الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة الهوتة

عايد سعيد السراج

2024 / 2 / 16
الادب والفن


قصة: ( الهوْتـَةُ )

أحملُ رأسي متسكعاً فوق الأرصفة أتابع ُ التسكّع , ولا زلتُ أحمل ُ رأسي

, أذهبُ به إلى حاراتٍ بعيدة , أمتعةُ بمنظر البنايات الشاهقة , والأشجار

المزروعة بإتقان فوق الأرصفة , أو على زوايا الطرقات , ثم ألوب به

إلى حاراتٍ تفوحُ منها رائحة ُ العَطَن ِ , ورَوْثُ الأغنام ِ , والأوادم

ِ البشرية ِ , ألفُّ بشكلٍ دائري إلى القرية التي تلطي بجانب المدينة .

حيث في الأيام التي يفتقرُ فيها الناس ُ , وتشحُّ السماء ُ بالمطر , يذهبُ الشيوخ ُ

والنساك ُ , لجمع الحصى من نهر الفرات , فيُكوَّمونَهُ تلالاً .. تلالاً , ثم

يأتون بالمزامير والدفوف , ويبدأ ون حلقات الذكر , وتبدأ ُ الهوسة يتلاحم

الرجال مع السماء , ويتطاولون كالمردة, أو يأخذون هيئات ٍ مختلفة ثم

يتوحدون مع الأولياء والصالحين , ويبقرون بطونهم بالدرابيش أو

الخناجر , والأفعوانات تُرى تتراقص فوق أكتافهم , ويأكلون الجمر

والزجاج , أو يدخلون النار ويخرجون منها برداً وسلاماً , وكأنّهم

خرجوا للتو , من غرفة دافئة , تسيلُ قطراتُ العرق على جباههم , وفي

مثل هذه السنين ," يتحول أبو حميد ", إلى سلطان تلفّ أذرُعُهُ المدينة َ ,

ويحاصرها من كل الجهات , وتظل عمشة معشوقته , هي صاحبة ُ

القرار الخفي في كل ما يتعلّق بالمدينة , من شبهاتٍ وقضايا تخفى على

اللسان , أعود مجرجراً خطاي , باتجاه باب بغداد (1) فأرى حفرة ً كبيرة ً يغتسل بها الرعاةُ والكلاب ُ والبطُّ البريُّ , فيركب ُ رأسي رأسَهُ ,

ويغتسلُ بهذه البركة النتنة , وبينما أسيرُ وأنا أحملُهُ , تخرجُ منه حيتان كبيرتان , لهما رأسان عظيمان , وأنيابٌ يقطرُ منها سمٌ لزج ٌ , فيهرب ُ مني رأسي , تفرّ به الحيتان فأحاول اللحاق به , قدماي تَـَهـِـنَان فأخر ّ صريعاً .وأتهيب ُ الدخول إلى المدينة وأنا " بلا رأس, " وبعد برهة , أدخلها مجبراً, فأرى الناس , يمرون بالقرب مني , وهم يتهامسون , ثم ينظرون إليّ بفزع ٍ
ويتصايحون , إنه الشيطان ,ويتجمعون وهم ينبحون بصوت ٍ واحدٍ , اقتلوه ارجموه , تحّولَ الرجلُ الذي بلا رأس ٍ , إلى كتلة لحمية طرية مهترئة , تسير على الأرصفة بلا مبالاة , بلا عيون , بلا أنف بلا فم ,

مجّرد هيكلٌ لحميٌ , له عنق طويل , مثل ديك الحبش , " وله نهايات مدببة ,"
كأنها الأشواك , تسيل على كتفيه , حبيبات ُ دم ٍ وعرق ٍ متجمد .. الناس يتصايحون , النساء ُ يركضن , الأطفال يصرخون , الرجالُ خفافيش ُ ليل… , الرعب ُ والفزع , يدبّ في المدينة , بيوت ُ " التَنَكْ " تطلّ منها الرؤوس ُ المشرِئّبة , تماماً ، مثل الرؤوس التي تطل من البنايات العالية , التي لا تطال نهاياتها السلالم المرتفعة , قال: الرجلُ الذي بلا رأس ,

يجب أن أفرّ من هذه الضوضاء , وهذه الأصوات النابحة , ومن هذا الفحيح , وهذه المدينة الملعونة.
عاد الرجل ُ إلى بيته , قرع الباب , فتحت له زوجُهُ الباب , أكّدَتْ له , أنّ زوجَها غير موجود , وأنّ بإمكانه المجيئ إليه مرة أخرى ,

دَلَفَ الرجل مسرعاً وعندما رآهُ الأطفال بدأوا يتصايحون بأصوات غير مفهومة؛ والخوف يتملّكهم.

ولكنّ إبنته الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها "ثلاث سنوات " اقتربت منه وصاحت

: بابا – بابا .. وركضت إليه تحتضنه ، أكد لها أخواها أن هذا ليس بابا هذا رجل غريب
ودار الحوار التالي بينهما :
نعم إنه و..ح… ش.
يشبه كرندايزر
وهو بلا رأس
ينظرا إليه بريبة.
خطفوا رأسهُ الحرامية
وصرخا بصوت ٍ عال ٍ
الرجل ُ الذي بلا رأس راح يتسكع من جديد على أرصفة الطرقات.
متناسياً الضوضاء , والفحيحَ والحشدَ الذي يكبر شيئاً فشيئاً وراءه مزمجراً ومصدراً , همساً رهيباً , حيث تتداخل الأصوات مع بعضها البعض .
وتُشكّلُ نسيجاً هائلاً , من التداخل الصوتي ْ غير المتجانس , الذي يشبه ُ أصواتاً , آتية من مقبرة ٍ هائلة ٍتضمُّ ملايين البشر , الذين قاموا من يوم حشر ٍ ،بدأ جَسَدُ الرجل الذي بلا رأس , يتحول إلى غيمة ربيعية,
الناسُ يتجمعون في الساحات , وهم يحملون لافتات الاحتجاج , على الرجل الشيطاني , الذي تلبّس المدينة , ثم ارتداها بنطالاً ضيقاً مهترئاً ,
كلّهم يرتدون أقنعة , سوداء وبيضاء وحمراء , بعضهم أقنعتهم ممزقة ،والبعض الآخر تُظهر وجوههم, التي تتطاول وتـتـثلّـث أوْ تتربع, وأحياناً تأخذ أشكال رؤوس متداخلة فيما بينهما . أو رؤوس رُكّبت فوق رؤوس ,
وتأخذ أحياناً أخرى شكل رؤوس تشبهُ الرؤوس الآدمية, والرجل لازل يبحث عن رأسه الذي وَلَّى , وكل ما يخشاه أن يكون قد ارتدى قناعاً , مثلهم إذ ْ كيف لهُ أنْ يعرفه , بين هذه الأقنعة المترامية الأطراف .
, ترك حشود الأقنعة , وتوجه متهادياً
إلى- نهر الفرات- الذي استقبله بفرح طفولي,
وهو يربتُ على كتفيه ويهدهده, ويحكي له
قصصاً مختلفة عن أُناس ٍ عاشرهم , منذ ملايين السنين , فالبعض أحبّه وقدس أقدامه المائية
والبعض ,( بصق على لحيته البيضاء ), أو قذف في عينيه ِ قاذورات المدن وجيفها, ومفرزات أحشائها, وحدثه عن النساء والأطفال , عن الشيوخ والصبايا .
, عن العشاق وليالي السمر , وعن أشجار الغَرَبِ والطرفاء والزيزفون والسرو , التي بدأت تهرم , وعن مكافأتهم له ولجلال شيخوخته, ولحيته الوقور البيضاء ,
وكيف تنظفها الأسماك ُ , من أدرانهم ,
وقال: الفرات هم هكذا دائماً , أبناء البشر يا ولدي ,
وبكى بدموع ٍ مائية ٍ حزينة ٍ ذات احمرار يشوبه السواد: وَحَمَل رأسَ الرجل الذي هو رأسي, من أعماقه المائية , وركّبه تماماً مثلما كان فوق عنقي , وبيديه الحانيتين , أسقاني ماءاً فراتاً. ,
وبعد برهة من التأمل , في عينيه الوادعتين الحنونتين , عدتُ أدراجي إلى المدينة , التي كانت تغرق بالسبات العميق ، العميق.

(1) باب بغداد باب اثري قديم يقابله باب الرقة في بغداد حيث تدخل وتخرج

القوافل منه إلى المدينة في زمن العصر العباسي

كتبتُ هذه القصة في الرقة. عام 1988 م وهي من مجموعة قصصية بعنوان. -الهوتة - لم تطبع بعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا