الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرآة والوضعية الاندماجية

محمد العرجوني
كاتب

(Mohammed El Arjouni)

2024 / 2 / 7
الادب والفن


دخلت المرآة
نظرت إليَّ
وأنا خارج الذات
ياااه
كم كنت غبية !!
وجدتني أسيرة
حرة …طليقة
أنا العصفورة
في قفص ليس إلي
دخلتُ المرآة
خرجت أنا
كما كنت صبية …
****
سعاد عبيد الله
من ديوان:
سماد الحروف

أصبح للمرآة منذ اكتشافها، أدوار لا يمكن الاستغناء عنها. بدءا من طمأنة الناظر فيها أو مساعدته على تصحيح خلل ما في الهندام أو تحسين صورته قبل مواجهة الناس، إلى دورها في المساعدة مثلا على السياقة، ومرورا بدورها الجمالي بإحدى المباني إلخ... وبالرغم مما يقال حول تفاهتها بالنسبة للبعض، فإنها لن تتوقف أبدًا عن إبهارنا. هكذا وعلى مر السنين، تمتعت بعدة أدوار كأداة ضرورية، ما جعل منها نموذجا للتخييل والإبداع. فأصبحت متواجدة كرمز متعدد المعاني بالأدب، مادام الأدب يتميز أيضا بخاصية المرآة التي تتجلى في الانعكاس وهو ما يعطينا فكرة عن الواقع ومن خلاله تتكون لدينا تلك النظرة المعقدة حول الوجود. لهذا ظلت موضوعا ثريا لعدة دراسات. فها هو مثلا الباحث النفساني "لاكان" يتحدث عن نظرية المرآة، وإن كان يعتبرها مجرد سطح عاكس مسطح، فإنه يستغل خاصيتها التي تكمن في الانعكاس، لشرح تكوين هويتنا من خلال التقاط ذواتنا من الآخرين. وهاهي دولتو تعتبرها سطحا نفسيا متعدد الانعكاسات. وهكذا تفوق وظيفتها كونها مجرد صورة مجهرية، لتصبح أيضا بمثابة صوت لا يسمعه إلا من يعمق النظر فيها. بل وقد تصبح لها وظائف أخرى ذات إحساس. وهو ما يُعتبر مآلا لأقصى درجة في التجربة الاستكشافية المبنية على التأمل. وبفضل خاصية الانعكاس، فإن للمرآة سلطة تسمح للذات بتحقيق، ما يصطلح عليه، بالوضعية الاندماجية. كما سوف نراه في تحليلنا لنص الشاعرة سعاد عبيد الله. وكلما تحققت هذه الوضعية، كلما برزت علاقات الذات المتنوعة. فهي تكشف عن هوية الذات في المقام الأول، وفي نفس الوقت عن ما تختلف عنه في علاقاتها بالآخرين.
بعد هذه التوطئة نمر إلى قراءة نص الشاعرة سعاد عبيد الله الذي مطلعه : دخلت المرآة. نص نجده بديوانها: سماد الحروف، الصادر عن دار مقاربات بالمغرب.
نحن أمام نص- مرآة وفي نفس الوقت موضوعه المرآة في علاقتها بالشاعرة. ما يحيلنا على فكرة الانعكاس. لكن ليست المرآة وحدها من تعكس الصورة. فما يبدعه الشاعر أو الروائي أو الفنان التشكيلي هو أيضا "مرآة" يعكس ما أثار تفاعله. في هذا النص نستلذ لعبة ثنائية الانعكاس في بداية الأمر. الشاعرة تخرج من ذاتها وتدخل المرآة:
دخلت المرآة
نظرت إليَّ
وأنا خارج الذات
وما يثير انتباهنا هو هذا التضاد المعبر عنه ب: دخلت /خارج. فعملية النظر في المرآة تحولت إلى اقتحام/دخول، منه نستلهم فكرة الانفصام/ الانفصال. فأصبحت الذات ذاتين. فالذات "المرآتية" من داخل المرآة تنظر وتندهش :"ياااه"، لتكتشف "غباءها" الماضي، في الخارج/الواقع ووجودها به كأسيرة. ودائما على منهج التضاد، تُلصق بدون أي منطق متداول، "حرة طليقة" ب: "أسيرة". وهو ما يفسر هذا الانفصام المشار إليه سابقا. إلا أنه حينما ندقق في التعبير المتضاد ظاهريا، فإننا نتوصل إلى فكرة تحقيق الحرية من داخل المرآة-النص. وبفضل ذلك تخرج كما "كانت صبية" . فنجد أنفسنا أمام البراءة والقدرة على الحلم. هكذا تكتشف الحلم والكتابة التي تصبح انعكاسا ثالثا، يأسر الشاعرة في طفولتها أي في براءتها لكنه يحررها من داخل الكتابة. المرآة الحقيقية إذا هي الكتابة. من داخلها، وهي أسيرة الحرف أيضا، تجد حريتها بفضل ما تغدق عليها من ايحاءات جمالية تدهش المتلقي وتثير فضوله ليساهم بدوره في لعبة الانعكاس. ويصبح بدوره مرآة تعكس ما تلقفه من انعكاسات...
وخلاصة القول، من خلال هذا النص، بفضل قدرة الانعكاس، حققت الشاعرة تلك الوضعية الاندماجية للذات. الشيء الذي سمح لها بإبراز علاقتها مع واقعها المعاش، ما شحذ وعيها بضرورة تحدي "الغباء" عبر الكتابة. وكما أن للمرآة أيضا مفهوما آخر مبني على فكرة السببية، حيث كل تجربة معاشة وما يواكبها من إحساس، تكون نتيجة سبب خارجي، يصبح داخليا بقوة الأنا الأعلى الضاغطة على الأنا، عاشته الذات بكل جوارحها، فإن الشاعرة تتحرر من هذه الضغوطات عبر الشعر الذي يوحي ولا يسمي الأشياء. هكذا تؤدي المرآة إلى الانفصام الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى معرفة الذات بفضل الذات المنفصلة، من خلال مقارنة بين الذاتين، وهو ما يؤدي إلى تقدير الذات التي مرت بأقصى التجارب. من هنا نستحضر أيضا رمزية المرآة في مفارقة عجيبة: فهي ترمز للحقيقة، كما عبرت عنها حكاية "بياض الثلج" مثلا، وترمز كذلك إلى عكسها، حيث بإمكانها أن تضل "بمحاورها" خاصة وأن الصورة تُعكس بشكل عكسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا