الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما الذي يعنيه أدب المذكرات؟

قيس كاظم الجنابي

2024 / 2 / 13
الادب والفن


-1-
في البدء لا بدّ من التمييز بين أدب السيرة الذاتية وأدب المذكرات والذكريات واليوميات والاعترافات؛ فكلمة (مذكرة) مشتقة من الفعل(ذكر) ، بمعنى وجود (تذكرة)،أي نص مكتوب من قبل شخص يتضمن موضوعاً أدبياً أو تاريخياً، كتب بلغة أدبية ،واذا كتب بلغة تاريخية او سياسية، فهو يعد المذكرات التاريخية ، كمذكرا الساسة ورجال الفكر ممن لهم أدوارٌ تاريخية مهمة، كما فعل رجال العهد الملكي ، ثم العهد الجمهوري، ثم النظام السابق.
أما اذا كان النص، هو سيرة ذاتية فهو موضوع خاص مستقل معروف كتب به الكثيرون،وفي الادبيات الدينية لدى المسيحيين يقوم المؤمن كجزء من تطهيره لنفسه وسيرته للتخلص من شعوره العالي بالذني من خطاياه وأخطائه، يقوم بالاعتراف أمام تطهير ذاته ليحصل على النقاء والطمأنينة والأمان.
اذا كانت المادة المكتوبة،هي سرد واستذكار لما مضى من دون أية وثائق أو رسائل أو نصوص مدونة في زمن مضى خلال حياة الكاتب، فهي مجرد ذكريات،أو مجرد استذكارات، وهنا يحدث اللبس والخلط بين الذكريات والمذكرات،وحين كتبت كتابي( الزمن المسروق) عن ظروف اعتقالي لدى قوات الاحتلال الأمريكي، سجلت عنواناً ثانوياً تضمن كلمة ذكريات وليست مذكرات، مع اني اعتدت في كتابتها على الرسائل المتبادلة مع اسرتي وعلى وثائق وردود ومراسلات مع بعض معارفتي من المعتقلين وبعض الوثائق التي تخص قضيتي، كتب الدكتور فاضل عبود التميمي دراسة عنها في جريدة الصباح البغدادية( في 14/5/2023م)، ذكر فيها ان الاصوب ان أذكر كلمة(مذكرات) لأنها تعد من أدب المذكرات،وان كانت تحمل معها الكثير من التساؤلات والموضوعات التاريخية والسياسية التي تتعلق بالاحتلال الأمريكي للعراق، فهي تجمع بين المذكرات التاريخية والسياسية والأدبية.
يركز(فيليب لوجون) على الفنون القريبة من السيرة الذاتية، فيقول: ستكون السيرة الذاتية هي عمل يجمع في الوقت نفسه الشروط المشار اليها في كل صنف من هذه الأصناف.ولا تجمع الأنواع المشابهة للسيرة الذاتية لك الشروط .وهذه لائحة للشروط. وهذه لائحة الشروط غير المحققة حسب الأنواع:
- المذكرات.
- السيرة.
- الرواية السيرة الذاتية.
- اليوميات (الخاصة).
- الرسم الذاتي أو المقالة.
ومن البديهي ان مختلف الأصناف متفاوتة من حيث اجباريتها: اذ يمكن ان يتحقق الجزء الأكبر من بعض الشروط دون ان يتم ذلك كلياً يجب أن يكون النص حكياً قبل كل شيء.[ السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الادبي: فيليب لوجون، ترجمة عمر بن علي، المركز الثقافي العربي (بيروت- الدار البيضاء، 1994م)،ص 23]
مما يعني ان السيرة الذاتية واحدة من عدة أنواع تتصل بجنس أدبي،وجذورها التاريخية والوثائقية تتوفر في عدة أنواع؛فالمذكرات واليوميات والسيرة والصورة القلمية يمكن ان تلتقي مع كتابة المذكرات من الناحية الفنية واللغة الكتابية لتحقيق الهدف من الكتابة الذاتية، الا وهو الربط الفعلي بين الذات ومجموعة من الأصناف الكتابية التي توثق الاحداث القريبة من الانسان مثلما توثق النزعات الذاتية التي أصبحت تتحقق في الكتابات الروائية الحديثة غير المنضبطة، والتي تحقق الحضور الذاتي للكاتب او واحدة من شخصيات،ويمكن ان تسهم سير الأجيال والصراعات الفكرية في انجاز مثل هذا الصنف الادبي، والمرجع الثقافية المهم.
وكذلك يعد الشكل الروائي للسيرة التاريخية هروباً من الموضوع الرئيس في كتابة المذكرات، لوجود فرق كبير بين الجانب التاريخي والمتخيل ،لانه يشبع ملكة الخيال ويعيد ترتيب الأفكار والرؤى من غير الكشف عن الاسرار الخفية للإنسان حيث يأخذ هذا الشكل على عاتقه مهم تقليص عنصر الصدفة الذي لا يمكن تقليصه. فشخصية الرجل المصوّر هي التي يجب ان تكون الدليل الى دعوته الخاصة. أما سيرته فسوف تقدم البرهان الداخلي، النفسي، لى هذه الدعوة. ونتيجة لهذا فان الشخصية الروائية مبالغ دعوتها التاريخية بشكل غير مناسب؛ بينما يجري بشكل حتمي حذف الأسباب والعوامل الموضوعية للرسالة أو المهمة التاريخية".[ الرواية التاريخية: جورج لوكاتش، ترجمة صالح جواد الكاظم ،وزارة الثقافة والفنون( بغداد، 1978م)،ص 464].

-2-
يشير الدكتور محمد الباردي الى أن المذكرات هي أكبر الاجناس قرباً الى أسيرة الذاتية ،وكثيراً ما وشحت كتب السيرة الذاتية بعبارة"مذكرات" وبها تعقد مع المتلقي ميثاق قراءة ولكنه ميثاق زائف لأن الحد الفاصل بين السيرة الذاتية والمذكرات قائم.فالسيرة الذاتية ، على خلاف المذكرات تروي أحداثاً شخصية وتنأى عن سرد الاحداث العامة في حين تركز المذكرات عادة على تدوين الاحداث دون التعليق على الحياة الشخصية لكاتب المذكرات.[ عندما تتكلم الذات،السيرة الذاتية في الادب العربي: د. محمد الباردي، اتحاد الكتاب العرب(دمشق، 2005م)،ص9]
فصار لدينا عدداً من الفروع المنبثقة أو الموازية لأدب المذكرات، منها:
1- المذكرات.
2- الذكريات.
3- الاستذكارات.
4- اليوميات.
5- السيرة الذاتية.
6- السيرة الغيرية.
7- الاعترافات.
وربما تدخل بعض الأنواع في أكثر من ذلك. وكان أدب السيرة الذاتية في الادب العربي محدوداً،، فيكاد ان يكون كتاب(الاعتبار) لاسامة بن منقذ مع كتب أقل شيوعاً هو الغالب على ثقافتنا المعاصرة نستضر مادته ونوغل في مساربه اعتماداً على ما ورثناه من أدب الرحلات ،وهو فن /جنس يجمع بين الادب والجغرافية والاهتمامات بالامكنة والبلدانيات وما يشبه ذلك، وهو الذي وضع بصمته الواضحة على أدب السيرة الذاتية.
ولان التاريخ العربي بدأ مع السيرة النبوية المطهرة، وهي سيرة غيرية، مهدت لظهور التراجم التاريخية التي وصلت أوجها في كتاب محمد بن سعد ، كاتب الواقدي، (الطبقات الكبرى) فوصلت أوجهها عند ابن الاثير في كتاب(أسد الغابة)،على يد ابن حجر في تراجمه عن الصحابة في كتاب(الإصابة)،وكذلك وفيات الاعيان لابن خلكان والكتبي(فوات الوفيات) والصفدي في (الوافي بالوفيات) وغيرها ممن سار على هذا السياق، وفي ميدان السيرة ثمة سيرة لعمر بن الخطاب كتبها ابن عبد الحكم وسيرة لعمر بن عبد العزيز كتبها ابن الجوزي وسيرة لصلاح الدين كتبها ابن شداد،أما سيرة ابن خلدون فقد كتبها بنفسه بوصفها سيرة له بعنوان (التعريف بابن خلدون او رحلته غربا وشرق، تح محمد بن تاويت الطنجي، تقديم عبادة كحيلة (الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة ،ط2، 2006م).
ويمكن جمع الكثير من سير المبدعين المبثوثة في ثنايا مصنفاتهم المتعددة، وكذلك المصنفات التي تتنول حياة الشخصيات التاريخية قدحاً ومدحاً، فأمكن جمع جمع المعلومات المتيسرة عن سير غيرية وذاتية عن كثير من الادباء والمؤرخين، وتختلف سيرة الأشخاص التاريخية عن السيرة المعاصرة،فكل سيرة هي جزء لا تتجزأ عن التاريخ العربي الإسلامي،وبعد ظهور فن الرواية وتطويعه لكتابة السيرة الذاتية صارت الرواية واحدة من الأساليب الأكثر جمالاً لكتابة السيرة ، كما فعل محمد شكري في (الخبز الحافي)، ثم جرى تطويع القصيدة والشعر لذلك.
- ما يثير الكثير من الأسئلة سؤال مهم: هل المذكرات تعد جنساً أدبياً؟
في (مذكرات الجواهري) يشعر القارئ ان الكاتب – الشاعر الذي دوّن هذه المذكرات وهو يمتلك بعض الوثائق والصحف التي تثبت ما دوّنه وسجّله بصفة سيرة غير مقيدة به ذاتياً، بشكل خالص، ولكنه كتب سيرته بصفة مذكرات، لتداخل الجانب السياسي بالجانب الادبي لديه كشخصية مؤثرة في الصراع السياسي منذ نشاة الدولة العراقية حتى وفاته.ونظراً لطراوة هذا الجنس الكتابي ، فانه مازال هشاً ومطواعاً، يستجيب للمؤثرات،ولرغبته الكتاب من الجانبين الادبي والسياسي.
كُتب وما زال يُكتب لحد الآن الكثير من الأعمال التي تشبه الاستذكارات،وربما الذكريات المشفوعة بالنصوص الأدبية والحوادث التاريخية والإنجازات الأدبية المهمة، عن أحداث عصفت بالواقع العربي والعراقي، ولكن برؤية ذاتية، مثل (الروح الحية) لفاضل العزاوي ،و(الموجة الصاخبة) لسامي مهدي ،و(تهافت الستينيين) لفوزي كريم،و(بغداد السبعينات،الشعر والمقاهي والحانات) لهاشم شفيق،و(الكتابة والحياة) لعلي الشوك،وغالبهم من جيل الستينات؛فضلاً عن (مذكرات الجواهري)،و(هكذا مرت الأيام (مذكرات) لبلقيس شرارة، دا،و مذكرات عمر أكلته الحروف لنجيب عبد الرحمن المانع.. وغيرها.
كانت سيرة طه حسين والعقاد والمازني وغيرهم تشكل نموذجاً للكتابة السيرية تجمع بين الادب والسياسة؛ وهذا بحد ذاته تعبير عن المسافة الأكثر سعة في حركة ادب المذكرات،وكأنه يشير بطرف خفي الى ان هذا النوع الثقافي بصورة أصح، هو مطواع وقادر على ترويض الفنون والعلوم الأخرى للاستجابة الى فضاءاته المتنوعة ، ومن خلاله يمكن أن نستحضر الكثير من السير الغيرية ،ويرى البردي في كتابه(عندما تتكلم الذات) ان السيرة الذاتية هي التي لا يزال كاتبها"على قيد الحياة"، مع وجود نزعة "تاريخية لا خلو من موضوعية لان المواد التي يستعملها كاتب السيرة شأنها شان المواد التي يستعملها المؤرخ منفصلة عن الذات الكاتبة في حين يمنح كاتب السيرة الذاتية من ينبوعه الذاتي والشخصي المتمثل في ذكرياته الخاصة فتجيء الكتابة مغرقة في "الأنا" سابحة في الذات لا معيار موضوعيّاً للنظر في مصداقيتها وصحتها وذلك لاختلاف الغاية التي يسعى كلا الجنسين الادبيين الى تحقيقها".[ ص10/الباردي]
وعلى العموم فان السيرة الذاتية لا تعد من أدب المذكرات لانها تقوم على الاستذكار والسرد، من دون الاستعانة بالوثائق،وهي أقرب الى فن كتابة الرواية والنصوص السردية المفتوحة، ومن هنا نستطيع أن نُخرج أدب المذكرات من الفنون الإبداعية ،ونمنحه بعضاَ من المواصفات التاريخية ،أو التاريخ الذاتي الذي يمكن أن يعد من فروع التاريخ ، لأن العصر يسمح بذلك.
-3-
في كتاب رفعت السعيد (مجرد ذكريات) الصادر عام عن دار المدى بدشق عام 1999م، يوحي العنوان بان الكتاب ليس سيرة ذاتية ،وإنما هو ذكريات عن العمل السياسي ،أو ما دعاه الباردي بمحدودية الذاكرة[ ص14/الباردي] لانه مجرد سيرة لمناضل سياسي أصبح زعيماً من زعماء مصر،وفيه ثمة إشارة الى علاقة الواقع السياسي ، وكذلك كانت الحركة الأدبية في العراق، خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات، فانفتح أفق جديد هو كتابة سير تلك الأجيال وطبيعة الحركة الأدبية ؛ بينما تفرد الجواهري بكتابة مذكراته،بحيث تصبح المذكرات جزءاً من صنف أدبي واسع، هو المذكرات السياسية والأدبية، بحيث يتزاوج السياسي بالادبي ؛ مثلما يتزاوج ما هو أدبي بما هو سيري، من حيث السيرة الغيرية أو السيرة الذاتية.
فقد كانت مناكفات الجواهري السياسية ، خلال العهد الملكي وما بعده ذات طابع سياسي، من خلال عمله في الصحافة ومشاركته في الانتخابات البرلمانية ،لهذا تعد (مذكراته) وثيقة سياسية لقراءة الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي ،وطبيعة عمل المعارضة السياسية؛ فضلاً عن علاقاته الخاصة بجمهرة من السياسيين المحسوبين على البلاط الملكي، مثل (رستم حيدر) أحد المقربين من الملك والذي اغتيل بتحريض من نوري السعيد، بسبب الصراع السياسي بين نوري السعيد ومعارضيه، حيث أشار الجواهري الى "أن السنوات الثلاث المطلوبة هذه تعني ملازمتي البيتن او ان شئت فمقهى (عزاوي) ومقهى(حسن العجمي) شريطة ان لا يكون لي مكان في الدولة. أقول سنوات ثلاث وأنا أتذذكر بدقة انها كانت بحاجة وعوز الى شهور قلائل كي تكمل نفسها"[مذكراتي: الجواهري، 1/272].
كما كانت المقهى هي المكان المفضل لديه في لقاء الشاعر الكبير معروف الرصافي ، حيث كان يزوره في مجلسه الخاص بمقهى(عارف أغا) في شارع الحيدرخانة،ويحدثه "بأسوبه الرصين الهادئ ، غير المهتز،وبلهجة هي أقرب الى الفصحى".[مذكراتي: الجواهري، 1/239]
وهذه شهادة لها صلة بسيرة الرصافي وطبيعة مذكرات الجواهري وسلوكه ولغته وعلاقاته، مثلما كانت (مذكراته) صورة حيّة لعلاقته الشاعر بدوي الجبل في (المقهى العربي) بدمشق حيث رآه يقتحم عليه جلسته في هذا المقهى الذي كان يسمى (مقهى الصعاليك) وكان هذا صاحبه من أيام التدريس في الرستمية .. وهكذا دارت عجلة الحديث وتواصل الحديث[ مذكراتي، 1/416-417] وفي تلك المقهى كان الجواهري يلتقي اترابه من الشبب السوري، مثل سعيد الجزائري ونجيب الريس صاحب جريدة المساء.وعلى العموم فان مذكرات وذكريات الادباء تعد من الوثائق والصور القلمية التي تتحدث عن صراع الأجيال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل.. محطات فى حياة -أمير شعراء الرفض-


.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي




.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني


.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم




.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع