الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة في الصين وفي أوروبا

أحمد بنعمر أبو رزان

2024 / 2 / 8
الارشيف الماركسي


Karl Marx: La révolution en Chine et en Europe
New York Daily Tribune, 14. VI.1853

عقل عميق لكنه مشوب ببعض الخيال(1) ، بعد أن كرس وجوده بالكامل لاكتشاف القوانين المتحكمة في تطور البشرية، خلص إلى أن وحدة الأضداد تمثل أحد القوانين العجيبة التي تهيمن على الطبيعة. في نظره يمثل المثل القديم القائل بإمكانية تماس الأطراف المتقابلة،الحقيقة العليا والفعالة في كل مجالات الحياة، بديهية كتلك التي لا يملك إزاءها الفيلسوف كما عالم الفلك إنكار قوانين كبلر أو اكتشاف نيوتن العظيم. وسواء كان هذا المبدأ الشهير كونيا أم لا، يمكن للمرء أن يجد فيه مثالا مذهلا عن التأثير الذي تجد الثورة الصينية نفسها مدعوة لممارسته على العالم المتحضر. قد يبدو من الغريب والمفارق التأكيد على إن الانتفاضة القادمة للشعوب الأوروبية من أجل حرية جمهورية ومن أجل حكومة حكيمة ستعتمد على ما يحدث في الإمبراطورية السماوية - في القطب المقابل لأوروبا - أكثر من أي قضية سياسية راهنة أخرى. وفي كل الأحوال ، أكثر من التهديدات الروسية وأكثر من المشهد الناتج عن النزاع الأوروبي المعمم على السواء (2) . وفي الواقع لايوجد شيء متناقض في هذا؛ بل إن كل متمعن في هذه الواقعة سيسلم بتوافقها مع شروط الوضع الراهن. ومهما كانت الأسباب وراء الثورات المتواصلة على مدى السنوات العشر الأخيرة في الصين ،وهي الثورات التي تتجه نحو إحداث اضطراب هائل ، ومهما يكون الشكل الذي ستتخذه هذه الثورات ، ديني ، سلالي ، أو وطني، فإنها لن تترك مجالا للشك في أن السبب الجوهري لاندلاعها يتمثل في المدافع الإنجليزية التي فرضت على الصين مخدر الأفيون(3)، وهي المدافع نفسها التي تسببت في تمزق أسرة المانشو(4) وتحولها إلى أشلاء والنتيجة تبخر أوهام خلود الإمبراطورية السماوية وبالتالي نهاية عهد العزلة البربرية عن العالم المتحضر والتي طال أمدها كثيرا .
لقد انفتحت فجوة لعلاقات التبادل التجاري الذي شهد نموا سريعا بفضل جاذبية الذهب القادم من كاليفورنيا ومن أستراليا، في حين كانت العملة الفضية ، الشريان الحيوي للامبراطورية ، تتدفق نحو جزر الهند الشرقية البريطانية ؛ بحيث وإلى حدود العام 1830 ظل الميزان التجاري لصالح الصينيين باستمرار؛ تدفق كبير ومتواصل للفضة على الصين من الهند كما من إنجلترا وأمريكا. إلا أنه ومنذ 1833 وأكثر من ذلك منذ 1840 اتخذ تصدير الفضة إلى الجزر الهندية الشرقية نسبا لم يعد معها بمقدور الإمبراطورية السماوية تحملها، الشيء الذي دفع بالامبراطورإلى إصدار مراسيم صارمة ضد تجارة الأفيون،وما رافق ذلك من مقاومة أكثر حزما وإصرار.
وبالاضافة إلى هذه التبعات الاقتصادية المباشرة ، عمل الفساد المرتبط بتهريب مخدر الأفيون على تدمير المكانة التقليدية التي تمتع بها موظفي الإمبراطورية بالمحافظات الجنوبية . وفي حين كان من المسلمات التقليدية اعتبار الإمبراطور بمثابة أب لجميع الصينيين ، وينظرإلى موظفيه كساهرمؤتمنين على الروابط التي توحد بين الأب وبين أقاليمه التابعة له ،
غدت هذه السلطة الباترياركية - باعتبارها الرابط الأخلاقي الوحيد الملتحم بآلة الدولة العملاقة - تتضاءل باستمرار بفعل فساد الموظفين الذين راكموا ثروات مهمة من خلال تواطئهم مع مهربي الأفيون.
وكانت المحافظات الجنوبية التي اندلعت فيها الثورة بالتحديد هي الأكثر تضررا من حالة الفساد هذه. والحالة هذه هل يكون من الضروري إضافة أنه كلما أحكم الأفيون سيطرته على الصينيين ، كلما جرد الإمبراطور وحاشيته من الموظفين المتحذلقين من سلطتهم؟ يبدو أنه سيكون على التاريخ أن يُسكر شعبًا بأكمله أولاً قبل أن يتمكن من إخراجه من سباته الألفي .
بعد أن كانت ، تقريبا ، في حكم العدم في الماضي ، فإن استيراد القطن الانجليزي ، وبدرجة أقل الصوف الإنجليزي، ارتفع بسرعة كبيرة بعد 1833 - وهو العام الذي شهد انتقال احتكار التجارة مع الصين من شركة الهند الشرقية إلى التجارة بواسطة المقاولات الخاصة (5)، لترتفع وتيرتها وبسرعة أكبر بعد 1849،وهوالعام الذي قررت فيه بلدان أخرى بدورها وبلدنا (6) بصفة خاصة، إقامة علاقات تجارية مع الصين. كان لغزو البضائع الأجنبية التأثيرات نفسها التي تعرضت لها الحرف اليدوية المحلية في الماضي بكل من آسيا الصغرى وبلاد فارس والهند. وقد كان حرفيو الخيوط والنساجون الخاسر الأكبر من هذه المنافسة الأجنبية، وسرعان ما أصبح المجتمع بأكمله في حالة من الحيرة والانزعاج. وكان الثمن الذي ينبغي دفعه للانجليز بعد حرب عام 1840 المؤسفة باهضا ؛ (7) الاستهلاك المفرط وغير المنتج للأفيون ، نزيف المعادن النفيسة نتيجة لتجارة الأفيون، والعمل المدمر للمنافسة الأجنبية على الإنتاج المحلي وحالة الإحباط السائدة بالإدارة العامة.
وقد كان لكل ذلك تأثير مزدوج: فالضرائب التقليدية التي أصبحت أثقل وأكثر وطأة ، أضيفت إليها ضرائب أخرى جديدة . ولذلك، قام الإمبراطور بإصدار مرسوم مؤرخ في بكين بتاريخ 5 يناير 1853 يأمر فيه نواب الملك والحكام من مقاطعتي Wouchang ووشانغ وهانيانغHanyang الجنوبيتين بتأجيل وتحويل الضرائب، وقبل كل شيء، الامتناع عن تحصيل أكثر من المبلغ المقرر لأنه، يقول المرسوم، "كيف يمكن للفقراء أن يتحملوا ذلك؟" ويتابع الإمبراطور: " ولذلك ، ربما، في هذه الفترة من الأزمة العامة ونقص الموارد ، سوف أعمل على حماية شعبي من اضطهاد وبطش جباة الضرائب."
نتذكر أننا سمعنا مثل هذه الكلام ووعود مماثلة بالنمسا ، الصين الألمانية، عام 1848.
كل هذه العوامل تؤثر منصهرة وفي وقت واحد على الجوانب المالية والعادات التقليدية والصناعة والبنية السياسية للصين وقد بلغت ذروتها تحت نيران المدافع الإنجليزية التي حطمت سلطة الإمبراطور ووصلت بالقوة العنيفة بين الإمبراطورية السماوية والعالم الأرضي. ولما كانت العزلة التامة تمثل الشرط الضروري للحفاظ على الصين القديمة، فنحن اليوم نشهد نهاية عنيفة لهذه العزلة
على يد إنكلترا، بحيث صار تفكك الصين القديمة أمرا مؤكدا كمومياء أصبحت معرضة للهواء الطلق بعد أن كانت محفوظة بعناية في تابوت مختوم بإحكام.
الآن وقد أطلقت إنجلترا العنان للثورة في الصين، وجب علينا أن نتساءل عن ردود الأفعال التي ستسببها هذه الثورة في هذا البلد، وفي وقت قريب، في إنجلترا ومن هناك في أوروبا. علما أن الجواب ليس صعبا ؛ إذ غالبًا ما لفت انتباه قرائنا مستوى نمو لم يسبق له مثيل في التصنيع البريطاني وذلك منذ العام 1850. ومع ذلك، وفي خضم هذا الازدهار المذهل، بإمكان المرء أن يلاحظ أعراضا واضحة بما يكفي تشير إلى قدوم وشيك للأزمة الصناعية. على الرغم من كاليفورنيا (8)وأستراليا وعلى الرغم من الهجرة الجماعية غير المسبوقة، رغم كل ذلك سيكون محتما، وبصرف النظر عن أي طارئ ممكن ، أن توسع الأسواق سيجعل هذه الأخيرة عاجزة عن مسايرة مستويات نمو التصنيع الإنجليزي، وهذا الخلل سوف ينتج أزمة جديدة بنفس الضرورة التي كانت عليها في الماضي.
إلا أنه ، وعلاوة على ذلك، إذا ما تم إغلاق مفاجئ لإحدى منافذ البيع الكبيرة ، فإن الأزمة سوف تتسارع حتما،وبالتالي، وبالنظر إلى ماهي عليه الأمور اليوم، فإنه من المنتظر أن يكون للانتفاضة الصينية تحديدا أثرا في إنجلترا؛ لقد كانت الحاجة إلى فتح أسواق جديدة أو توسيع القديمة منها، أحد الأسباب الرئيسية لتخفيض الرسوم الجمركية على الشاي (9) لأنه من المتوقع أن يترافق ارتفاع قوي في استيراد هذه المادة مع ارتفاع أقوى في تصدير المنتجات الصناعية نحو الصين. وإذ لم تتجاوز قيمة صادرات المملكة المتحدة السنوية إلى الصين في عام 1834، 600 ألف جنيه إسترليني ، وذلك قبل إلغاء الدولة للاحتكار التجاري لشركة الهند الشرقية، فإنه في عام 1836، وصلت بالفعل إلى 1.336.388 جنيهًا إسترلينيًا، ثم ارتفعت في عام 1852 إلى حوالي 3.000.000 جنيه إسترليني. وفي حين وصلت كمية الشاي المستورد من الصين في عام 1793 بالكاد إلى (10)16.167.330 سيتجاوز آخر محصول للشاي في الصين 2.000.000 جنيه ، في أقل تقدير، زيادة على العام السنة الماضية ، وذلك طبقا لما تضمنته اللوائح الخاصة بالتصدير بشنغهاي.
ويمكن تفسير هذا الفائض باثنين من الأسباب؛ فمن ناحية، حالة الإحباط الشديدة التي كان عليها السوق في نهاية عام 1851، في تزامن مع عرض فائض كبير من البضائع غير المباعة للتصدير بخصوص العام 1852. ومن ناحية أخرى وصول الأخبار إلى الصين حول التغيرات الطارئة على التعريفات الجمركية البريطانية المطبقة على الشاي ما عجل بتدفق كل ما كان متاحا منه لسوق متعطشة لاستيعابه وبزيادة ملحوظة في الأسعار.مع أن الأمور ستختلف تماما فيما يخص المحصول القادم منه ، وهذا ما تضمنته القصاصات التالية من المراسلات الخاصة الواردة من إحدى كبريات شركات الشاي اللندنية :>.
>.
>.
وفي ظل هذه الظروف، فإن توفير السبل لضمان حصاد الشاي لن يناط بالأسراب الإنجليزية أو الأمريكية أوالفرنسية المتمركزة في بحار الصين، بل إن من شأن أي تدخل منها سيزيد من تعقيد الوضع ويؤدي إلى إنهاء كل علاقة تجارية بين المناطق المنتجة للشاي في الداخل والموانئ البحرية المصدرة له. من هنا يمكننا أن نتوقع ارتفاع أثمنة المحاصيل الحالية، خاصة وأن المضاربة قد بدأت بالفعل في لندن،وبالتالي فإن حدوث عجز كبير فيما يتعلق بالمحصول القادم يبقى أمرا مؤكدا.
كما أنه مع الاستعداد - مثل كل الناس في أوقات
التشنجات الثورية - لبيع كل المنتجات الضخمة المتوفرة لديهم للأجانب على عجل سيبدأ الصينيون في الاكتناز - كما هي عادة الشرقين - في انتظار بفارغ الصبر، الاضطرابات الكبرى، ولا يقبلون إلا النقود التي تثبت صحتها كمقابل لما يعرضونه للبيع من مادتي الشاي والحرير ، ولهذا وجب على إنجلترا أن تتوقع ارتفاعا في الأسعار في أحد أهم موادها الاستهلاكية ، إضافة إلى تسرب المعادن النفيسة، وانخفاض شديد في السوق ذات الأهمية القصوى لمنتجاتها المتعلقة بالقطن والصوف.
وقد اضطرت مجلة الإيكونوميست نفسها، رغم كونها معروفة بتفاؤلها الدائم ومستعدة لطرد كل ما يهدد أرواح مجتمع التجارة ، للاعتراف بقولها:
>. وكرد فعل ، تتقلص سوق السلع المصنعة ، وكل ارتفاع في أسعار المنتجات ذات الضرورة القصوى يتوازى ، في الخارج كما في الداخل ، مع انخفاض في الطلب على السلع المصنعة. وفي كل أرجاء بريطانيا العظمى يسجل بأسف عجز في مختلف المحاصيل. وفي هذا الصدد كتبت مجلة ليكونوميست : << في جنوب انجلترا، ليس فقط العديد من الأراضي ستبقى بوراً إلى أن يفوت الأوان على زراعتها
، ولكن أيضا ، لا يزال جزء كبير من الأراضي تشهد تعفن المحصول عن آخره، أو أنها في حالة من التدهور بحيث لم تعد صالحة لزراعة الحبوب. >> وفي الأراضي الرطبة أو الفقيرة المخصصة للقمح، كل شيء يشير إلى أن الحصاد سيكون سيئًا؛<< لقد فات الأوان بالفعل لزراعة شمندر العلف، ومع ذلك، زرعنا القليل جدا منه ، هذا ، في حين يمر وقت تحضير الأرض لزراعة اللفت سريعا ومن دون أي تحضير مناسب لمثل هذا المنتج المهم. أما زراعة الشوفان فقد تأثرت بشدة من الأمطار والثلوج. وفي الموازاة مع ندرة الشوفان المبكر، فإن الشوفان المتأخر نادرا ما يعطي محاصيل وفيرة. وفي مناطق كثيرة ، سجلت تربية المواشي خسائر ملموسة، كما سجلت أسعار المواد الغذائية ،عدا الحبوب، ارتفاعا تراوح بين 20 و30 في المائة بل وصل أحيانا إلى 50 في المائة مقارنة مع السنة الفارطة.
وفي عموم القارة، ارتفعت أسعار الحبوب بنسب أكبر مما كانت عليه سابقا في انجلترا. أما في بلجيكا وهولندا فقد ارتفع ثمن الجودار بنسبة مائة في المائة مع اقتراب أثمنة كل من القمح ومختلف أنواع الحبوب الأخرى من هذه النسبة . ففي ظل هذه الشروط وبالنظر إلى أن الصناعة البريطانية قد أوشكت على إنهاء دورتها الاقتصادية العادية، بإمكان المرء أن يتنبأ على وجه اليقين بأن الثورة الصينية ستوقد شرارة في برميل البارود المثقل بالنظام الصناعي الحالي ما سيتسبب في انفجار الأزمة العامة التي اكتمل نضجها منذ أمد بعيد .
وبعد التمكن من انجلترا،(11) سيتبع ذلك، بعد وقت قصير،ثورات سياسية داخل القارة.
وسيمثل ذلك، في الحقيقة ، مشهدا غريبا، حيث الصين تصدرالفوضى للعالم الغربي ، في الوقت ذاته الذي تتنافس فيه وبحماسة القوى الغربية بمعية الأسطول الحربي البريطاني والفرنسي والأمريكي لإرساء النظام في شنغهاي، نانجينغ ، ومدخل القناة الكبرى (12). وبما أن هذه القوى هي التي أصبحت تشرف على تنظيم المرور وما يستدعيه ذلك من دعم لسلالة المانشو المتهالكة ، فهل هذا يعني ، إذن، أنهم نسوا أن الاكزينوفوبيا وإبعاد الأجانب عن الإمبراطورية - الذي اعتبر في السابق نتيجة بسيطة للوضع الجغرافي والإثنوغرافي للصين - أصبحت مبدأ سياسيا وذلك منذ غزو تتارالمانشو للبلاد على وجه التحديد؟.(13).ومما لا شك فيه أن الخلافات العنيفة بين الأمم الأوروبية المتنافسة شكلت دفعة قوية لهذه السياسة الانعزالية ، التي اعتمدها المانشو في السنوات الأخيرة من القرن السابع عشر. وقد كان مما ساهم في ذلك، وبنفس القدرعلى الأقل،أن السلالة الجديدة كانت تخشى أن يقوم الأجانب بتحفيز الاستياء السائد بين شرائح عريضة من السكان الصينيين خلال نصف القرن الأول من سيطرة التتار. ولذلك مُنع الأجانب من أي اتصال مع الصينيين، إلا عن طريق مدينة " كانتون" التي تقع على مسافة بعيدة من بكين ومن المناطق المنتجة للشاي، مع فرض قيود على تجارتهم مع تجار"هونغ"(14) الذين منحتهم الحكومة امتياز التجارة مع الخارج. ليتم هكذا استبعاد بقية الرعايا من أي اتصال مع الدخلاء المثيرين للريبة.
وفي كل الأحوال ، فإن التدخل الحكومي الغربي في هذا السياق المحدد سيجعل الثورة،أكثرعنفاً، ويحكم تضييق الخناق على التجارة مع الخارج ،لامحالة. لذا،ظلت إدارة الجمارك في شنغهاي خارج السيطرة الصينية حتى عام 1943.
وفي الوقت نفسه، من الملائم الإشارة إلى أن الحكومة البريطانية تستمد في الهند سُبع دخلها من بيع الأفيون للصينيين، بينما جزء كبيرة من الطلب الهندي على السلع المصنعة البريطانية مرتبط بإنتاج هذه المادة في الهند.
كما يظل احتمال تخلي الصينيين عن استعمال الأفيون ضعيفا مثل ما لو تصورنا الألمان مثلا وهم يمتنعون عن تدخين تبغهم الخاص بهم.ولكن بما أن الإمبراطور الجديد يبدومؤيدا لزراعة الخشخاش وتحضيرالأفيون في الصين نفسها (15)، فإنه من الواضح أن ذلك سيشكل ضربة قاضية لكل من زراعة الأفيون بالهند، لمداخيل الدولة الهندية وللموارد التجارية للهندستان.
وحتى لو لم تظهر آثارذلك فوراعلى المصالح المعنية، فإن هذه الضربة ستؤدي مع ذلك إلى ترك كل آثارها على المدى الطويل، وستساهم في تفاقم الأزمة المالية العامة وإطالة أمدها.
ومنذ بداية القرن الثامن عشر ، لم تشهد أوروبا أية ثورة جدية لم يمهد لها بأزمة تجارية ومالية. وينطبق هذا على ثورة 1789بقدرانطباقه على ثورة 1848.
صحيح أن هناك أعراضا للصراعات تزداد خطورة يوما بعد يوم بين السلطات في مواجهة مواطنيها، الدولة في مواجهة المجتمع، الطبقات المختلفة في مواجهة بعضها البعض؛ والأكثر من ذلك، الصراعات بين القوى الموجودة على الساحة والتي أصبحت تقترب اليوم وأكثر من أي وقت مضى من الوصول إلى النقطة التي تستوجب إشهار السيوف واللجوء إلى عامل القوة كخياروحيد متبقي لحسم الصراع القائم. أما في العواصم الاوروبية فكل يوم يجلب معه برقيات محملة بأخبار عن صراع عام، سرعان ما تنفيه برقيات اليوم الموالي كاشفة عن ضمانات لحلول السلام لثمانية أو عشرة أيام. ومهما يكن ، يمكننا أن نكون متيقنين أنه مهما بلغت حدة الصراع بين القوى الأوروبية، ومهما بدت المخاطر المحدقة بالأفق الدبلوماسي وأيًا كان الإجراء الذي قد يحاوله هذا الجزء الديناميكي أو ذاك لأمة معينة، فإن غضب الأمراء كما الغضب الشعبي قد أعمته نسائم الرخاء.
ثمة احتمال ضعيف في كون الحروب أو الثورات تضع أوروبا في مواجهة بعضها البعض، ما لم يكن ذلك ناجم عن أزمة عامة ،تجارية وصناعية والتي ينبغي أن تعطي إشارتها - كما هو الحال دائمًا - بواسطة إنجلترا، ممثل الصناعة الأوروبية في السوق العالمية.
ومع التوسع المذهل للمصانع في إنجلترا، و التفكك الكلي للأحزاب الرسمية بها(16) ، ومع تحول الآلة الهائلة للدولة الفرنسية إلى وكالة واحدة شاسعة للاحتيال على الأموال العامة والمضاربة. وأمام وضعية الإفلاس التي تعانيها النمسا وكل هذه المظالم المتراكمة في كل مكان التي تصرخ مطالبة بالانتقام للشعب، مع المصالح المتضاربة داخل القوى الرجعية نفسها ومع أحلام الغزو الروسية التي تظهر مرة أخرى في وضح النهار،لم تعد ثمة حاجة للتأكيد على العواقب السياسية التي قد تترتب على ذلك في أيامنا هذه.

***********************************************
(1) - إشارة إلى هيغل.
(2) - هنا يتنبأ ماركس بحرب القرم التي أعلنتها فرنسا وإنجلترا ضد روسيا في مارس 1854. وكان هذا الصراع في طور التشكل بالفعل في ظل التوتر الروسي التركي الذي ألمح إليه ماركس في وقت مبكر من عام 1850. في الجريدة الرينانية الجديدة Revue de la Nouvelle Gazette Rhénane (انظر طبعة Bittel، ص 117).
سوف يطور ماركس خلال حرب القرم، الفكرة التي يعبر عنها هنا مقدما، أي أن أوروبا الرسمية لم تعد قادرة على العودة إلى ديارها بسب انغماسها في مهمات وحروب رجعية وعقيمة: "منذ أن كانت ثمة حروب، لم يتم إهدار شجاعة أكثر إبهارا ، من أجل نتائج بخسة كما حدث في حملة القرم هذه. لم يحصل أن تمت التضحية بهذه الحشود الكبيرة من الجنود ذوي الكفاءة العالية ، وفي وقت وجيز، للحصول على مثل هذه النتائج المشكوك فيها.> راجع ماركس-إنجلز. الكتابات العسكرية، ص. 319.
(3) - يحلل ماركس عواقب تجارة الأفيون المفروضة على الصين في مقال بعنوان : التجارة أم الأفيون؟ (راجع ص 297 وما يليها). في عام 1858، تم جلب الأفيون لشرق الصين بشكل رئيسي بواسطة السفن البريطانية والأمريكية وكان يمثل ثلث إجمالي القيم المستوردة إلى هذا البلد . هذه السلعة الرأسمالية التي انتشرت لأول مرة في البلدان الملونة، تعود بشكل طبيعي اليوم إلى مهد الرأسمالية البيضاء و يشهد على اهتزاز الحضارة البرجوازية المتجمدة في داخلها
الهياكل الاجتماعية الشمولية التي عفا عليها الزمن.
(4) - في عام 1430، أسس المانشو إمبراطورية صغيرة شرق "موكدين" على الحدود الصينية الكورية. وقاموا تدريجياً بتوسيع نطاقها إلى فروع المانشو الأخرى ثم وقعوا تحت السيطرة المنغولية والصينية والكورية، واستقروا أخيرًا في جنوب منشوريا الصينية، حيث توج نورهاتشي إمبراطورا، وأنشأ مقر إقامته ب "موكدين". وواصل خليفته فتوحاته. وفي عام 1635، تم الاعتراف به من قبل المغول وأخضع كوريا في عام 1637. وفي عام 1636، حصل على لقب الأسرة الحاكمة تسين. ثم هاجم ابنه الصين حيث أسس هيمنته عام 1644. وقد ساعد في ذلك احتدام الخلافات الداخلية والتشتت شبه الإقطاعي و السخط العام الكامن وسط الفلاحين.
(5)- تم إنشاء شركة الهند الشرقية بموجب خطاب امتياز
ملكي في 31 ديسمبر 1600. فأسست مراكز تجارية دائمة في سورات،بومباي ومدراس وكلكتا. وفي عام 1661، منحها تشارلز الأول حق الولاية القضائية، ومنح جيمس الثاني سلطات عسكرية وحق شن الحرب بنفسها في الهند الشرقية. وفي عام 1686، حصلت على الحق في استعمال القوات العسكرية وسك الأموال. وفي عام 1715، تم تكليفها بمسؤولية التجارة مع الصين. وفي عام 1784، أصبحت تحت سيطرة الدولة الإنجليزية التي أنشأت وزارة خاصة بالهند. انتهى الاحتكار التجاري للشركة في 22 أبريل 1834. وعشية الانتفاضة الكبرى في الهند في الفترة 1857-1858. تولى التاج البريطاني السلطة التي كانت موكولة لها بنفسه، وتم حل الشركة.
في مقالته في العدد السابع من عام 1853 (شركة الهند الشرقية، تاريخها وعملها، في نيويورك تريبيون)، يصف ماركس العملية الكلاسيكية للتوسع التجاري في المستعمرات بفضل دعم الدولة في المرحلة الأولى، وبفضل حرية حركة البضائع ورؤوس الأموال بعد ذلك: <منذ عام 1813، لم تعد شركة الهند الشرقية قادرة على مقاومة ضغوط التجارة غير الاحتكارية. أصبحت التجارة مع الهند مفتوحة أمام الشركات الخاصة في ظل ظروف معينة واقتصر الاحتكار على التجارة مع الصين . بعد تجديد الامتياز في عام 1833، سقطت آخر القيود على التجارة الخاصة في عام 1834، ومن ثم حظر جميع أنواع التجارة على الشركة.
(6) إشارة إلى الولايات المتحدة، حيث ظهر هذا المقال في صحيفة نيويورك تريبيون.
(7)- يشير ماركس إلى حرب الأفيون الأولى (1839-1840) التي حصلت إنجلترا بفضلها على موطئ قدم في الصين. لعبت تجارة الأفيون دورًا
أساسيا في هذا الاختراق. فمنذ بداية القرن، شجعت إنجلترا التجارة اللا قانونية للأفيون المنتج في الهند، من أجل تعويض العجز في ميزانها التجاري مع الصين.
دافعت الحكومة الصينية بكل ما أوتيت من قوة عن السكان ضد هذا السم الأجنبي: ففي عام 1859، عمدت إلى مصادرة كل مخزون الأفيون على متن السفن الأجنبية بهونج كونج وقامت بإحراقه، فكانت هذه هي الذريعة لشن حرب الأفيون الأولى والتي انتهت بـهزيمة الصينيين.
(8) - يشير ماركس إلى اكتشاف رواسب الذهب الغنية في كاليفورنيا (1848) وأستراليا (1851). أعطى فتح هاتين المنطقتين للصناعة والتجارة دفعة هائلة للإنتاج العالمي. الصناعة والتجارة في العالم الرأسمالي بأكمله، وكان ماركس يدرك تمامًا أن هذه الاكتشافات، وكذلك هجرة السكان الأوروبيين نحو هذه البلدان والمستعمرات بشكل عام، كانت بمثابة.صمام الأمان للنظام الرأسمالي خلال أزماته الكبرى. في رسالة إلى إنجلز بتاريخ 21-8-1852، كتب ماركس: <كاليفورنيا وأستراليا حالتان لم نتمكن من التنبؤ بهما في البيان، وهما خلق أسواق كبيرة جديدة من لا شيء. يجب أن نأخذ هذا في الاعتبار. >.
(9)- نصت ميزانية جلادستون لعام 1853 على خفض الضرائب على الشاي إلى النصف . وقد امتد هذا الانخفاض على مدى ثلاث سنوات.
(10)- الجنيه الإنجليزي الواحد يساوي 454 جرامًا.
(11) - دفعت بالأزمة العامة إلى الاندلاع بشكل فعلي في 1857، عشر سنوات بعد سابقتها ، (والتي تجد سببها جزئياً في المبالغة في التطلعات التوسعية إلى اكتساح السوق الصينية من طرف المنتجات المصنعة من انجلترا وأوروبا )، وجد فيها ماركس مادة وفيرة لكتابه "رأس المال" في جزئه الثالث حيث عالج بإسهاب تجارة إنجلترا مع الشرق الأقصى . غير أن الأعراض الأولى للأزمة العامة لسنة 1857، كانت قد ظهرت قبل ذلك سنة 1852 وأصبح الوضع منذرا بالخطر منذ 1855. راجع مقال ماركس بتاريخ 24/11/1855 في صحيفة نيويورك تريبيون حيث ذكر بالفعل آثار الأزمة على السياسة الداخلية في إنجلترا.
(12)- في 9 يونيو، كتبت صحيفة التايمز أن السفن البريطانية والأمريكية والفرنسية وافقت على الطلب المستعجل الذي تقدمت به السلطات الإمبراطورية لحماية المراكز الرئيسية للتجارة الصينية ضد جيش المتمردين. وسارعت إلى تنفيذ العمليات العسكرية الثلاثية على الفور. وفي نهاية عام 1853، حصل الإنجليزعلى وضع إدارة الجمارك الصينية في شنغهاي تحت مراقبتهم ، وكانت هذه نقطة البداية للاستحواذ من قبل الإنجليز والأوروبيين على كامل جهاز تحصيل الجمارك الصينية على البضائع القادمة من الخارج ، وبذلك ظلت إدارة الجمارك في شنغهاي خارج السيطرة الصينية حتى عام 1943.
(13)- في بداية القرن السابع عشر، بدأت قبائل المانشو الموحدة تهدد الصين (كانوا يُسمون، على غرار الشعوب التركية المنغولية، بالتتار، على إسم قبيلة مغولية استوطنت في عهد جنكيز خان، شمال شرق منغوليا ومنشوريا.) أقام الغزاة المانشو في الصين سيطرة أسرة تشينغ (1644-1912). عارض الصينيون هذه السيطرة ونظموا مقاومة قوية للغزاة، لكن الأزمة العامة وسهلت مهمة الأخيرين .
(14)- في عام 1720، أسس التجار الصينيون من كانتون شركة تجارية تحت اسم كو هونغ، من أجل احتكار الأسعار. وفي عام 1760 حصلت على خطاب امتياز، ولكن تم حلها في عام 1771. وفي عام 1782 منحت الحكومة مجموعة محددة من التجار، خطاب امتياز يمنحهم السيطرة على تجارة التصدير والاستيراد. تمت تصفية كو هونغ بموجب شروط معاهدة نانكينغ (1842) بحجة إغلاق الأسواق المحلية أمام الأجانب ورفض تهريب الأفيون الإنجليزي.
(15)- في الواقع، كما يظهر من المقالات اللاحقة "عارض الإمبراطور بقوة تهريب الأفيون ولم يحدث ذلك إلا بعد حرب الأفيون الثانية
عام 1859 عندما أيد إمكانية تقنين تجارة وإنتاج الأفيون وهذه الحقيقة ساهمت بدورها في تأخير الأزمة في إنجلترا.
(16) سوف يتوسع ماركس في مقالات لاحقة حول تفكك الأحزاب الإنجليزية الرسمية عقب الحروب الاستعمارية، والتي سوف تؤدي إلى فترة
"ديكتاتورية بالمرستون الطويلة" بإنكلترا. انظر طبعة ليكوست، السياسة، 1، بالمرستون، 6، سقوط حكومة التحالف. وزارة بالمرستون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس


.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب




.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا


.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في




.. الشرطة تمنع متظاهرين من الوصول إلى تقسيم في تركيا.. ما القصة