الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فراغ من زجاج

محمد المهدي السقال

2006 / 11 / 28
الادب والفن


إلى امرأة لا يفصلني عنها غير التراب :
مليكة مستظرف .

************

كعادتها , تنام المدينة بحضن صقيع البرد في الصيف كما في الشتاء ,

ليس أمَـرَّ على الطبيعة من التعاقب بلا معنى , لأنها تأبى الفراغ ,

نسأل أستاذ الفلسفة عن علة رفض ذلك الفراغ , فيسرح بنا في عوالم الفضاء الكوني حتى المطلق ,

هل كنا نفهمه ؟

كنا منشغلين بالسؤال عن الحال , لذلك تطلعنا إلى انفتاحه علينا على قدر عقولنا ,

لم أر أستاذي في حيرة من أمره , كما رأيته ذلك اليوم , وهو يحاول الانزياح باستفسار أصغرنا سنا عن مجراه ,

هل السياسة هي الأخرى تأبى الفراغ كما تأباه الطبيعة ؟

واغتنمنا فرصة تفكيره في الجواب , لنثير ما بين الفراغ والدين والحكم والوجود من اتصال أو انفصال ,

سمعنا فيما بعد , حكايات عن وفاة الأستاذ الغامضة ,

عُثِر عليه وحيدا في بيته , لم يعرف له خلف أو سلف ,

لكنها لم تكن أكثر غموضا من وفيات هذا المربع الإسمني الحصين تحت الأرض ,

لا أعلم إن كان الأستاذ قد دفن بترخيص طبي, يتحدث عن علة الموت وظروفها على الحقيقة ,

لكني أعرف أن رفيقي في الدرب المظلم , قد دفن بشهادة وفاة وقع عليها وصيُّ العدل بنفسه ,

دون أن نسأل عن الفراغ الذي أحاط بموته المفاجئ , تحركت الإدارة بقدها وقديدها , لتسرب إلينا معلومات جاهزة ممنهجة ,

ليست هذه أول وفاة , لكنها الأولى من حيث حجم الترويج لظروفها وفق السيناريو الرسمي ,

جمعونا في بهو لم نتعرف عليه , رغم عبورنا لمساربه مرتين في اليوم , منذ عشر سنوات ,

منا من كان يحدق في ألوان عبارات الترحيب بالسيد الوزير, تزدان بها جدارات لم نعرف لها لونا قط ,

بينما كان آخرون , يتهامسون بسخرية حول طلعة الزائر البهية ,

استوقنا الحراس في صفين ,

ولم يكونوا بحاجة لكبير عناء , فقد تدربنا لأكثر من أسبوع على الوقفة والتحية ومواقع التصفيق ,

قصر قامتي أفادني هذه المرة , وجدتني في الصف الأول , بينما كانت رؤوس الصف الثاني على أكتافنا ,

لم يهددنا الحراس ولم يتوعدونا شر العقاب كما عهدناهم في كل مخالفة ,

كانوا بشوشين زيادة , على مدى سبعة أيام , لم ينتهرنا الحراس ,

لعلها أصعب عملية ترويض قام بها مدير المعتقل , تسرب إلينا بعد الحفل , أنه كان يحيض ويبيض خوفا من المفاجأة في أية لحظة ,

ونجحنا في امتحان استقبال سيادة الوزير ,

تقدم وسط حاشيته إلى المنصة , يفسحون له الطريق بين أجساد خشبية , وعيونهم البارقة علينا تتابع اهتزاز صدورنا المضطربة

, كانوا منشغلين باللحظة , وكنا منشغلين بما بعد اللحظة , سوف يتركوننا للذئاب , وعلى أسبوع الإعداد الحرب لا السلام ,

كان الافتتاح بآيات بينات تماما كما كنا نسمع في البرلمان ,

حين وصل القارئ منَّا إلى : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا , بل أحياء عند ربهم يرزقون "

تحركت العيون في كل الاتجاهات , إلا عينا السيد المدير , فقد تسمَّرت في السقف ,

تابعناه , فتكشف لنا ذلك السقف الذي لم نره من قبل , مُضيئاً بالأبيض الناصع في

ذاكرة لا تعرفه إلا من سواد قاتم , بعد " صدق الله العظيم " ,

أخذت الأسارير في الانفراج , كلمة النعي والتأبين المقتضبة, عجلت برفع سيادته ليديه , قارئا بالهمس سورة الفاتحة ,

كنا مطالبين بالجهر على إيقاع واحد : آمين ,

لأول مرة , تعرفنا على الاسم الرباعي للفقيد , ينتمي في الأصل إلى قبيلة " بني حذيفة " الريفية بالشمال ,

لم يحضر جنازته أحد من أهله , إن كان له أهل , تماما كما جاء في الحكايات عن أستاذ الفلسفة ,

يعم الصمت من جديد , نحس بالمدينة نائمة بحضن صقيع البرد في الصيف كما في الشتاء , يجفونا النوم لحد الأرق , فتكبر في دواخلنا

وحشة السكون الذي لا يبدو أنه يسبق العاصفة .


* قد تكون في السجلات الرسمية لبعض إدارات السجون , حادثة بنفس تفاصيل الحكاية , غير أن الأمر لا يعدو أن يكون توارد خواطر , لأن ما يحدث هناك , أغرب من

الخيال .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس