الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراصنة الكاريبي وذئاب المتوسط

صبحي حديدي

2006 / 11 / 28
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


في مقابل، وعلى نقيض، مفهوم "محور الشرّ" الذي اجترحه الرئيس الأمريكي جورج بوش مطلع العام 2002، والمؤلف من كوريا الشمالية وإيران والعراق آنذاك، يقترح الكاتب الباكستاني ـ البريطاني طارق علي "محور الأمل"، الذي يراه قائماً أيضاً على ثلاث ركائز: كوبا وفنزويلا وبوليفيا، تحت زعامات فيديل كاسترو وهوغو شافيز وإيفو موراليس على التوالي. هذا هو موضوع كتابه الجديد (يصدر في لندن هذه الايام عن دار Versoفي 224 صفحة) الذي يحمل العنوان الاستفزازي التالي: "قراصنة الكاريبي: محور الأمل"، في محاكاة ذات مغزى للفيلم الأمريكي الرائج هذه الأيام، والمعروف باسم "قراصنة الكاريبي". ولكي يذهب علي خطوة أبعد في النقض، الساخر هذه المرّة، لعله هو الذي أوصى الناشر أن يكون تصميم الكتاب بمثابة تقليد معلَن لملصق الفيلم إياه: العنوان مطبوع على لفافة ورق قديم، ووجوه "القراصنة" الثلاثة (كاسترو، شافيز، موراليس) ظاهرة في الجزء الأعلى، تماماً كما هي حال جوني ديب وأورلاندو بلوم وكيرا نايتلي في ملصق الفيلم!
لماذا القراصنة، قد يتساءل المرء؟ لأنهم ببساطة أبطال أزمنة خلت الآن وحلّت محلها أزمنة بديلة أو مضادة لأخلاقيات البطولة تلك، ولأنّ القراصنة كانوا ثوّار تلك الأيام ضدّ المراكز الإمبراطورية الكبرى والقوى العظمى، ولأنهم كانوا يستردون من القويّ الغني بعض الثروات التي ينهبها دون وجه حقّ أو يحتكرها ويتنعمّ بها على حساب الفقراء. هم كذلك أسطورة تشحذ المخيّلة المعاصرة في كلّ ما يتصل بحسّ المغامرة في إطار عامّ، وفي حسّ المقاومة ضدّ الطغيان السياسي والجبروت العسكري بصفة خاصة. باختصار، القراصنة كما يصفهم علي: "بحّارة أبطال، وأسواط تلسع الطغاة وأهل الجشع، وحماة الحرّية الشجعان"...
لكنّ الكتاب، إلى طرافته هذه التي تخصّ الشكل، يناقش على نحو بالغ الجدّية مختلف الأسباب السياسية والإيديولوجية والثقافية التي وقفت وتقف وراء صعود هذا اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية، وآفاق انتشار أو انحسار الظاهرة وما إذا كانت تياراً جارفاً أم محض موجة عابرة، وعواقبها المحلية والقارّية والكونية في ما يخصّ سلسة اعتبارات جوهرية ذات طابع كوني: سياسات الولايات المتحدة، والغرب إجمالاً، تجاه الجنوب وما كان يُعرف باسم "العالم الثالث"؛ وصعود، أو بالأحرى إعادة إنتاج، الإمبراطوريات الإستعمارية، وإحياء أخلاقيات الانتداب والوصاية؛ والخلفيات الإقتصادية ـ السياسية لما يحلو للغرب أن يطلق عليه تسمية "صدام الحضارات"...
والحال أنّ هذا الكتاب الجديد يستأنف القضايا التي درج طارق علي على مناقشتها في العقد الأخير، وبينها كتابه "صدام الأصوليات: الحملات الصليبية، الجهاديون، الحداثة"، وكتابه الآخر "بوش في بابل: إعادة استعمار العراق"، وكذلك عمله الشهير "سنوات قتال الشوارع: سيرة ذاتية للستينيات" الذي يظلّ الاستعادة النوستالجية الأشمل لشخصية المؤلف بوصفه يسارياً تروتسكياً راديكالياً. وهذا المآل بالذات يبدو مدهشاً بعض الشيء، وإنْ كان يندرج دون عناء في ما تسمّيه الأدبيات اليسارية "خيانة الطبقة"، بالنظر إلى أنّ علي ترعرع وسط مظاهر الرفاه والبذخ التي كانت تطبع بيت الأسرة الفخم الضخم في لاهور، الأمر الذي لم يمنع الأب من أن يكون رئيس تحرير الصحيفة الإشتراكية Pakistan Times، أو الأمّ من أن تبكي بحرقة ساعة بلغها نبأ وفاة جوزيف ستالين.
كان طارق وقتها في العاشرة، يكبر مع الأفكار الإشتراكية التي تمتزج بين حين وآخر بمسحة ليبرالية غربية يحملها صديق الأسرة، ذو الفقار علي بوتو. بعد أربع سنوات سوف يقود مظاهرة طلابية سارت في لاهور احتجاجاً على الحكم بالإعدام على رجل أمريكي أسود اتُهم بسرقة دولار واحد، والأرجح أنّ هذه هي المظاهرة التي ستقوده إلى سلسلة متعاقبة من المظاهرات في الباكستان، ثمّ لاحقاً في لندن وأوكسفورد حيث ترأس اتحاد الطلاب، فيشكّل رويداً رويداً ما أسمته بريطانيا "ظاهرة طارق علي". تروتسكي مشاغب، تختلط في رطانته الماركسية طوباوية آسيوية ـ إسلامية، وعبث طليعي مميز في النبرة والصوت، أفقد حزب العمال البريطاني جناحاً يسارياً عريضاً ضمّ خيرة الكوادر الشبابية المثقفة.
الرجل تغيّر بالطبع هذه الأيام، وسبحان مَن لا يتغيّر! إنه رئيس تحرير New Left Review، الدورية اليسارية الأبرز والأكثر رصانة، ولكنّ "طارق الأحمر" صار طارق علي فقط، بالمحيّا الأرستقراطي اللطيف، بهدوء الناظر إلى التاريخ من علوّ عين النسر، اليساري الرزين المتحلل من عنفوان الصبا والكثير من أمراض اليسار الطفولي، المثقل بانكسارات الحاضر، ولكن المفعم بالأمل في أنّ الأيام حبلى بانتصارات الشعوب هنا وهناك، وحيثما هيمنت الإمبراطورية الأمريكية أو غزت بلداً أو وأدت ثورة أو اغتالت مناضلاً. ولعلّ التاريخ أنصف آماله، التي اتخذ بعضها صفة النبوءات في الواقع، هو الذي راهن في ذروة الحقبة الريغانية ـ الثاتشرية على أنّ اليسار قادم في معظم الديمقراطيات الغربية، وفي أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا أيضاً. وفي ما يخصّ يسار العالم العربي، وطبعته البرجوازية الصغيرة تحديداً، غنيّ عن القول إنّ أحلام الرجل انكسرت على نحو دراماتيكي، ولكن الخيبة لم تمنعه من أن يظلّ مدافعاً ثابتاً عن القضايا العربية والحقّ الفلسطيني خصوصاً.
وهكذا، مَن يلومه إذا عقد الأمل على قراصنة البحر الكاريبي الثلاثة، وليس على أيّ من قراصنة البحر الأبيض المتوسط؟ ثمّ مَن يدري... لعلّه لا يحتسبهم البتة في مقام القراصنة الشرفاء، بل في الخانة الوحيدة اللائقة بهم: ذئاب الاستبداد، وقطط النهب السمان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا