الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب خاسرة بين الجوع والتشرد

عبد الرزاق عوده الغالبي

2024 / 2 / 7
الادب والفن


مقطوعة سردية من إبتكار وتأليف:

الزمن عبوة ناسفة لا تدري متى ينفجر ، وحين تحين اللحظة ، تتبعثر أشلاؤه كرات من خجل، تحت قدميها النصف حافيتين من مظاهر الدنيا، بريئة من كل الأسباب والمسببات ومن كل ما يحدث في ذات العالم المنهار، كينونتها الآدمية عارية من كل سلع الدنيا يستثنى منها اسمال ترفضها بتكبروخيلاء حتى القمامة، كل شيء يحتل تركيزها يساوي كسرة خبزفقط، نصف الحذاء هذا تتباهى به القمامة، يعانق قدميها بشوق ولهفة ، ينفخ صدره بكبرياء ، أنه لا يزال لم يفقد هيبته ، ربما كان يوشح أرجل غادة في يوم سعيد، فهو يملك الحق بهذا الفخر والكبرياء، لو علم أنه يطأ ذهبًا .....
تبرق تحت الأسمال حزم من نور، تنطلق مبعثرة بعفوية من سجن البؤس الغني بما أعطى الله من بريق، تنتشر خيوطه الذهبية في ظلال المكان بفوضوية عارمة تعاند العيون وتبهر النواظر وتهز الشهوات والندم معًا، تنبعث من الثقوب والرقع التي ترصع تلك الأسمال وكأنها تغلف قالبًا جليديًا يرتجف من شدة البرد، يحاول أن يخفي إشراقته بارتباك مكشوف، محفوف بوقاحة التلصلص، والتواء الأعناق تحت عواصف العوز المغلف ببداعة الخالق، الله وحده سيد المبدعين ، تغط بجبروتها الإنثوي حتى أذنيها في بحر الاستحياء، حتى تكاد تغرق، تستجدي أنفاسها بصعوبة، إلا من بقية في طرف اللسان، ترمي بنفسها كرة من رهبة تتدحرج فوق قارعة الأمل المرتمي بين ذراعي الإفك، تخرج بنت شفة واحدة وينقطع الرجاء بتلك النبرة المتهالكة، تحت أمواج الأهوال المترامية من انكسار وحرقة :
-"لم أتناول طعامًا من يومين...!؟"

وانحسر الصوت في غياهب مسالك الجوع العميقة، فغر الزمن فاهه وبرزت أسنانه القاسية، وبات يقترب من ضحيته ، هذا الكيان المزهر ليسرق نظرة محمومة يتشفى بها، وهو مندهش من أنه فعل كل هذا بقارة من قارات الجمال….!؟….كأنه يريد أن يقضم آخر لقمة من وجبته الدسمة بعد أن أتى عليها كاملة، لكن صوت ارتطام رأسها في الأرض، أغضب النخوة السومرية وأيقظ حكمة (أورنمو) فجمّد الصراخ فوق الشفاه، هرعت الرجولة والأنوثة والإنسانية معًا...هي نخوة في ساعة انكسار...!
بدأت الشفاه تلوك، والألسن تلعن، تتحرك كعجلات مركبة من ريبة، طمست في وحل من شفقة أملس لا تثبت فيه أقدام، تعبت من أحمال رزايا الفعل المنحرف، واستهتار الزمن المخبول، تغطت بغطاء الهمس والتساؤل حتى أذنيها، ويجول الهمس في كل صوب، ذلك لم يعق برد الشوارع والأرصفة، الذي رتع في أنحاء أرض كيانها الغارق في أوحال اليتم والوحدة والفقر والموت والهلاك والحزن وأسباب الزمن السوداء، كتلة سوداء غطت بجناحيها جميع معالمها المبهرجة بالثقوب، ربت خفيف فوق خد لذيذ ناعم أعاد نصف عينيها نحو الوجود ولهذا الهجير اللاهب بالأسى، لكن الحزن بات رفيقًا يعزف سمفونية العويل الدائم، والموغل في القلوب، أنشودة الديمومة التي لا تنسى ولا تمل ولا تموت وجاءت الثانية:

-" أين أنا.... ومن أنتم....!؟"

طارت بنات شفاهها بأجنحة التعب المستميت فوق ساحات حظها العائد توًا من حرب خاسرة بين الجوع والظمأ، البرد والتشرد، الأمومة والمسؤولية، الموت والحياة، العفة والانحدار ....كفاح مستميت في ساحة حرب غير متكافئة، تمزقت فوق جثث جوعها بشائر النصر والانكسار معًا، فهي تقاتل في الجبهتين، رغيف خبز ضائع تطارده في جبهة، بين أحلام مفقودة، وسيف آلام يقطر دمًا و تقطع أوصال دواخلها الفارغة في جبهة أخرى... أجابت الكتلة السوداء الجاثمة فوق أثيرها المهموم جوهر السؤال:

-" لا عليك يا ابنتي، اعتبريني واحدة من بنات هي ...!؟"

وتسابقت مع الرد، فأردفت قائلة:

من أنت وما قصتك.....!؟"

تلفتت المأساة كمجتمع من الأسى، حول محورها بغرابة وكأنها تبحث عن فردوسها المفقود ، رغيف خبز حار، هو منتهى طموحها ، حضر في غيبوبتها حلمًا، وقد اختفى الآن في الغميضة، عند الدور الأخير، ونطقت الثالثة أشد من السابقات:

-" أطفالي، لا أدري أين تركتهم بعد اشتداد البرد والجوع والقصف.....!؟"

لم تمهلها تلك الكتلة السوداء الجاثمة فوق أثيرها المكلوم، قدح امتلأ حتى الحاشية وفاض همًا، وجعًا، دمعًا، وحزناً :

-" ولماذا تركتهم، وصرتي هنا....!؟"

اندلقت الغيوم غيثاً من عينيها فيضًا من وجع، شلالًا فوق أرصفة شوارع العوز والهم المجروح، يسنده غيث حسرات محمومة تسقي همومها العطشى، تطفو فوق هزيع موج الدموع سفن الذل والانكسار، و بين تلك الأمواج العاتيات، رمت الرابعة، أشد السابقات:

-" اشتد القصف و الجوع والبرد معًا ونحن لا نملك سوى خيمة ممزقة لا تستر حتى نفسها....!؟"
عند هذا الحد المسور بالألم نسى الزمن القاسي نفسه وهجر وقاحته العمياء تمامًا، وأجهش بالبكاء، دموع ثكلى وعويل مكلوم، اشرأبت أعناق الملائكة وخجلت الشياطين وهجرت المكان حين حضرت العافية، بانت قبضات التساؤلات والألم تتحرك اتجاه البعض، أظنّ بسوسًا ستشتعل بين فينة وأخرى، حتمًا سترسو على شاطئ هذا المكان سفن الخير والشر معًا، غطى صاحب المحل الموقف بغطاء الرجولة والإنسانية والحكمة وبساطة الأهل حين يشتد أوار جحيم الملمات :

-" لمٓ جئت لي.....!؟"

شعرت المأساة بقرب الانفراج ولاح في الأفق أمل حزين مبلل الجفنين تتأرجح لؤلؤة من أطراف رمشه، أترع الموقف بسيل من إعصار نخوة، حضرها الخير واضعًا يده فوق صدره، متعهدًا بالوفاء تلك المرة، هرب إبليس، حين لفح النور فوق وجوه الألسن، ونطقت المأساة، ثم أردفت صاحبَ المكان بنخوة خامسة :
-" حلم قد يكون صعب المنال، بطانية واحدة تكفي أطفالي، وما يحتل جيبي لا يكفي رغيف خبز ، أروم سد رمق أفواه تنتظر هناك، زارها الطعام منذ يومين، ورفض الفأر جوارنا ، وأقسم أن لا يزره بعد اليوم....!؟"
رعدت سماء الموقف بشدة، واكتظت الغيوم فوق وجوه الموجودين واشتغلت العيون مزنًا من غيث حسرات وعلامات تعجب وإستفهام وآهات وفيضانات مقل، وتحركت عواصف من عواطف بأرجل من حديد، تسابق الخير والريح، وتمسح وجوه الأخوة والأمومة والأبوة، هي ثورة من علائق، ديدن أهلنا الفقراء حين يشتد أوار الظلم والعوز، لم يكسر صاحب المكان حياء مجمع المآسي تلك، مسح عرقها بقول مشبع بالرجولة وأسباب الله:
-"عندي طلبك، بطانيات ثلاث، اشتريتها قبل عام، ولم يشترِها أحد مني، فهي قصيرة عند الزبائن ، سعرها نصف ما يسكن جيبك، خذيهم جميعًا ليأتي فال اليوم مترعًا بالرزق...!؟"
أشرقت سماء وجه المأساة ، وانحسرت الغيوم بابتسامة تفضح سطرين من حجاج في حالة السجود، و رذاذ خفيف و نث بارد من عطر فردوسي يرطب الموقف والوجوه أظن أن سربًا من الملائكة قد بهرها الموقف ، أدركت إن عين الله التي لا تنام تراقب هذا الموقف الجليل، نسمات خفيفة قلبت الموقف دفئًا، رائحة عبق زكي غزا المكان فخجل الجوع من نفسه، وأخفى سوطه خلف ظهره، فهدأت الآلام في جوفها، ورحل البرد من جسدها المنهد ، وتنفست الصدور المخنوقة من جلال الموقف ، بشهيق عذب من المروءة والحب ...
هي الإنسانية تتسيد الموقف، و يلوح بيده الجوع مودعًا ذلك الألم الدفين، فقد هزم فوق قارعة طريق الخير، وأريق دمه بسهم من سهام النخوة، غادر المكان متجهًا صوب مأساة أخرى، هو حال الدنيا...احتج أحد الزبائن ووجه كلامه بغضب لصاحب المحل :
-" لمَ بعتني البطانيات ذاتها بثلاثين ألف دينار وبعتها لها، الآن ، بنصف نصف نصف سعر غير معلوم ؟ والله أمرك عجيب يا أخي...أظنك مجنون.....!؟"
إبتسم صاحب المحل وأجاب بهدوء وسكينة :
-" لا يا أخي....أنا لم أبعها شيئًا، أنا تبايعت مع الله، حسبت الرزق بفرق السعر، كلما قللته زاد ، هي صدقة في السر، لقاء لعفاف زينه البؤس، وهل يا ترى إن فرق السعر يستوفي إراقة دماء وجه معوّز لو أجهرت .... بعت و كسبت بما قدرت عشرة أضعاف ما بعتك.....!؟"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا