الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبي

مهتدي مهدي
روائي

(Muhtady Mahdi)

2024 / 2 / 6
الادب والفن


بين الفينة والأخرى كنتُ أشاهد أبي في منزلنا, عادة ما تجيبني والدتي حينما كنت أسأل عنه في غيابه الطويل ذلك السؤال التفقدي التقليدي "أين ذهب أبي" كانت تقول بأنه قد سافر من أجل لقمة العيش, وأنه من الآن وصاعداً ستكون زياراته سريعة وخاطفة لنا. وهذا ما صرت أدركه. غاب أول الأمر أشهراً عديدة خلتها أعواماً حين كبرت. وعندما رجع كان يحضننا بشغف ليروي على مسامعنا قصصاً عن سفره العجيب, ومكابدات العمل في ذلك الزمن الصعب. كنا نلمسها في راحتي كفيه الخشنتين الحانيتين. كان حنانه المفرط, يعوض طبيعته المقلة في الكلام معنا. في تلك السويعات القلائل التي كنا نشاهده كلما انطوى دهر على غيابه. وبدا لنا يتجنب فتح نقاشات جديدة مع أمي, فثمة ذكرى ضبابيّة تربطني لا أدري إن كانت حدثت أو أنها مجرد حلم, ترجعني إلى خلافات كانت تحدث بينهما أجهل سببها, على أثرها صار وجوده يتضاءل في المنزل حتى صرنا نشتاقه كل هذا الاشتياق. في كل مرة كان هكذا وقبل أن يغادر يدخل المطبخ عندما تكون والدتي منهمكة بطهي الطعام, يحييها بشكل عابر ويضع على الميز حزمة نقود, قبل أن يخرج من باب المطبخ المفضي إلى الحديقة. ساعتها أكون عند الباب الداخلي للمطبخ قد شاهدت كل شيء النقود, التحية التي كانت أقرب إلى عتاب, صمت والدتي الأقرب إلى التبرم.
عرفت خلال واحدة من عوداته شيئاً مهما فقد كان هو ووالدتي مطلقين، هذا ما استطعت أن أقف عليه. كانا قد فسخا عرى العلاقة الزوجية قبل أن أفقه الحياة.
وقد فقهت ذلك وأنا في السادسة من عمري، حين سمعتهما لأول مرة يتحدثان في المطبخ، كنت على مسافة كافية لأشاهد وأسمع كل ما جرى بينهما.
كان يومها والدي قد ترك مبلغاً مالياً على ميز الطعام كعادته قبل أن يغادر، ويبدو أنها استوقفته لحديث مهم، لم يكن لرأب الصدع في علاقتهما إذ تجاوزا مرحلة العيش معاً, فالخلافات التي لم يستطيعا أن يتداركاها في بدايتها، أحدثت هذا الشرخ الكبير في علاقتهما الزوجية
كانت تتحدث معه باقتضاب, رؤوس أقلام لأسئلة مستفسرة تتطلب منه تعليلاً. تحدثت عن الطلاق والسفر والمطار، بطريقة مشفرة كلام بدا أنه دار بينهما عبر الهاتف, منذُ وقت قريب, وبات توكيده وجهاً لوجه ضرورة قصوى, لما له من علاقة جوهرية بالسفر. أستطيع أن أقول إن أبي كان مستعداً للعودة فيما لو طلبت منه والدتي ذلك, فكلامه, إيماءاته, صمته اللذيذ جميعها كانت ذات معنى لكنه لم يكن يساوم على كرامته. هذا ما تبدى لي الآن..
في اليوم التالي كان أبي يأخذ بأيدينا أنا وأخي الأصغر مني, قاصدين المطار لا ينفك من أن يتحدّث معي بنبرة خفيضة, ويجيب عن أسئلتي الكثيرة التي كانت تستبطن مكامن الأشياء. كنا بين مجموعة كبيرة من الناس الذين يرمون إلى الهجرة خارج الوطن, وكنتُ مع أخوي في غاية السعادة والانشراح لقد التأم شملنا من جديد. أمي تبرجت بشكل صارخ وارتدت ملابس المناسبات. وألبستنا ثياباً جديدة اشترتها لهذا الغرض, وكنت أنا قد لبست تنورة على غرار ماركة "بادل" قصيرة بلون زهري, مع قميص قطني بحمرة فاقعة, بحواف معمولة من أشرطة الدانتيلا, وكانت قد سرّحت والدتي شعري لتعقصه على طريقة "ذيل الحصان".
كانت الأجواء مشحونة بالغبطة مع الحقائب الكثيرة داخل المطار التي توحي بالسفر, وكنت سأطير من الفرح لولا تلك التساؤلات التي عكرت مزاجي. لماذا أبي لم يرتد مثلنا أفضل ما لديه, أو على الأقل الملابس التي كان يزورنا فيها. وفضل أن يصحبنا بجلبابه الصوفي ذي الزرين المفقودين أعلى الصدر, حتى إنه لم يصفف شعره كما ينبغي لكدر ما ألم به. فكانت تساورني نوبات من الخجل لمجرد أني كنت أسير إلى جانبه, لاحقاً أصبحتُ ألوم نفسي عليها.
وبالفعل صدق حدسي إزاء عدم سفر والدي معنا, فما إن دخلنا المطار حتى أخرجت والدتي من حقيبتها الصغيرة أربعة جوازات فقط, أخذها والدي مستفسراً من مكان لآخر, ثم طلب منا أن نتبعه, لبثنا لوهلة قرب غرفة قبل أن ندخل فيها, بدا أنها لأحد مسؤولي المطار المهمين. أخذ يطالع الجوازات, وطلب هوية والدي ثم قال: "أنت لماذا لست معهم؟" وضح له كيف هو وأمي مطلقان, وأخذا يتحدثان لبرهة قصيرة من الزمن, عرفت خلالها أن ثمة ممانعة قانونيّة من سفرنا, وأن والدي جاء ليؤكد السماح لنا بذلك.
"وهل أنت موافق؟"
"نعم. حضرت لأقول موافق."
ساعتها كان ذلك المسؤول ينظر إليه بشفقة, بعينين بدتا لي متعاطفتين استطاع أن يتفاعل مع الموقف كما لو كان هو أبي, ونحن أبناءه الذين لن يرانا بعد اليوم.
وقبل أن نغادر سأله أبي عما إذا كانت توجد سيارات أجرة تقله. فقال له:
"تاكسي المطار ستكون في خدمتك لأي مكان أو وجهة تقصدها" لقد أبدى تعاطفاً مفرطاً مع والدي لمست ذلك في إصغائه وصمته, والأهم , تلك الالتماعة في عينيه.
خلال ذلك كان أبي هادئاً يخفي حزنه العميق داخله، أما والدتي فبقيت على طبيعتها القاسية حتى آخر لحظة.
ما زال أبي يعمل معتمداً على عافيته، وقد مرت سنوات على ذلك, كبرت وصرت شابة يكبر معي ذنب ما حدث عاماً فآخر, إلّا أنه كان يتراسل معي ومع أخويَّ, وكأن شيئاً لم يحدث بيننا. ألجأ إليه في الأوقات التي أضعف فيها وتقل حيلتي, فأجد فيه صدراً يتسع لخيباتي وكبواتي. يمحضني النصح, ويقدم الحلول بإطناب. ورغم ذلك فأنا لست غبية حتى لا أدرك أنه كان يتألم. أخجل أن أبوح له بكل شيء لئلا أوغل في إيلامه. أخجل أن أقول له بأن والدتي قد تزوجت من مراهق عراقي, من أولئك الذين صاروا يتسكعون في السويد ويحلمون بالبطاقة الخضراء. ومما سيزيده ألماً أنه باع البيت من أجل حياة أفضل لنا, ليعيش في بيت ليس له سند قانوني.
أفكر دائماً بفكرة سوداء متطرفة, سأدخر مزيداً من الدموع لها, لأكون بهذا الحلم الذي حمله أبي. أفكر بالغد, حين أتزوج ويذهب أولادي ويهجرونني بهذه الطريقة، ترى ماذا ستكون ردة فعلي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية