الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقنيتا البازل والكولاج السردي في رواية / ماتريوشكا من أسوان/ للكاتب فتحي سليمان وقراءة ذرائعية بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2024 / 2 / 7
الادب والفن


إغناء:
رواية البازل:
هي الرواية التي يوظّف فيها الكاتب تقنية البازل، وهي تعوّل كثيرًا على فطنة وذكاء القارئ لاكتشاف الصورة النهائية للرواية، والمعنى أو الإطار الكبير بعد ترتيب التفاصيل المتناثرة بدون سرد مرسل على الطريقة المتعارف عليها.
وتقنية سرد البازل:
تعني السرد في زمن معين ومن ثم الرجوع لزمن آخر، وهي تكنيك يعطينا خلفية أو صورة مركبة بالأزمنة المتداخلة، لفهم الحاضر، تتلاعب بالأزمنة وتنتقل انتقالات سريعة لإعطاء الصورة المراد رسمها في ذهن القارئ، وهي أيضًا تكنيك فني وأسلوبي يعطي قيمة جمالية، ويقترب من جمال صورة الفن السينمائي.
وهي تختلف عن تقنية التدوير السردي، رغم أن التقنيتين قائمتان على تداخل الأزمنة، لكن:
في تقنية التدوير السردي :
تبدأ الرواية بحدث معين، ومن ثم ينتقل الكاتب لسرد أحداث الرواية، ويجرنا في متاهات أحداث سردية متشعبة، ثم ينهي الرواية بذات الحدث أو الزمن الذي بدأ به، وممكن أيضًا أن يتلاعب الكاتب في تداخل الأزمنة السردية ضمن التدوير العام للرواية، وتنتج لنا ما يسمى بالرواية المدوّرة، وهذه التقنية أيضًا موظفة في هذه الرواية قيد الدراسة.
لكن، رواية البازل:
هي رواية تكون فيها عملية إنتاج النص السردي متعبة، وتحتاج إلى ذهن متيقن يعرف كيف يتلاعب بالجمل والكلمات والفقرات المتقاطعة. فن وتقنية مختلفة كليًّا، تشبه الأحجية أو لعبة البازل، الكاتب يكتب ويتحدّث عن صور وأحداث غير مترابطة وغير مفهومة، قد ينفر القارئ منها، ولا يستطيع إكمالها لأنه بحاجة إلى سرد وفق نسق موحد يستطيع متابعة الأحداث فيها، لكن، بعد انتهاء رواية البازل يستطيع القارئ ترتيب أحداث وصور الرواية من جديد، وإعادة صياغتها بذهنه وفق نسق معين ليحصل على الصورة النهائية لأحجية أو رواية البازل، وحقيقة هنا نحتاج إلى قارئ متميز ومثقف يفهم الأحداث ويستطيع بناء الهيكل العام كما أُريد للرواية أن تكون، كما تحتاج إلى ناقد لا يتعب، يسجل التفاصيل، ويعيد هيكلتها ويرتب صياغتها، ليكتب عن الخطوط العامة للصورة الكبيرة المرجوة، ولا داعي لتفسير القطع المتناثرة من اللعبة، الجمل والكلمات غير المترابطة مع الأحداث. وهذه التقنية اتبعها غابريل ماركيز في رواية مائة عام من العزلة، وجلال برجس في رواية ( دفاتر الورّاق).
ورواية ( ماتريوشكا من أسوان) للكاتب الأسواني فتحي سليمان تنتمي فنيًا إلى روايات البازل، ولقد بدأ الكاتب بتوظيف هذه التقنية ابتداء من :
العنوان :
ماتريوشكا من أسوان
( ماتريوشكا) هي دمية روسية شهيرة، دمية خشبية تتضمن داخلها عدة دمى أخرى بأحجام متناقصة، وهي دلاليًّا مرتبطة في روسيا بالأسرة والخصوبة، فهي تمثل رمزًا تقنيًّا تقليديًّا للأم التي تحمل طفلًا في داخلها، كما يمكن اعتبارها تمثيلًا لسلسلة من الأمهات يحملن إرث الأسرة من خلال الطفل في رحمهن، أما كوسيلة توضيحية فهي توضّح وحدة الجسد والروح والعقل والقلب والروح.
وتعتبر الدمية ماتريوشكا من الألعاب التي تتسم بالغموض والتلغيز، حيث تخفي الدمية الكبيرة دمى أخرى، مثل قطع البازل التي تحيل إلى الأحجية أو المعضلة، وكلاهما، الماتريوشكا والبازل، تحتاج إلى حضور ذهني لإعادة ترتيبها وفك رموزها ووضع القطع في أماكنها الصحيحة.
أما عن العنوان، ماتريوشكا من أسوان، فله دلالته الإيحائية، حينما تُنسب ماتريوشكا ( الأم الروسية) إلى منشأ جغرافي مغاير ( أسوان) تمامًا للمنشأ الأصلي (روسيا)، وسنرى أنها دلالة تختزل ثيمة العمل ببراعة إيحائية تعمّدها الكاتب، حين لغّز العلاقة التي تربط البطل حسن بمرافقيه بالطائرة، منهم شابة تناديه بجدي وأخرى تناديه بأبي، سنجد في المسار الحدثي أنهما ابنته وحفيدته من حبيبته الروسية أولغا، حفيدة من ابنة من أم روسية وأب أسواني، بهذا العنوان ثبّت الكاتب أول مربط من مرابط عنصر التشويق، كونه عنوانًا مثيرًا للتساؤلات أولًا، وثانيًا، هو عنوان سيضطر القارئ إلى العودة إليه مرارًا أثناء القراءة، لأن هذا العمل الروائي قائم على إشراك القارئ بعملية إنتاجه فنيًّا وجماليًّا، كما تقتضي تقنية البازل، من خلال التفاعل القائم بين النص وبين قارئ محترف مضطلع بعملية القراءة، يسعى لتحقيق جمالية التلقي، طالما أُعطيَت له سلطة القراءة، ومهمة استكشاف الدلالات الإيحائية من خلال إدراك صورة المعنى المتخّيل في النص، الذي يمكن أن يتطابق تمامًا مع القصدية النصّية والدلالية للمؤلف، أو مع الإدراكية الجمالية للمتلقي، بينما، العمل الأدبي، فعليًّا، يشغل مكانًا وسطًا بين قطبي الثنائية ( الفني والجمالي).
لقد اختار الكاتب الطريقة الحديثة (السينمائية) في عرض الأحداث، حيث يبدأ بعرض حدث قريب من النهاية، في مثلث الانفراج بعد لحظة الذروة، ثم، يستخدم تقنية الاسترجاع Flashback لعرض حدث البداية، ثم بقية الأحداث عبر تشظيات زمكانية لنصل إلى حدث النهاية، موظفًا تقنية التدوير، كما أسلفنا، ومؤمّنًا عنصرَ التشويق، أحد أبرز عناصر بناء الحدث السردي، مشدودًا بلا تراخٍ من العنوان وحتى النهاية، مرورًا باستهلال زمكاني مباشر:
صباح الرابع عشر من أغسطس عام 2004 ...
على متن الطائرة المتجهة إلى القاهرة – من مطار ( شيريميتيفو) الدولي في موسكو تبادلنا التحية، واستأذنته
أن أجلس بجوار النافذة ....
لكن الكاتب عشّق هذا الاستهلال المباشر بتوظيف تقنية الحوار الخارجي، عقب الاستهلال، بين من يُفترض أنه الراوي المشارك وشخص ثان مجهول، وحديثهما عن سر أو لغز، يخصّ شخصيات أخرى تشارك الراوي رحلته على الطائرة المتجهة من موسكو إلى القاهرة، شاب أسمر وثلاث نساء:
.....فابتسم وقال:
- على شرط أن تحكي لي سر هذا اللغز الذي أسمعه : إحداهن تناديك بابا والآخرون – بينهم هذا الشاب الأسمر ينادونك يا جدّي.
هذا اللغز لن يتكشّف لنا بعد مسافة طويلة ستجتازها أحداث الرواية، إلى أن تطل هذه الشخصيات لتلعب دورها على مسرح الأحداث، في زمكانية تخصّها، وسؤال آخر من البطل لرفيق الرحلة الستيني :
- سياحة أم عمل؟
- لن أبقى في القاهرة سوى ساعتين، ..... نحن سنكمل رحلتنا إلى أسوان.
جواب سيكون العتبة الواقعية التي ستثير تيار الوعي عند الراوي البطل، لينطلق بسرد حكايته، التي وضع لها استهلالًا زمكانيًّا آخر قافزًا على خط الزمكان المتشظي نحو الخلف مسافة طويلة امتدت على مسافة 124 صفحة:
الليلة التي سبقت الحكاية ...
القاهرة، صيف عام 1959....
ثم يروي( حسن) الشخصية البطلة الحكاية ل ( فلاديمير) رفيق الطائرة ورئيس الفريق العامل في السد العالي، والذاهب إلى أسوان، بأسلوب الحكاية اللغز، التي يتعمّد فيها الراوي التروّي الشديد في الكشف عن ملابسات حكايته، فلا يلقي ما في جعبته إلا بتقتير شديد، ليبقى المتلقي مشدودًا إلى اللغز الأول الذي طرحه فلاديمير في فصل الاستهلال.
أما عن المواضيع المطروحة في الرواية :
فهي رواية واقعية، عرض فيها الكاتب لظواهر اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية متشابهة، في مجتمعين مختلفين تمامًا جغرافيًّا وديموغرافيًّا وبيئيًّا وثقافيًّا وأيديولوجيًّا، كما هما مختلفان من نواحي العادات والتقاليد والأعراف, هما المجتمع الأسواني والمجتمع الروسي.
وعرض أيضًا للتنوّع والتغيّر المجتمعي الذي طرأ على أسوان في فترة تاريخية حاسمة هي فترة بناء السد العالي، حيث:
لم تعتد أسوان على استقبال مثل هذه الأعداد الغفيرة من أبناء المحافظات الشمالية: صعايدة وبحاروة وسواحلية، حتى الغجر امتلأت بهم مقاهي البلد. كل دكتي خشب بجوارهما موقد جاز أصبحتا مقهى، كل ضِلّة تحت شجرة كافور صارت استراحة. مهندسون وعمال من جميع التخصصات، وخصوصًا العمال؛ كان المطلوب منهم الصحة والقدرة على العمل فقط.
وكذلك لحدث زيارة الزعيم جمال عبد الناصر لأسوان، وتداعياتها النفسية الإيجابية على الجميع:
الخبراء السوفييت ظلوا يطالعون طوله الفارع وبريق ابتسامته ونظرة الامتنان التي يرسلها مع كل سلام باليد وهزة رأس. عندما يقول الأسواني :" " الريس كان عندنا" يقولها وكأن الرئيس زار منزله البسيط .... ص 42
رحيل جمال عبد الناصر وتولي السادات سدة الحكم، وعصر الانفتاح الذي واكب حكمه، والعداء الذي قام بين نظامه والنظام الشيوعي السوفييتي، والذي نتج عنه تهميش وتحييد معظم المبتعثين العائدين من موسكو عن الوظائف التي تتناسب مع شهاداتهم العليا التي حصّلوها في الاتحاد السوفييتي، وتوقف العمل في موقع السد، ثم اغتيال السادات والتحقيقات التي أعقبت ذلك، حوادث التفجيرات المتسلسلة التي نسبت للجماعات الدينية المتطرفة، تحديدًا الأخوان المسلمين. والنزعة العنصرية، التي تمكّنت من قلوب بعض الشباب المتطرفين، اتجاه الأجانب ومن يكون معهم، والاعتداء عليهم وتعمّد إيذائهم جسديًّا ونفسيًّا.
وبالمقابل، عرض الكاتب للعنف السياسي وللأحكام القمعية التي يتعرض لها المواطنين الروس من قبل النظام الشيوعي السوفييتي تحت ذريعة أمن الدولة الذي يتيح للدولة اتهامهم بالخيانة العظمى لمجرد انتقادهم للحكومة، ونفيهم إلى معتقلات الموت في سيبيريا حيث:
الصفر في سيبيريا لا تاريخ صلاحية له، هو عديم القيمة مثل الأصفار التي تولد على اليسار، الزمن هناك صفر، العدد صفر، البشر هناك أيضَا صفر! .... ص 102
وظّف الكاتب تقنية الحبكة الدرامية من خلال علاقة الحبّ التي ربطت بين ( أولغا) شابة من الاتحاد السوفييتي تعمل في سلك التمريض، قدمت إلى أسوان مع الفريق الروسي أثناء بناء السد العالي في مصر أثناء فترة حكم الزعيم جمال عبد الناصر، وبين شاب من أسوان ( حسن) يعمل مع ذات الفريق، التقيا صدفة ثلاث مرات في ذات اليوم. علاقة الحب هذه كانت العنصر الثاني من عناصر بناء الحدث السردي، وقد تخلّلها علاقة حميمية بينهما..اختطفت ( أولغا) بعدها، واقتيدت وسجنت في معتقلات سيبيريا بتهمة الخيانة، مدعمة بتقرير مزيف أُعدّ بمكيدة من ( نيكولاي) موظف الكي جي بي، مفاده انتقاد لسياسة الحزب الحاكم، وهذه ظاهرة تتشابه فيها كل الأنظمة الأمنية ذات الطابع الاستبدادي القمعي، ( حسن) الأسواني خرج باحثًا عن حبيبته في كل أماكن تجمّع الروس في القاهرة، ولم يجدها، ثم التحق بكلية الهندسة في القاهرة، وبعد التخرج تقدّم إلى بعثة موسكو لدراسة محركات ومواتير السفن السياحية العملاقة التي ظهرت في تلك الفترة من ستينات القرن الماضي وجابت النيل من الشمال إلى أقصى الجنوب، وأثناء فترة البعثة في موسكو بحث عن حبيبته كثيرًا، لكنه لم يجدها، وكان قبلها، قبل دخول كلية الهندسة، قد أُرغم من قبل أهله على الزواج من ابنة خاله، ولكنه هرب منها بعد ثلاثة أسابيع بعد أن زرع في رحمها مضغة خرجت إلى الحياة ذكرًا اسمه (أحمد) لم يقابله حسن إلا مرّتين، كان في الأولى شابًا يضج بالحياة، متمرّدًا يهدد بالانتقام من الروس والذهاب للجهاد في أفغانستان، بينما كان في الثانية ميتًا، عُرض على أبيه للتعرّف عليه في ثلاجات الموتى الذين قضوا في عملية تخريبية في أسوان راح ضحيتها الكثيرون.
تدور الأيام والسنون، يعود العاشق الأسواني من موسكو، حاملًا شهادة دكتوراة في الهندسة الوصفية والرسم الهندسي وبناء السفن النهرية، ليجد خطاب التعيين مفارقًا لكل ما درسه وما تخصص به، قرار تعيينه موظّفًا في صيانة مواتير أتوبيس النيل العام النهري في ظل الانفتاح في عهد السادات! إضافة إلى نظرات الشبهات لشهاداتهم الصادرة عن الاتحاد السوفييتي، لأن سياسة النظام الحاكم كانت وقتها على خلاف مع النظام السياسي الشيوعي السوفييتي:
- صرت المهندس الأحمر! والحاصل على شهادة الفنون صار الفنان الأحمر، ومن تدرب في البولشوي صار الراقص الأحمر. وأصبحنا بين الذهاب والإياب مشبوهين، وكان علينا ونحن نقدّم مسوغات تعيينناأن ننكر محل إصدارهاز اعتمدوا شهادة البكالوريوس الصادرة عن جامعة القاهرة، وتعاملوا مع شهادات الاتحاد السوفييتي وكأنها أحشاء حيوانات نافقة.
معلومة واحدة كشفها حسن لفلاديمير وهما على متن الطائرة المتجهة إلى القاهرة فيما يخص مرافقيه، بعد أن حسده الثاني على الدفء الذي تحيطه به عائلته هذه، ظانًّا أنهم لا يفترقون كثيرًا، بينما هو تفصله عن ولديه ثلاث قارات، يجيبه حسن:
- آه يا حضرة المسافر لو تعلم متى التقينا؟!... هذا الشاب الذي يضع ذراعه داخل جبيرة الجبس هو حفيدي، وهو الوحيد الذي كبر وشبّ أمام عيني، والفتاة التي بجواره قابلها منذ عام تقريبًا، أما ابنتي وحفيدتي فلم يجمعني القدر بهما سوى منذ عشرة أيام.
ثم يتوقف عن استئناف الحديث عنهم، ليكمل سرد حدث آخر كان ابتدأه قبل صفحات عديدة، أو يبدأ بسرد حدث جديد، تبعًا لفنية تقنية البازل. لن أكمل سرد حبكة العمل، ولن أكشف تداعيات سرد أحداث مثلث الانفراج، وصولًا إلى النهاية، لأدع المجال لقارئ ومتلقي غيري يشارك بذلك، وأحث الجميع على قراءة الرواية، فلن يكون الكاتب بأذكى من المتلقي.
السرد كله كان بنفس واحد، على لسان البطل المشارك، لا فصول في الرواية، وإنما فقرات غير متسلسلة كما قلنا، تفصل بينها ثلاثة نجوم تنبؤنا بانتهاء الفقرة وابتداء فقرة جديدة.
يوظّف الكاتب أيضًا:
تقنية الكولاج السردي:
في تشكيل البناء الفني للرواية، والكولاج هو فن ما بعد حداثي، فن تشكيلي تركيبي، توليفي يعتمد على قص ولصق مواد وخامات مختلفة معًا لتكوين لوحة فنية.
وتوظيف تقنية الكولاج في القصة أو الرواية كأداة من الأدوات السردية يكون بإقحام مقتطفات من نصوص أخرى متنوعة، لذلك يُعد الكولاج مظهرًا من مظاهر التناص في النص السردي، كون هذا النص يرتبط بعلاقات حوارية مع نصوص أخرى، ومثالنا على ذلك في هذا العمل إقحام أشعار من ديوان شعر (آنّا أخماتوفا)، في أكثر من فقرة. كذلك أغاني المطربة شادية التي غنّت فيها لإنسان السد .... ص43- 44-
لكن الكولاج يمكن أن يضطلع بوظائف سردية أساسية في صلب الخطاب، فقد تكون النصوص الملصقة في النص السردي قصة فرعية تحيط بالقصة الأصلية، وقد تسهم في تنويع زوايا السرد، وتكسير خطّيته، وتشظية القصة الأم إلى قصص فرعية متعددة متكاثرة، منها الفقرات الكثيرة التي تحدّث فيها عن مدن الصعيد ونجوعه، التي عشّقها الكاتب كفقرات معلوماتية في نسيج الرواية.... ص 11- 12
ويمكن للكولاج أيضًا أن يضطلع بدور مهم في إنشاء دلالات النص، وتوجيه القراءة التأويلية. فحين يروي الراوي حادثة خميس قطب الجندي المجند في الشرطة العسكرية وهي حادثة واقعية مشهورة، أنقذ فيها خميس موقع بناء السد من كارثة كبرى، والكاتب يتخذ من حكاية بعينها مثالًا يتناص فيه مع الكثير من القصص وحوادث العمل المشابهة، التي ازدحمت بها أسوان في ذلك الوقت، يقول:
أسوان صارت تمضغ أخبار السد بين لقيماتها، كل الطرق تؤدي إليه، وكل الأخبار تبدأ من موقعه. نستيقظ في الصباح على صوت الانفجارات، وعلى طاولات الغداء نسمع أسماء وأنواع الديناميت وكمياتها، وبعض تفاصيل حوادث العمل. نترحم على عامل تأخّر في ترك موقع الانفجار وآخر انزلقت به الشاحنة إلى بطن الوادي...ص 25
كذلك، حينما ساق الكاتب قصة مذبحة القلعة الشهيرة التي دعا فيها الوالي محمد علي الممالك إلى وليمة كبرى ثم بعدها قام بذبحهم، في مذبحة شهيرة حدثت في العام 1811 م، والتي نجا فيها مملوك واحد يدعى أمين بيك الذي قفز بحصانه من فوق سور القلعة، وسقط مغشيًّا عليه ومات الجواد من شدة السقوط، وسرق سلاحه ونقوده وضرب بالسيوف فأصيب إصابة بليغة، لكنه لم يمت، ولكن في الحكاية التي أوردها الكاتب على لسان البطل حسن، نسب قصة الفارس الذي نجا من المذبحة إلى جدّه الأكبر (حسن ) الشاب الأسمر، وليس للمملوك أمين، هي حكاية متخيّلة تنتمي إلى الإرث العائلي لعائلة حسن، بالتناص مع الحكاية الواقعية للمذبحة، مع استبدال الفارس ( حسن بدل أمين)، أراد الكاتب من ذلك أن يشير إلى يقينيات متخيلة عند الكثير من العائلات الصعيدية التي تعشق أبطال اليوتوبيا، ولا تتورع عن نسب البطولة إلى أجداد العائلة.
الفقرة التقريرية التسجيلية التي جاءت على لسان فلاديمير وهو يتحدّث عن كابول، هي أيضًا قطعة من الكولاج التجريبي التي أدرجها الكاتب في النص الروائي، ضمن تقنية الكولاج:
كانت كابول لا تختلف عن القاهرة وبغداد ودمشق! جامعات ومعاهد ودور سينما وقاعات فن تشكيلي ومسارح. الفتيات كنّ ثلث عدد الطلبة في الجامعة، والمجتمع كان في طريقه إلى نسبة ال 37% تعليم..... ص 115- 116- 117
على المستوى الجمالي :
استخدم الكاتب تقنيات أسلوبية عديدة، أكتفي بواحدة منها:
تقنية الصورة الجمالية الأدبية :
كمثال من أمثلة كثيرة، يصف فيها أسوان والنيل، وكأنه يرسم لوحة قدسية، يقول:
- أسوان ...المدينة التي تقع في آخر الدنيا وأول السماء.
- وأينما كنت تعرف أين ينام النيل، كل الطرق تؤدي إلى نسيمه، وكل الأنفاس تتناغم مع أمواجه.
- النيل هو الطفل البكري لكل عائلة، وهو خال اليتامى ووكيل كل العرائس.
- النيل! أول ماء يلمس جسد الأسواني بعد ماء المشيمة، وأول رشفة ماء في يوم التعميد، وشكر السماء على ميلاد جديد.
- أجل ما في نهار أسوان أن الإنسان له ظلٌّ يشبهه، يطول أحيانًا أو يقصر، يتبعه أو يمشي أمامه؛ دائمًا يشعر بالونس معه كرفيق.
- في ليل أسوان تهبط أشعة القمر لتستحم في مياه النيل كآلهة من نور؛ يراهم الجالسون على الكورنيش فيتحوّل كلامُهم إلى همس.
سيكولوجيًّا :
مما لاشك فيه إطلاقًا أن المنتج الكتابي هو حصيلة وظاهرة دلالية، بدأ إنتاجها داخل نفس الكاتب كرد فعل على محفز خارجي يتجلى بظواهر ودلالات سيميائية، تبحث عن معانيها، ويتبرع الكاتب بالمساعدة لتحويل الظواهر السيميائية إلى عناصر معرفية يتحصّل عليها عبر عمليات معقدة تجري في اللاوعي والوعي والإدراك، وتتمظهر بمخرجات فنية منجزة إجرائيًّا بكتاب يضعه بين يدي المتلقي، الذي سيتلقاه كدلالة سيميائية جديدة، عليه أيضًا معاينة معانيها الظاهرة، وكشف معانيها المخبوءة، والكاتب ابن بيئته بالدرجة الأولى، ومن الطبيعي أن تثيره ظواهرها، فيكتب عنها، بينما القارئ فهو أسير ما يقرأ، وأما الناقد فهو الأمين والمؤتمن على كشف وتقييم المنتج الإبداعي الوليد، وهكذا... فإن عملية الإنتاج الإبداعي النص هي عملية نفسية تكاملية مشتركة عند كل من الكاتب والمتلقي.
التجربة الإبداعية للكاتب :
الكاتب يمتلك من الحذاقة والحرفية الفنية ما يجعلنا نشيد بإبداعه الأدبي، استخدامه لتقنيات سردية صعبة ومتعبة نوعًا ما، دون أن يفقد القارئ حماسه لإكمال القراءة هو بحدّ ذاته تحدٍّ ناجح، ننتظر منه المزيد من الإصدارات الإبداعية الناجحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال