الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الجمرة- المتّقدة على الذوام في شعر الجواهري

سليمان جبران

2024 / 2 / 16
الادب والفن



هذا الحشد الهائل من صور العنف والثأر والدم هو أكثر ما يمثّل الرؤية الثوريّة للجواهري في هذه المرحلة [ الأربعينات والخمسينات ] حتّى يكاد يطغى على كلّ ما عداه من مقوّمات القصيدة الأخرى. ينظر الناقد في هذا الكم الهائل من صور العنف تتدفّق في مطوّلات هذه المرحلة، فيسأل نفسه غير مرّة: مِن أيّ معين يستقي الشاعر هذه الصور الغنيّة الحادّة، تنثال عليه في القصيدة بعد القصيدة خلال أكثر من عشرين سنة؟ ما السر ّفي هذه "الجمرة" التي لا تنطفئ مهما طال بها الزمن واستنفدها الإبداع الشعري؟
الموهبة الفذُة والمزاج العصبيّ الحادّ لهما نصيب، ما في ذلك شكّ، في هذا الفيض مِن صور العنف المذكورة. وشعر الحماسة "القبليّ" مِن التراث الكلاسيكي، وقد استوعب منه الشاعر كميّة هائلة في سنوات تكوينه ونشأته، له نصيب واضح أيضا. وقد أشرنا آنفا إلى الصلة الوثيقة بين الشاعر والتراث القديم عامّة، بما فيه صلته المتميّزة بالمتنبي والشريف الرضيّ، بوجه خاصّ. إلا أنّ ذلك كلّه لا يمنعنا مِن افتراض قيام هذه الصلة أيضا بين هذا الشعر الساخط المتمرّد المحرّض والبيئة الدينيّة في النجف، حيث عاش الشاعر سنوات صباه وشبابه الأوّل، يتنفّس هواءها المشبع بالشعر الشيعي، الرسمي والشعبي، يُتلى على "المنابر الحسينيّة" على مدار السنة، مذكّرا بفاجعة الحسين التي تتجدّد في يوم عاشوراء مِن كلّ سنة حادّة ساخنة، رغم تقادم الأيّام والسنين. بل إنّنا لا نغالي، في هذا الصدد، إذا زعمنا أنّ العنف والدم والثأر في القصيدة الجواهريّة هي، بشكل أو بآخر، استمرار لصور الشهادة والدم والنقمة في قصّة الحسين "شهيد الطفّ"- محور التراث الشيعي الرسمي والشعبي الذي يُتلى في المجالس وعلى المنابر. لا شكّ أنّ الجواهري انتقل بهذه "النقمة" إلى السياق السياسي المعاصر، وإلى درجة أعلى عنفا وشيوعا، إلا أنّ هذا لا يحول دون قيام الوشائج الواضحة بين "جمرة" الحسين المتجدّدة كلّ عام و"جمرة" الشهادة في ساحات النضال في العراق المعاصر.
في تشرين الثاني عام 1947، بعد انحياز الشاعر إلى "الإباء" انحيازا تامّا، وتعاظم المعارضة الوطنيّة للإنجليز والحكم الموالي في العراق، كتب الجواهري قصيدته "آمنتُ بالحسين"[ الديوان، الجزء الثاني، ص. 266 – 269 ]، وألقاها في الحفل الذي أُقيم في كربلاء، في " ذكرى استشهاد الحسين " . القصيدة تبدو "شاذة" في النظرة الأولى. سواء في تلك الفترة من تاريخ العراق الحديث ، أو في موضعها من الديوان. إلّا أنّ النظرة المتأنّية في القصيدة ذاتها تُظهر بوضوح أنّها لا تختلف في جوهرها عن القصائد السياسيّة / الوطنيّة التي سبقتها والتي تلتها. تتألّف القصيدة من 64 بيتا من المتقارب ورويّها العين المكسورة، وهي بذلك توافق قصيدة "أخي جعفر" [ الديوان، ج 2، ص. 279 -–289 ] في وزنها، وتتّفق مع قصيدة "الجزائر" [الديوان، ج 3 ، ص. 167 -–172 ] في وزنها وقافيتها أيضا. إلّا أنّ القرابة بين هذه القصائد الثلاث لا تقتصر على الإيقاع، بل تتعدّاه إلى الرؤيا والصورة والصياغة أيضا
في المقطع الأوّل من قصيدة الحسين، ونحن لا نأتي هنا بالأبيات في ترتيبها الأصلي، نقرأ:
فِداءٌ لِمَثْواكَ مِنْ مَضْجَعِ تَنَوّرَ بألْأَبْلَجِ الْأَرْوَعِ
وَرَعيًا لِيَوْمِكَ يَوْمِ "الطُّفوفِ" وَسَقْيًا لِأَرْضِكَ مِنْ مَصْرَعِ
فَيا أَيُّها الْوِتْرُ في الْخالِدينَ فَذًّا إلى الْآنَ لَمْ يُشْفَعِ
وَيا عِظَةَ الطّامِحينَ الْعِظامِ لِلاهينَ عَنْ غَدِهِمْ قُنَّعِ

في البيت الأوّل والثاني، يُخاطب الشاعر الحسين مباشرة بضمير الخطاب، ويدعو لقبره بالسقيا ، مؤكّدا أنّ هذا القبر يتنوّر بهذا الشهيد الشجاع. والصورة هنا وثيقة الصلة بخاتمة "أخي جعفر" حيث السقيا والنور أيضا - "أسالتْ ثَراكَ دموعُ الشَّبابِ / ونوَّرَمِنْكَ الضريحَ الدَّمُ". في البيت الثالث يصف الحسين بأنّه الشهيد الفذّ، إذ هو سيّد الشهداء أو "الوتر بين الخالدين". أمّا الجزائر المناضلة فمثلها الشعوب المناضلة الأخرى، ولكنّ الصورة في الموضعين تتشكّل من عنصري الوِتْر والشفع "جزائرُ ما أنتِ مَجْذومَةٌ / ولا أنتِ بالوتر لم يُشفعِ". وفي البيت الأخير أعلاه يصف الحسين بأنّه مثال الطامح العظيم، أو المناضل القدوة يضحّي بنفسه في سبيل غد أفضل. وبذلك يُسبغ الشاعر على الحسين رؤيته الثوريّة التي تعتبر الشهداء جسرا إلى الغد / المستقبل: "سلامٌ على جاعلينَ الحتوفَ / جِسْرًا إلى المَوْكِبِ الْعابِر" [3 ص. 85]. وفي نهاية المقطع المذكور يتوسّع في صورة الشهيد القُدوة الذي تحثّ يده المبتورة الخانعين على رفض الظلم والتخلّص من الخوف والاهتداء
بالضمير:
كّأَنَّ يَدًا منْ وَراءِ الضَّريحِ حمراءَ "مَبْتورةَ" الْإصْبَعِ
تُمدُّ إلى عالَمٍ بِالْخُنوعِ والضَّيْمِ ذي شَرَقٍ مُتْرَعِ
تخبّطُ في غابةٍ أُطْبِقَتْ على مُذْئِبٍ مِنهُ أَو مُسْبِعِ
وتَدْفَعُ هذي النفوسَ الصغارَ خوفا إلى حَرَمٍ أَمْنَعِ

كذلك "يقترب" الشاعر من الحسين الشهيد في موضعين من القصيدة المذكورة، فيصوّر في الموضع الأوّل كلفه بالحسين في صورة ملوّنة باللهفة الذاتيّة والأسى لهذا المصير الفاجع، ويصف في الموضع الثاني، في صورة طافحة بالألم، سقوط الحسين الشهيد مُؤثرا إعمال الأعداء سكّينهم في لحمه على التخلّي عن الضمير / الكرامة:
شممتُ ثَراكَ فهبَّ النسيمُ نَسيمُ الكَرامةِ مِنْ بَلْقَعِ
وعفّرتُ خدّي بحيث استراحَ خدٌّ تفَرّى ولمْ يَضْرَعِ
وحيثُ سنابِكُ خَيْلِ الطُّغاةِ جالتْ عليْهِ ولَمْ يَخْشَعِ
. . .
وجَدْتُكَ في صورَةٍ لَمْ أُرَعْ بِأعْظَمَ مِنْها ولا أَرْوَعِ
وماذا! أأروعُ مِنْ يَكونَ لَحْمُكَ و قْفًا على ا لمِبْضَعِ
وأنْ تَتَّقي - دونَ ما ترتأي - ضَميرَكَ بالأسَلِ الشرَّعِ
وأنْ تُطْعِمَ الْمَوْتَ خَيْرَ الْبَنينَ منَ "الأَكْهَلينَ" إلى الرُّضَّعِ

وفي قصيدة "أخي جعفر" يصفُ سقوط أخيه برصاص الشرطة، وارْتِماء الشاعر عليه يلثمه، وهو مثخن بالجراح، فنجد صورة اللهفة ذاتها وصور الفاجعة ذاتها، وتوالي الأفعال الماضية ، بحيث تبدو الصور شديدة القَرابة في القصيدتين، و إنْ كانتْ صُوَر سقوط أخيه أقْرب، بالطبع، إلى ذات الشاعر وعواطفه:
لَثَمْتُ جِراحَكَ في "فَتْحَةٍ" هِيَ الْمُصْحَفُ الطُّهْرُ إذْ يُلْثَمُ
وقبَّلْتُ صَدْرَكَ حَيْثُ الصَّميمُ مِن َالْقَلْبِ، مُنْخَرِقًا ، يُخْرَمُ
وحَيْثُ تَلوذُ طُيورُ الْمُنى بِهِ فَهْيَ، مُفْزَعَةً، حُوَّمُ
وحَيْثُ استَقَرَّتْ صِفاتُ الرِّجالِ وضَمَّ مَعادِنَها مَنْجَمُ
ورَبَّتُّ خَدًّا بِماءِ الشَّبابِ يرفُّ كما نوذَرَ الْبرْعُمُ
ومسَّحْتُ منْ خُصَلٍ تدَّلي عَلَيْهِ كَما يَفْعَلُ الْمُغْرَمُ
وعلَّلْتُ نَفْسي بِذَوْبِ الصَّديدِ كَما علَّلتْ وارِدًا "زَمْزَمُ"
ولقَّطْتُ مِنْ زَبَدٍ طافِحٍ بثغْرِكَ شَهْدًا هُوَ الْعَلْقَمُ

هكذا يتماثل إلى حدّ بعيد الحسين الشهيد مع جعفر الشهيد، وتتداخل الصور واللغة في القصيدتين، حتى تكاد تتلاشى الحدود بين شهيد الدين وشهيد النضال الوطني: الحسين تنوشه الرماح والسكاكين، فلا يتخلّى عن الضمير والكرامة في "عالم الخنوع والضيم والضمير المُجْدِب" وجعفر يسقط برصاص شرطة بغداد في سبيل القضيّة الوطنيّة، فيغدو جرحه "المصحف الطهر"، وصديد الجرح ماء زمزم! بلْ إنّ دم الحسين يقوم دليلًا على سموّ المبدأ "إلى أنْ أقمتَ عليهِ الدليلَ منْ مَبْدأ بدمٍ مشبعِ" ودم أخيه جعفر يفنّد دعاوى الحكّام وأباطيلهم ". . دمًا يُكْذِبُ المخلصون الأُباةُ / بهِ المارقينَ وما قسّموا".
هناك أيضا بعض العناصرالنصّيّة المشتركة بين القصائد الثلاث ، خصوصا بين قصيدتي الحسين والجزائر، لاتّفاق الوزن والقافية، ولكنّنا نكتفي بما أوردناه أعلاه
للإشارة إلى الصلة التي افترضناها بين "جمرة" الحسين و"جمرة" الشهيد قي القصائد الوطنيّة من هذه المرحلة.
[ من كتاب "مجمع الأضداد": دراسة في سيرة الجواهري وشعره، 2003 ].








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا