الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمظهرات الموت بصوره القاتمة في قصيدة - تقترب منٌي الساعة..الآن- للشاعر التونسي القدير جلال باباي

محمد المحسن
كاتب

2024 / 2 / 15
الادب والفن


"أنا لا أُحبُّكَ يا موتُ/ لكنّني لا أخافُكْ/ وأدركُ أنَّ سريرَكَ جسمي/ وروحي لحافُكْ/ وأدركُ أنّي تضيقُ عليَّ ضفافُكْ.."(الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم)

الشعراء لا يموتون!


تعد موضوعة الموت إحدى موضوعات الأدب العربي عامة،والشعر خاصة،إذ إن مفهوم
الموت أخذ بالإتساع،وفقا للمفاهيم الجديدة التي تبناها المعاصرون،وأخذت التراكيب الشعرية
الجديدة تعج بهذه المفاهيم ،فتحمل أشكالا مختلفة للدلالة عليه،فالحديث عن الموت،يخرج
الإنسان من دائرة الواقع إلى دائرة الخيال،إذ تتفتح أمامه مدارك مختلفة توصله في النهاية إلى
وحدة العلاقة بين الحياة والموت.
قضية الموت في شعر الشاعر التونسي القدير جلال باباي محور من محاوره الأساسية،كما هي محور من محاور الوجود الإنساني والبشري،فإذا تأملنا نتاجه الشعري عبر بعض قصائده،لوجدنا هذا الحس كثير الإطلال علينا حتى في القصائد التي لا تتحدّث عن الموت أو التي تموج بإحساس الحياة.
ويعتبر جلال باباي من الشعراء المعاصرين الذين أولوا اهتماما لقضية الموت في جزء من أشعارهم لما تمثله من نقطة تحوّل دراماتيكية في مسار الإنسانية،ولم يكن حديثه عن الموت حديث الفيلسوف أو الزاهد،وإنما كان جناحا من أجنحة الشاعر المدرك لحقائق الأشياء وجوهرها.
وهنا أقول: إن الرغبة في الموت كحل،هي نزوع للخلاص من مأساة عميقة يعاني منها الإنسان في زمن موبوء ومفروش بالرحيل،كما أنها (الموت) نوع من الإيمان الذي يأمل في النهاية بداية جديدة،وخروجا من عالم الشرور والآثام إلى عالم الفضيلة الذي يتعجّل الرحيل إليه،والشاعر يرى أن الموت هو الوسيلة الوحيدة التي تنتشله من وباء الكون وأحيانا من وجع الجسد،لذلك كان يصرخ : تقترب منٌي الساعة الآن (عنوان قصيدة الشاعر جلال باباي )
ولكن..
الخروج إلى الشطآن الضوئية مسؤولية الإنسان الذي يدرك أن الموت ليس نهاية الحياة،بل هو بداية لها،خلود أبدي فيها،ولو كان الموت هو النهاية،هو الخاتمة التي ليس من بعدها هدف،لما كان هناك أي معنى للإقدام،للفداء،للتضحية،لتخطي المطبات،للعطاء الذي يبذل النفس رخيصة في سبيل استمرار الحياة،في سبيل أن تظل تلك الشعلة وضاءة وهاجة كقصائد جلال باباي التي طالما رقصنا على ايقاعها العذب رقصة-زوربا اليوناني-
ختاما أنا على يقين بأن الشاعر الكبير جلال باباي الذي ذاع صيته تونسيا وعربيا،مدرك في أعماقه أنه قادر على أن يصمد في وجه الموت ويتحدى قبضته الرهيبة،وذلك بفكره الخلاق، الذي يبقي إبداعه حيا،وهّاجا و يترنّم به القادمون في موكب الآتي الجليل..
وإلى السيدات القارئات،ةالسادة القراء هذه القصيدة الموغلة في دهاليز الموت،رغم إشعاعها الإبداعي الذي لا تخطئ العين نوره ولمعانه :
تقترب منٌي الساعة..الآن
رقدت باكرا ليلةَ البارحة
وفكّرت مليٌا بدويٌ الموت
كأن الساعة تقترب منٌي الآن
لم اعثر
على قلبي في بيتِ القراءة
لاُ ماء في إبريق يدي العليلة
ولا رغيف دافىء عند الشتاء
الاٌ حجارة ملساء تيمٌمني
من براثن النٌساء
تهيئني لآذان الظهر
خلتُني وحيدا
أظنني كنت مخطئا
أن لا أحد
يدير ناصية الحياة بمفرده
... وحيداً تماماً
نعم لا أحد
يمكن أن يحتكم
إلى بوصلة موتنا
سوف أنفق كل حزني
واهدي أطفال العالم
اغنية الرٌبيع
بلسما لقلوبهم الوجلة
سأتدبر أمرهم
لتتعافى زنابق الحياة
كنت وحيداً تماماً
لا أحد ..نعم لا أحد
يصغي لانين غيمتي
أوشك أن أقرع شبابيك الريح
أوشك أن التفت إلى الوراء
لا أحد
نعم ،بوسعي أن استرجع
ما افتكته منٌي الأعاصير
وحيداً تماماً،
تدعوني الغابة
إلى الأشجار
بحثاً عن ظلٌ جسدي
أشتمٌ ما أضاعته أصابعي
من رائحة البطولة
أشرب من البحر
مذاقه
سأظل ظمآناً
إلى محيطات اللغة وحدها
وأبني قشٌ بيتي
سنبلة..سنبلة ،
ظللتُ مزار
كنت متأخٌرا
ليفتحني الباب
سأكتب القصيدة
التي ستباهى بحتفي
أوقٌع اسمها
على ورقة خالدة
بين وسادة الفراش
ونهاية اللعبة.

(جلال باباي)
إنّ الموت يتحوّل لدى الشعراء،بخلفيّاتهم الصوفية والفلسفية والوجودية المتنوِّعة،إلى ذريعةٍ قُصْوى لأَنْسنة الحياة وقد افتقدت لكثيرٍ من ملامحها وقوى تجدُّدها إن في ذاتها أو في مدى انعكاسها على مرآة النّفْس. فمثلاً،يتحوّل البكاء عند الجاهلي في وقوفه على الأطلال،وشعوره الفاجع بالغياب،إلى استحثاث الأنا بواجب الانتصـار على المـوت ومقاومته بحضور اللحظة المنتشية التي تحقّق هبة امتلائها في إثبات الفـروسية ونشدان اللـذة الحسية.ويُجسّد عذاب الحبّ ومعاناته لدى العذريين مَوْتاً، يد أنّه يعكس رغبة الأنا في الاتصال بمحبوبها،وبما أنّها لا تتحقّق فالحياة الداخلية لكينونة الأنا تتوهّج باستمرار.
فيما بعد،يتحوّل نشدان الموت عند المعرّي إلى ضوء وشوق للخلاص من العمى وأسر المحابس بأكملها.وفي تجربة الصوفيّ يصير الموت عن طريق الانخطاف والفناء وتحييد الجسد ذريعةً يتحقق بها الالتحام بالمطلق..
تضمّنت هذه القصیدة أسئلةً وجودیّة مقلقة،علّ أبرز ما یمیّزها حالة التّبرّم المتّسمة بظاهرة الحزن،وهی ظاهرة إنسانیّة خالصة عمّقتها ظروف الحیاة المعاصرة،فباتت هاته الظّاهرة علامة فارقة للشّعر العربیّ المعاصر،وقد تعامل معها-الشاعر التونسي القدير جلال باباي- تعاملاً وجودیّاً خالصاً انطلاقاً من وعیه الشّعریّ ومن إحساسه المرهف بالوجع الإنسانیّ.

لقد انسكب الحزن فی داخل-جلال باباي-كانسكاب السّائل فی الدّورق الشّفیف،فحینما نقرأ -هذه القصيدة الموغلة في الوَجَع-نبصر هذا الحزن فی داخلها المرسوم عبر الكلمات،وكأنّنا أمام مواجهة بین الذّات والموضوع،بل أمام تفاعل خلاّق،تفاعُل تبادل فیه الطّرفان الأدوار، حیث یجسّد الحزن فی هاته الحالة نوعاً من مواجهة الذّات،وهو فی الآن ذاته موقف شعریّ من الوجود والموجودات،یُفعّل عندما تبدو حدّة المفارقات بین ما تتغیّا الذّات وما تصل إلیه.
نؤکد انّ هذا الحزن يموج في-بعض قصائد جلال باباي -سيما بعد إصابته بمرض عضال نتمنى له الشفاء العاجل) لهذا أكاد أجرؤ على تسمية -هذا الشاعر الذي نالت منه المواجع في نخاع العظم (جلال باباي) بشاعر الحزن والالم وكذا التحدي ..
قال الشاعر اللاتيني هوراس في القرن الأول قبل الميلاد إنه بنى بشعره صرحاً أبقى على الزمن من الرخام.ومنذ ذلك الحين والشعراء يحاولون أن يجعلوا شعرهم محصناً ضد الزمن.إنهم يسعون إلى «استعمار»الأجيال المقبلة،وذلك إذ يتحدثون (عبر ما سماه الشاعر فيليب لاركن «طول الزمن وعرضه») إلى مَن لم يُولدوا بعد. الشعر (إذا غيرنا الاستعارة) نسيج حي من المخ واللسان،وهو سلاحنا ضد الفناء.
وقصائد الشاعر التونسي الكبير جلال باباي في مجملها،نبراس يضيء دروب الحياة أمامه،رغم ماتخلل هذه القصيدة من قتامة تكاد تحز شغاف القلب.
على سبيل الخاتمة : لا يموت الشعراء حتى وإن تركوا الحياة بأجسادهم،فأرواحهم تنبعث من قصائدهم مع كل قراءة،تتجدد حياتهم في رحلة وجودية مسارها عدم وحياة فموت ثم انبعاث أدبي،لم يمت محمود درويش ولا مظفر النواب أوسميح القاسم..لأنهم جميعا غادروا بذواتهم البيولوجية لا الشعرية،وتركوا أسماءهم بين الأسماء خالدة،شعرا غزيرا،ورؤى وجودية مختلفة،وتشكيلات فنية تسبر مجهول الحياة والموت والكون واللغة بحثا عن معان تصدح بالأسئلة،والشعر سؤال.وفي عرض ذلك،اتخذ الموت تجليات متعددة،وكان معبرا لمزيد من الوعي بأسرار الحياة،وكيف لا؟ والموت آخر المعاني!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا