجبره على تعديلات واسعة وتغيير عنوانه ليصير – في الأدب الجاهلي- رغم أن المرحلة الملكية في مصر كانت أكثر انفتاحاً وأكثر ليبرالية للأفكار الغربية، فقد نشر إسماعيل أدهم كتابه الخطير - لماذا أنا ملحد – ولم يقتله أحد، بل ردوا عليه بكتاب آخر بعنوان – لماذا أنا مؤمن. تلك المرحلة الليبرالية فقدها المصريون بعد انقلاب أو ثورة الضباط الأحرار ضد الملك، حيث اصطبغت تلك المرحلة بالتأميم والإشتراكية.
أكثر ما أثر بي في حكايات – المعذبون في الأرض- هي قصة صالح شبه اليتيم الذي ينهشه القطار هو وأخوه سعيد. وكأن طه حسين يريد أن يقول أن الفقر والموت واحد. ألا يذكركم هذا بمقولة الخليفة علي بن أبي طالب الذي قال مرة – لو كان الفقر رجلاً لقتلته -. الفقر سبب كل آفة إجتماعية. ففي هذه البيئة تجد الجهل وحياة أشبه بالموت المؤخر. ثم هناك قصة أثرت بي هي خديجة التي تغرق في النهر بعد أن عاشت خادمة في بيوت إحدى الأسر الغنية ومحاولة تزويجها مع من لاتحب. من قرأ هذه المجموعة، لاشك أنه يتذكر أسلوب المنفلوطي الرائع، فهو أتى تقريباً بنفس المرحلة. والمنفلوطي هذا اهتم بتعابيره اللغوية ودقة الوصف في كتاباته أيضاً.
واحتفاءً بقصص طه حسين، قام التلفزيون المصري بتمثيل قصة خديجة في حلقة واحدة، كي يراها من لايقرأ أو من لايحب القراءة من الناس. اتبعت هذه المجموعة الشكل الشائع في القرن التاسع عشر من الرومنسية في الطرح بإظهار واقع عاطفي أو مأساوي، لايستطع الإنسان تغييره، فهو حصوة في نهر عارم بهذه الحياة وربما مثلت قصة صالح والقطار الذي نهشه أو دهسه بهذا القدر الذي لايفرق بين الخير والشر أي الخالي من المشاعر. وقد ترى شكلاً آخر في طرح كهذا عند اوسكار وايلد في قصته الرائعة الأمير السعيد والسنونو إذ يسرد قصة رمزية عن طريق عصفور وتمثال ذهبي له احاسيس ومشاعر حيال الفقراء والمحتاجين.
بشكل عام نحن الشرقيون نمجد الحزن والمأساة بسبب الظلم الطويل الذي طال كل نواحي حياتنا، فمن منكم لايتذكر فيلم ماسح الأحذية الهندي الذي يشعرك أن البشرية تعيش في سجن تعذيب. أعرف في تلك الفترة صديقاً، شاهد الفيلم هذا أكثر من عشر مرات وفي كل مرة يخرج من العرض وقد تحولت عيناه إلى خوختين وسالت مخطته لكثرة البكاء. شكل من أشكال المازوخية أو الماشوسية يتمثل في الضمير الشرقي. كما قلنا تمجيد الألم، وتمجيد الصبر. حتى أم كلثوم ثارت ضد ذلك وصرخت – انما للصبر حدود-.
اتى في بداية القرن العشرين قامات سامقة طبعا في مصر والوطن العربي اثروا الأدب، فهي المرحلة الليبرالية التي انتج فيها توفيع الحكيم – يوميات نائب في الأرياف – أو رواية قنديل أم هاشم – ليحيى حقي التي حملت رمزية أن الانسان العربي صاحب الخرافات والغربي صاحب العقل. ولاننسى كتابات عباس محمود العقاد الذي لم تتجاوز دراسته الأكاديمية الإبتدائية ومثله الأديب السوري حنا مينا وزكريا تامر.
بالرجوع إلى طه حسين، سرت شائعات أنه قد تنصر في آخر حياته، وانتقد الإسلام وغير ذلك من الشائعات التي لم تثبت صحتها. حتى أنك لو بحثت على غوغول ستجد قصيدة منسوبة له تحت عنوان – كنت أعبد الشيطان – وهذه القصيدة تروج لها قنوات التنصير المسيحية ومواقع الملاحدة. فهو دون هذه القصيدة تعرض للمحاكمة فكيف وهو قائل هذه القصيدة الخطرة. فلاشك أن أتباع الأزهر سيجدون مبررات كبيرة كي يغتالونه بواسطة أحد أتباعهم من العامة.
أتى العنوان في المجموعة عاماً وشاملاً إذ لايحدد المكان، ومن الواجب أن يكون – الظلم في المحروسة – أو – العذاب في أم الدنيا – لكن أبتعد عن أطر المكان كي لايتحسس منه النظام السياسي القائم في تلك الفترة. نشرت هذه القصص الإحدى عشرة في بداية 1946 في الصحافة المصرية ثم نشرها في كتاب في بيروت عام 1949 كما أذكر. وهذه المجموعة مازالت نشطة بين القراء العرب حتى يومنا هذا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالة رائعة
سامر درويش ( 2024 / 2 / 5 - 03:21 )

اعجبتني مقالتك
فيها الكثير من المعلومات

اخر الافلام

.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ


.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ




.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال