الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الثقة في المجتمعات العربية

صالح سليمان عبدالعظيم

2006 / 11 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


أزمة الثقة في المجتمعات العربية

يرى فرانسيس فوكوياما صاحب مقولة "نهاية التاريخ" في كتابه "الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار" أن المجتمعات الإنسانية لا تتأسس فقط على رأس المال المادي مثل الأرض والمصانع والمعادن والآلات، لكنها تتأسس أيضاً على رأس المال الاجتماعي القائم على العلاقات بين الأفراد، وقدراتهم على التواصل فيما بينهم. وينهل رأس المال الاجتماعي من مخزون القيم والأعراف المشتركة بين الأفراد، ذلك المخزون الذي يروض من نزعات الأفراد، ويوجه نزعاتهم الفردية نحو المصلحة الجمعية. كما يرتبط مخزون القيم والأعراف بقدرة الأفراد فيما بينهم على التواصل الاجتماعي العفوي والمنظم، وخلق روابط اجتماعية جديدة وقوية، تعبر عن نفسها في بناء وتأسيس مؤسسات المجتمع المدني المختلفة.

ومن قلب هذه القيم والأعراف المشتركة بين الأفراد تنشأ الثقة المتبادلة بينهم على كافة مستويات ومظاهر أنشطة الحياة المختلفة بدءاً بممارسات الحياة اليومية الفردية وحتى الممارسات السياسية على مستوى الدولة. ويمكن القول أنه كلما زاد مخزون القيم والأعراف زاد رأس المال الاجتماعي، الأمر الذي يعزز ويدعم من الثقة المتبادلة بين الأفراد، والثقة التي يمنحونها لمؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية، مما يؤدي في النهاية إلى تحقيق التطور والازدهار الاقتصادي. ورغم أن نموذج فوكوياما مرتبط بالأساس بالوضعية الأمريكية المعاصرة، في محاولة منه للوقوف على عناصر تراجع المشروع الرأسمالي الأمريكي مقارنة باليابان وألمانيا، فإنه يمكن تطبيقه على حال المنطقة العربية بشكلٍ عام وعلى الحالة اللبنانية بشكلٍ خاص.

لايمكن لأي مراقب أن يتجاهل حالة ضعف الثقة وترديها على مستوى العالم العربي، على مستوى العلاقات اليومية بين الأفراد، وعلى مستوى العلاقة بينهم وبين المؤسسات المجتمعية الرسمية منها والأهلية، وأخيراً على مستوى العلاقة بينهم وبين السلطات السياسية. فالأفراد لا يثقون في بعضهم البعض على مستوى الممارسات اليومية في البيع والشراء، حيث ترتكز هذه المعاملات إلى انعدام ثقة مسبق قائم على الريبة والشك. فالمشتري يستشعر أن البائع غير أمين، كما أن البائع يشعر أن المشتري يتلاعب به. ويمكن أن نعمم ذلك على مجمل علاقاتنا الاجتماعية الهرمية مثل العلاقة بين التلميذ والمدرس، الطالب والأستاذ الجامعي، المرؤوس ورئيسه، المريض والطبيب، العامل ورب العمل...الخ ولا يقف الأمر فقط عند مستوى العلاقات الهرمية، بل يتعداها إلى العلاقات القائمة على الندية والمساواة مثلما هو الحال بين الرجل والمرأة في العمل، وبين الزوج والزوجة في المنزل، وبين زملاء العمل الواحد.

ينسحب الأمر من هذه العلاقات المحدودة إلى مستواها الأكبر على مستوى الجماعات حيث يفقد الأفراد ثقتهم التامة في الانضمام للمؤسسات والنقابات الرسمية من ناحية، ومنظمات المجتمع المدني من ناحية أخرى، ناهيك عن محاولة تأسيس الجديد منها. ويكشف ضعف حالة الثقة هنا عن حالة التردي التي أصابت الكثير من مؤسسات المجتمع المدني الموجودة بالفعل، فأغلبها إما أصابه الشلل التام، وإما يخدم أهداف أقرب للعائلية الضيقة منه إلى الأهداف المجتمعية العامة. كما تبرز أيضاً مسألة العزوف عن العمل الجمعي التطوعي، انطلاقاً من ضعف الثقة في هذه المؤسسات المدنية من جانب، وشبهة ارتباطها بالعمل السياسي من جانب آخر، وهو أمر له حساسيته العالية في عالمنا العربي.
يبرز ضعف الثقة أقصى حالاته في ممارسات العمل السياسي، فمعظم الأفراد لا يثقون في تنظيماتهم السياسية الرسمية من جانب، كما لا يثقون في مؤسسات العمل السياسية المعارضة من جانب آخر. فالأفراد لا يثقون في حكوماتهم، وتصريحات المسؤوليين الرسميين، بل يصل الحد عند السواد الأعظم منهم إلى قراءة هذه التصريحات بشكل معكوس. فحينما يُصرح بعدم زيادة الأسعار، يقرؤها الأفراد بأنها تعني مباشرةً زيادة الأسعار. وحينما يتم الحديث عن الديمقراطية وتوسيع قاعدة الممارسة الشعبية، يقرؤها الأفراد على أنها المزيد من الديكتاتورية، وقمع المشاركة السياسية، وحينما تزداد مقولات الوحدة والتماسك العربي، يدرك الأفراد أن هناك المزيد من الانقسامات والتشرذم.

في ظل هذا التدهور المستمر في درجة الثقة، لا يجد الأفراد سوى المزيد من الارتباط بعوالمهم الضيقة، مثل الأسرة الصغيرة، أو العائلة الممتدة، أو القبيلة، أو الطائفة، أو الانتماءات العرقية والدينية الأخرى. فهناك علاقة طردية بين ضعف درجات الثقة المتوافرة وتزايد الانتماءات الضيقة. فمن مظاهر العمل الجمعي العربي المعاصر اقتصاره على تلك الانتماءات الضيقة التي تخدم أبناء الطائفة الواحدة أو أبناء الديانة الواحدة على ما عداهم من غيرهم من أبناء الوطن الواحد، وربما أبناء المنطقة الجغرافية الواحدة مثل الحي الواحد أو حتى الشارع الواحد.

ولعل اغتيال وزير الصناعة اللبناني بيير الجميل حديثاً ما يمنحنا مثالاً واضحاً عما آل إليه حال المجتمع اللبناني الآن. فمنذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان، ورغم المحاولات المتتالية لإيجاد صيغة مصالحة حقيقية بين فرقاء الأمس، مر المجتمع اللبناني بالعديد من الأحداث الخطيرة التي يمكن أن تعيد الكرة مرة أخرى لحرب أهلية واسعة النطاق رغم التصريحات العديدة عن تماسك الصف اللبناني، ووعى اللبنانيين بما يحاك ضدهم. ورغم نوايا الكثيرين الطيبة، فإن انعدام الثقة بين الأفراد بعضهم البعض على مستوى الانتماءات المختلفة، إلى الحد الذي فرض وعمق بعض التقسيمات الجغرافية العرقية والطائفية والدينية على لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، ربما كان هو السبب الرئيسي فيما آل إليه الحال، وانتهى باغتيال وزير الصناعة. فالمعارضة اللبنانية اتهمت السلطة الرسمية، كما أن السلطة الرسمية قد اتهمت المعارضة، وما بين هذا وذاك، تشتعل الريبة وتزداد الشكوك بين المواطنين اللبنانيين، وتزداد حدة انعدام الثقة فيما بينهم.

وفي هذا السياق، يجب ألا تخدعنا هذه الوحدة بين الطوائف اللبنانية المختلفة؛ فتحت السطح نجد أن المسألة أخطر من ذلك بكثير، حيث لم تنجح سنوات الحرب الأهلية الطويلة في صهر المواطنين في وحدة وطنية واحدة تستمد استمراريتها من الثقة المتبادلة التي تتجاوز الانتماءات العائلية والطائفية والدينية والعرقية الضيقة. وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى ضعف سلطة الدولة ذاتها، والطعن في شرعيتها. فأبناء كل طائفة يشعرون أنهم دولة في حد ذاتهم، سواء رضيت الدولة الرسمية أم أبت. وهو نفس الحال بنسب متفاوتة في باقي الدول العربية، بما فيها تلك التي لا تعاني من حدة الانقسامات الطائفية الحادة. كما أن الدولة ذاتها لا تمثل كل الأفراد بقدر ما تعبر عن مصالح فئوية ضيقة، ربما كانت في أحوال كثيرة مصالح القائمين على شؤونها.

يمر العالم العربي اليوم بأزمة ثقة حادة على مستوى مجمل العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ومما يعمق من حدة هذه الأزمة، أنها تشتمل على كافة العلاقات والمؤسسات المختلفة في المجتمعات العربية، كما أنها تشمل الأفراد من ناحية، والحكومات العربية من ناحية أخرى. وبدون عودة هذه الثقة لتشمل كافة أرجاء حياتنا، وبشكلٍ خاص ثقتنا المتبادلة في بعضنا البعض، وثقتنا في حكوماتنا، وثقة حكوماتنا فينا، يصبح أي حديث عن التطور أو التنمية أو الديمقراطية أو حتى الشعارات الوطنية الصاخبة مجرد كلام فارغ يعمق من ضعف الثقة فيما بيننا، ويؤدي إلى المزيد من التخلف على كافة المستويات المجتمعية.

د. صالح سليمان عبد العظيم
كاتب مصري
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معدن اليورانيوم يتفوق على الجميع


.. حل مجلس الحرب.. لماذا قرر نتنياهو فض التوافق وما التداعيات؟




.. انحسار التصعيد نسبيّاً على الجبهة اللبنانية.. في انتظار هوكش


.. مع استمرار مناسك الحج.. أين تذهب الجمرات التي يرميها الحجاج؟




.. قراءة عسكرية.. ما مدى تأثير حل مجلس الحرب الإسرائيلي على الم