الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى سيرجي الكساندروفيتش توكاريف

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2024 / 2 / 16
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


المؤلف: فاليري بافلوفيتش اليكسييف*

ترجمة مالك أبوعليا

دخلت معهد الاثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، والذي كان مقرّه آنذاك في شارع فرونزه 10، لأول مرة، في ربيع عام 1949. وفي نفس اليوم، كان من دواعي سروري أن أُقابل أربعةً من كبار أعضاء هيئة المعهد، وهُم مكسيم غريغوريفيتش ليفين Maksim Grigor evich Levin، وبافل ايفانوفيتش كوشنر Pavel Ivanovich Kushner، ومارك اوسيبوفيتش كوسفين Mark Osipovich Kosven وسيرجي الكساندروفيتش توكاريف. لقد رحلوا جميعاً الآن منذ رحيل توكاريف في 19 ابريل من عام 1985.
ان موت توكاريف هي خسارة فادحة ولا تُعوّض. لقد ترَكَنَا انسان، احتَلَّ لعدة عقود، مكانةً فريدةً في الاثنوغرافيا وفروع المعرفة المُتصلة بها. انه مُعلّم عدة أجيالٍ من الاثنوغرافيين، وكان بالنسبة لهم نموذجاً للانسان المُثقف والنزيه، ومؤلف الأعمال الأساسية في جميع مجالات الاثنوغرافيا. هناك الكثير من المُنجزات المُرتبطة باسمه لدرجة أن مُجرّد ادراجها في قائمة، يُذهل الخيال: كُتُب تعتمد على بحث ارشيفي واسع حول تاريخ التاي وخاكاسي الياقوت، والكتاب الضخم (اثنوغرافيا شعوب الاتحاد السوفييتي)، والدراسات حول الوثنية عند الشعوب السلاف الشرقيين، ومقالات وكُتُب حول التنظيم الاجتماعي والثقافي لشعوب استراليا واوقيانوسيا، ومُجلّدات ضخمة حول تاريخ الدين، والتي تُظهِر بدقة علمية شديدة مكانة أديان العالم في العملية التاريخية، وسلسلة من الكُتب حول تاريخ البحث الاثنوغرافي الأجنبي وفي روسيا، وكذلك مئات المقالات حول الموضوعات الاثنوغرافية والتاريخية والثقافية الأكثر تنوعاً، الغنية بالأفكار والحقائق الجديدة والتي تُناقش المسائل المُعاصرة لها، والمُزخرفة باسلوبها "التوكاريفي" وببساطتها الخالية من الحشو اللفظي والتشوّشات.
وبالاضافة الى هذا النشاط النظري الخصب للغاية، كان سيرجي توكاريف مُديراً لفِرَقٍ بحثيةٍ مُختلفة (ترأسَّ لسنواتٍ عديدة قسم اثنوغرافيا شعوب أمريكا وأوروبا الغربية في معهد الاثنوغرافيا، التابع لكُلية التاريخ في جامعة موسكو الحكومية). كان يُلقي بانتظامٍ مُحاضراتٍ في جامعة موسكو الحكومية، ويُقدّم المشورة لطُلّاب الدراسات العُليا، ويُحرر العديد من المنشورات، ويكتب العديد من المُراجعات لأعمال زُملائه الآخرين. لقد كان مُنشئ، وأحياناً يرأس فِرَق البحث ويكون مؤلفاً رئيسياً للعديد من الأعمال الجماعية. وكم من الوقت قضاه في المُشاورات والمُناقشات العلمية! كم مرةً عالجَ المسائل العلمية المُثيرة للجدل والصعبة، وكان تولستوف وليفين كوسفين يقولون: "علينا أن نسأل سيرجي" أو "يجب أن نُعلِمَ سيرجي الكساندروفيتش" أو "فقط توكاريف يُمكنه أن يُجيب على مثل هذه المسألة". وكان توكاريف يُجيب بالفعل بنزاهةٍ، طارحاً نظرةً عامةً مدروسة على أي مسألة وقائمة شبه شاملة للأدبيات المُتعلقة بها.
وُلِدَ سيرجي الكساندروفيتش توكاريف في 16 كانون الأول عام 1899، في تولا، لعائلة شخصٍ مُعلّم. تخرجَّ من جامعة موسكو الحكومية عام 1925، ومنذ ذلك الوقت كان مغموراً في دراسة الاثنوغرافيا دون انقطاع. في البداية، كان طالباً في الرابطة الروسية لمعاهد البحوث في العلوم الاجتماعية (صار اسمها الأكاديمية الشيوعية لاحقاً)، وصار مُدرساً بعد ذلك في معهد صن يات صن الشيوعي للعمال الصينيين، وعضو هيئة في المتحف المركزي للاثنولوجيا منذ عام 1928. وفي عام 1933 صار رئيساً لقسم الشمال في المتحف. وفي الوقت نفسه كان يعمل في أكاديمية الدولة للثقافة المادية والمتحف المركزي المُعادي للأديان. وحَصَلَ توكاريف عام 1935 على الدرجة العلمية لمرشح في العلوم التاريخية، ودافَعَ عام 1940 عن اطروحته للدرجة الدكتوراة.
بدأت الحرب الوطنية العُظمى، وتم إجلاء توكاريف الى آباكان، حيث ترأس قسم التاريخ في المعهد التربوي. ثم عاد الى موسكو عام 1943 ليترأس قسم اثنوغرافيا شعوب أمريكا واستراليا واوقيانوسيا في معهد الاثنوغرافيا المُنشأ حديثاً في موسكو التايبع لأكاديمية العلوم السوفييتية. وعَمِلَ عام 1961 في قسم اثنوغرافيا شعوب أوروبا غير السوفييتية، وترأس في تلك السنوات نفسها (1956-1973) قسم الاثنوغرافيا في جامعة موسكو الحكومية، لكنه استمرّ في تقديم مُحاضراتٍ أثناء هذه الواجبات.
كان سيرجي توكاريف، يُجيد العديد من اللغات، وكان مُمثلاً لامعاً لبلدنا في الخارج. ألقى مُحاضراتٍ في الجامعات الأُوروبية، وشارك في الندوات والمؤتمرات الدولية. كان نشاطه العلمي والاجتماعي الكثيف جداً، موضعَ تقديرٍ كبير من الحكومة السوفييتية. حَصَلَ على وسام الراية الحمراء مرتين، ووسام الصداقة بين الشعوب، وحَصَلَ على لقب العامل العلمي لجمهورية روسيا الاشتراكية السوفييتية.
كان نطاق اهتمامات توكاريف الواسع جداً، واضح منذ خطوات مسيرته العلمية الأُولى، عَمِلَ بنشاط على استيعاب الأدبيات الواسعة حول اثنوغرافيا اوقيانوسيا، ودَرَسَها بشكلٍ نقديّ، وسُرعان ما أصبَحَ خبيراً فيها. لكن في الوقت نفسه، نظراً لرغبته في عدم الانفصال عن التقاليد الاثنوغرافية الحيّة، تخصّصَ توكاريف في اثنوغرافيا سيبيريا، خاصةً جنوب سيبيريا، وقام بجمع المواد الاثنوغرافية الملموسة، وعَمِلَ في الأرشيف. قد يوحي الأمر أن تركيز الجهود البحثية في مجالين مُنفصلين بعيدين تماماً عن بعضهما البعض، أن هناك تشتتاً للاهتمامات. لكن هذا التركيز على المجالين هو الذي أنتَجَ معرفته الموسوعية الواسعية، وقُدرته على مُعالجة البيانات الأكثر تنوعاً.
كانت احدى السمات التي تُميّز توكاريف كباحث، لم تكن فقط التوسيع المُستمر لنطاق نشاطه العملي، ولكن أيضاً تعميق وصقل وجهات النظر لتي طرحها ودافعَ عنها سابقاً. يُعد نظام القرابة لسكان استراليا الأصليين، واعادة البناء النظري لنظام الميلانزيين الاجتماعي، والنظام الطبقي لجُزُر تونغا، وتفسير الأساطير الفولوكلورية كمصدرٍ اثنوغرافي، من المعالم البارزة في دراساته حول استراليا واوقيانوسيا. ان نطاق أبحاثه هذه واسع جداً، لدرجة أنها، تُمثّل مُجتمعةً، جُهداً مُثيراً للاعجاب. كانت ذورة هذه الأبحاث كتاب (شعوب استراليا واوقيانوسيا) 1956 الذي كان جُزءاً من سلسلة (شعوب العالم). كان سيرجي توكاريف مسؤولاً عن القسم الأعظم من نصوص هذا الكتاب، والذي اكتسَبَ بفضل دقته وشموليته، مكانةً مرموقةً في الأدب العالمي.
ان انجازات توكاريف في دراسة الاثنوغرافيا وتاريخ شعوب سيبيريا ليست أقل أهميةً. تُوِّجَت المقالات المنفصلة المُستندة الى البيانات الأرشيفية والمُلاحظات الميدانية حول أنماط استيطان شعوب جنوب ووسط سيبيريا ونظامهم الاجتماعي، تُوِّجَت بنشر ثلاث مجلدات كبيرة في الثلاثينيات والأربعينيات (البقايا ما قبل الرأسمالية في اويروتيا)، (الخطوط العريضة لتاريخ شعب الياقوت)، (النظام الاجتماعي للياقوت في القرنين السابع عشر والثامن عشر). كانت سمات منهجية بحث توكاريف في هذه القضايا هي المقارنة الجريئة للمُلاحظات الاثنوغرافية والمصار المكتوبة، والتحليل الدقيق للمصادر، والاستنتاجات الحذرة التي تظهر في هذه الكُتب.
ان كتاب (اثنوغرافيا شعوب الاتحاد السوفييتي-الأُسس التاريخية لأُسلوب حياتهم وثقافتهم)، الذي نُشِرَ عام 1958، هو كتاب للطلاب الذين يستعدون لتقديم امتحاناتهم في مادة الاثنوغرافيا في جميع أنحاء البلاد. حتى أن المُتخصصين المعروفين كانوا يلجأون اليه في كثيرٍ من الأحيان للحصول على المعلومات، بوصفه كتاباً غنياً جداً بالبيانات الأصلية ونتائج نابعة من مُعالجة وتفسير العديد من مسائل الاثنوغرافيا في الاتحاد السوفييتي. كَتَبَ بتواضع أنه نششَرَ مؤلّفهُ هذا باعتباره "كتاباً دراسياً للتعليم الجامعي في المقام الأول"، ولكنه في الواقع، تجاوزً حدود الكتاب المدرسي، وشكّلَ موسوعةً حقيقيةً حول شعوب الاتحاد السوفييتي والديناميات التاريخية لثقافتهم.
تضمّن الكتاب جميع جوانب الثقافة التقليدية، بما في ذلك الثقافة المادية، وربَطَ الثقافة المادية بأشكال النشاط الاقتصادي. كان لدى توكاريف بشكلٍ عام، نظرة تركيبية دقيقة جداً لموضوع البحث بكل علاقاته المُباشرة وغير المُباشرة المُعقدة، ولهذا فإن القسم الوصفي من هذا الكتاب (الذي يشغل مساحةً كبيرةً جداً)، مُثير للاهتمام ومُنتظم للغاية. ان التحليل العميق للعلاقات الاجتماعية لمُختلف الشعوب في الكتاب، الموضوعة على أساس أحداث التاريخ السياسي والاقتصادي للبلاد، يُعزز هذا الانطباع. طُرِحَت مادة الكتاب على أساس المبدأ الاقليمي، ويسبق تحليل كُل مجموعة اقليمية كبيرة من الشعوب، مسح تاريخي واثنوغرافي شامل وعام. ويبدأ وصف كل شعب بمُخطط لنشوءه الاثني، ويصيغ المؤلف نظراته بعناية، دون قيود، وبعباراتٍ واضحة على أساس الدراسة الموضوعية لأهم الفرضيات التي سبقته. من الطبيعي أن يُستَخدَم كتاب بهذا المُحتوى والمُستوى العملي لمدة ثلاث عقودٍ كمصدرٍ لا يُقدّر بثمن، للمعلومات الاثنوغرافية حول شعوب الاتحاد السوفييتي، وهو يحتفظ براهنيته حتى يومنا هذا.
تقريباً في نفس الوقت الذي ظَهَرَ فيه الكتاب سالف الذكر، نُشِرَ أيضاً أول كتاب لتوكاريف حول الدين. انه كتاب (المُعتقدات الدينية للشعوب السلافية الشرقية من القرن التاسع عشر الى أوائل القرن العشرين). كان سيرجي توكاريف مُهتماً بالمسائل الدينية منذ الخُطوة الأولى لمسيرته العلمية، وكان يُراجع بانتظام الأدبيات الأجنبية والمحلية حول هذا الموضوع. كان قبل ذلك، قد كَتَبَ سبع مقالات تصف دور المُعتقدات الدينية التقليدية لشعوب الاتحاد السوفييتي، ووُضِعَت في كتاب (أديان شعوب اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية) والذي نُشِرَ عام 1932. في كتاب (المُعتقدات الدينية للشعوب السلافية الشرقية))، قام بوصف بقايا المُعتقدات والأديان الوثنية بين الروس والبيلاروس والأُوكران بتفصيل شديد، ليس فقط على أساس المُلاحظات الاثنوغرافية بالمعنى الضيق للكلمة، ولكن أيضاً باستخدام معلومات من مصادر مكتوبة ودراسات في التقاليد السلافية بَحَثَت في أديان الشعوب السلافية والشعوب الأُوروبية المُجاورة لهم. أظهَرَ مؤلِّف هذا الكتاب فهماً واسعاً لمسائل اثنوغرافيا الشعوب السلافية الشرقية ككل.
كان كتاب (المُعتقدات الدينية للشعوب السلافية الشرقية) أول أعمال توكاريف العامة حول تاريخ الأديان ومكانتها في مُجتمعاتها في مناطق جُغرافية مُتنوعة وفي مراحل مُختلفة من التطور التاريخي. صَدَرَ كتابه (أشكال الدين المُبكرة وتطورها) عام 1964، وتلاه كتاب (الأديان في تاريخ شعوب العالم) والذي صَدَرَ في ثلاث طبعات وتُرجِمَ الى اللغة الانجليزية ولُغات أوروبية أُخرى. كان كلا هذين العملين دراساتٍ تاريخية ثقافية بالمعنى الدقيق للكلمة، اشتملت على مُعالجة بُنى المُعتقدات الدينية الباكرة، وتعاقبها الزمني، والظروف التاريخية المُحيطة بنشأة الديانات العالمية، والآلهة الخاصة بها، والدور الايديولوجي للدين في المُجتمعات ذات التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية المُختلفة، والعديد من المسائل المُتعلقة بعلم اجتماع الدين. لم يكن كافياً، لوضع هذا الدراسات واسعة النطاق، أن تكون مُجرّد عالم اثنوغرافيا، حتى لو عالماً رفيع المُتسوى، فقد أظهَرَ توكاريف في هذين الكتابين امكانياته العلمية كمُستشرق، ومؤرخ للوعي الاجتماعي، وباحث في الثقافات المُقارنة، وقام فيهما، بتحديد عدد من جوانب اتجاه الأبحاث حول الدين، في العقود التالية.
ومع تزايد غِنى تجربته وخبرته الحياتية، اتسعَ أيضاً نظام بحثه العلمي، وقام في السبعينيات بعمل مُكثّف حول مسائل تاريخ الاثنوغرافيا كعلم. يُعَد العمل الذي قام به توكاريف حول هذا الموضوع، نموذجياً لجميع الجهود العلمية التي بذلها توكاريف منذ السنوات الأولى لنشاطه العلمي. لقد قدّمَ مُساهمةً هائلةً في الاثنوغرافيا السوفييتية، تشارَك مع زُملائه بانتظام أحدث مُنجزات مجال الاثنوغرافيا والاركيولوجيا في الخارج، وكَتَبَ مقالاتٍ نقدية حول المفاهيم النظرية الغربية الغريبة عن الماركسية. ان مراجعاته للمقالات، ومقالاته حول المشاريع العملية، وحول الأُسس الايديولوجية لمُختلف المدارس الاثنوغرافية، وأبحاثه حول شخصيات تاريخية مُختلفة، لم تصرفه عن المسائل العامة لتاريخ العلم، وكرّسَ قدراً كبيراً من الجُهد والوقت لتطوير تحقيب تاريخ العلم الاثنوغرافي في روسيا والاتحاد السوفييتي.
هناك جانب آخر من جهود توكاريف في مجال التاريخ وحالة الاثنوغرافيا المُعاصرة: نُشِرَت العديد من كُتُب العلماء الأجانب بالترجمة الروسية تحت اشرافه ومُقدماته. هذه المُقدمات التي كتبها ليست ظاهرةً اعتيادية. انها تُمثّل، في وفرة الحقائق التي تتضمنها، ووضوح صياغتها، واسلوبها، دراساتٍ صغيرة حول الكتُب المعنية وتتبع بشكلٍ تقريبي توجهات مؤلفيها. وكان من بين هؤلاء المؤلفين الانثروبولوجي النيوزلندي بيتر باك Peter Buck والانثروبولجي الاسترالي ادولفاس بيتر ايلكين Adolphus Peter Elkin والاثنوغرافي ليبس، والاثنوغرافي النرويجي ثور هييردال Thor Heyerdahl والانثروبولوجي الألماني الغربي هانس نيفيرمانوتشيسلينغ والانثروبولوجي السويدي دانييلسون Bengt Emmerik Danielsson والانثروبولوجي البريطاني بيتر وورسلي Peter Worsley والانثروبولوجي الأمريكي توماس بكلي Thomas Buckley والانثروبولوجي والمؤرخ الاسكتلندي جيمس فريزر James George Frazer، وغيرهم الكثير. وكان من بينهم، عُلماء اثنوغرافيا مُتخصصون في بلدٍ مُعين، ورحّالة، ومؤرخو أديان، ومُنظّرون في الاثنوغرافيا. ووَجَدَ كاتب مُقدمات مؤلفاتهم كلماتٍ حاسمة تصف الأهمية العلمية للنصوص التي كتبوها، ومكانتها في النقاشات الايديولوجية لعصرهم، وسماتهم الشخصية ومصير حياتهم. وهكذا، وبالتدريج، سنةً بعد سنة، أُنشِئَت مكتبة كاملة من الكُتب الاثنوغرافية باللغة الروسية لعلماء أجانب، من مُعاصرينا وممن سبقنا.
كانت نتيجة سنوات عديدة من نشاط سيرجي توكاريف المُكثّف، أن ظَهَرَت أيضاً، دراسات مُستقلة واسعة النطاق. ظَهَرَ أولها في كتاب صَدَرَ عام 1966، وتناولت تاريخ روسيا الاثنوغرافي. تحقّقَ توكاريف في هذا الكتاب، من صحة التحقيب الاثنوغرافي الذي سَبَقَ ان اقترحه في مقالاتٍ سابقة. ولم يكن الضوء الذي سلّطه على فتراتٍ مُعينة من تاريخ روسيا الاثنوغرافي وخصائص أبرز مُمثليها، أقل اثارةً للاهتمام. وهُنا تجلّت سعة اطلاع المؤلِّف، فقد اختار بمهارة الحقائق وجَمَعها، مُقتبساً رسائل ومُذكرات مُعاصريه، واستَخدَم وثائق رسمية. ويتولّد انطباع للمُطلع على هذا الكتاب بأن جميع الأشحاص الذين وصفهم كانوا معروفين جيداً له، ليس فقط بمعرفة أعمالهم، ولكن أيضاً على المُستوى الشخصي. لقد كانوا يَحيَونَ في صفحات الكتاب. وبما أن العديد منهم لم يكونوا اثنوغرافيين فحسب، بل علماء في اللغة ومؤرخين وكُتّاب مقالات، فإن كتاب توكاريف يتجاوز حدود تاريخ الاثنوغرافيا وحده ويكتسب أهميةً ثقافيةً عامة.
عالَجَ توكاريف البحث الاثنوغرافي في الدول الأوروبية في كتابين صدَرا عام 1978، ويُغطي أحدهما فترةً زمنيةً هائلة، منذ بداية ظهور المعارف التجريبية في مصر القديمة حتى منتصف القرن التاسع عشر. انه يسرد تدريجياً، وبشكلٍ مُفصّل كيف اهتمت الشعوب بالمعارف حول لُغات وثقافات ومظهر بعضهم البعض. ونحصل منه على معلوماتٍ اثنوغرافية غنية عن أعمال مؤرخين قُدماء وحديثين، ونرى كيف تراكمت المعلومات الاثنوغرافية ببطئ، ولكن بتقدمٍ ساحق في العصور الوسطى، ونعرف من خلاله، التأثير الثوري الذي أحدثه عصر الاكتشافات الجُغرافية، وكيف تبلورت معالم المبحث الذي أخذ شكله في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبالاضافة الى الأدب التاريخي والاثنوغرافي، استخدم المؤلّف المصادر الأولية الكلاسيكية على نطاقٍ واسع، مما قدّمَ لنا صورةً لا مثيل لها حول الماضي.
أما الكتاب الثاني، فكان أكثر "اثنوغرافيةً"، ان جاز لنا التعبير. ونعني هُنا، أن موضوعه كان أكثر خصوصيةً: تاريخ علم الاثنوغرافيا بعد أن تشكّلَ كُلياً، ومواقعه المنهجية وانجازاته التقنية. وبفضل سعة اطلاعه النادرة، انتَقَلَ توكاريف من وصف هذا التيار الاثنوغرافي الى ذاك، وميّزَ بسهولة بين وجهات نظر باحثي المدارس المُختلفة (مهما كانت الاختلافات بينهم صغيرة)، وطَرَحَ مُلاحظاته النقدية بلباقة وبساطة. انه مصدر للمعلومات حول تاريخ الاثنوغرافيا لا يُمكن استبداله بمصدرٍ آخر، ومثال للاستعراض الموضوعي لتطور مجال واسع وهام من مجالات المعرفة الانسانية.
حاولنا، في الصفحات السابقة، تقديم لمحةٍ موجزةٍ عن الانجازات الرئيسية التي حققها سيرجي توكاريف في التاريخ والاثنوغرافيا وتاريخ الدين. ومع ذلك، يجب أن نؤكّد بأن اختيارنا لانجازاته هذه، تم على أساس وجود كُتب تُلخص مجالاتٍ مُعينة من البحث. سيكون من الخطأ تماماً عدم ذكر عدد من مجالات الاثنوغرافيا الأُخرى التي انخرَطَ فيها توكاريف بعُمق، على الرغم من عدم وجود دراسات وكُتُب مخصصة لها، لسوء الحظ.
كان سيرجي توكاريف، في العقدين الأخيرين من حياته، مشغولاً للغاية بتصنيف الثقافة، كما انعَكَسَ ذلك في مقالاته حول مسائل دراسة الثقافة المادية، ودور الوعي الاجتماعي في مراحل مُختلفةٍ من تاريخ المُجتمع، ودور الاسطورة في الوعي الاجتماعي الحديث، ودراسة أشكال الطقوس من ناحية بُنيتها، وخاصةً العمل الجماعي المُكون من اربع أجزاء، الذي أُعِدَّ تحت اشرافه (الطقوس والعادات الموسمية في بُلدان أوروبا غير السوفييتية) 1973-1983. ولا يجب علينا أن نُغفِلَ ذكر قسم أوروبا الغربية في معهد الاثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية الذي كان تحت اشراف توكاريف: كان هذا أول قسم رسمي للاثنوغرافيين الأوروبيين ليس فقط في الاتحاد السوفييتي، ولكن في أوروبا، والذي احتضن مُجتمع الاثنوغرافيا الأوروبية بأكمله، والذي استَشرَفَ في كثيرٍ من النواحي، أشكال البحوث الاثنوغرافية التي نراها اليوم.
لقد عادَ مؤلف هذه المقالة (فاليري اليكسييف) كثيراً الى مقالة توكاريف المنشورة عام 1948 بعنوان (حول تشكّل مسألة النشوء الاثني)، بسبب طابع اهتماماته الخاصة، ولم يكف أبداً عن اندهاشه من الكيفية التي صيغَت هذه المسألة، والى أي مدى نجَحَ توكاريف في النظر الى المُستقبل واستشراف الاتجاهات الأساسية للبحث اللاحق، في زمنٍ كان العلم فيه لا يزال يقترب من بعيد الى نظرية النشوء الاثني، وكان مخزون المعارف لدينا حول الأمثلة الملموسة للنشوء الاثني لا يزال صغيراً نسبياً. ولكن يُمكن للمرء أن يذكر العديد من مقالات توكاريف المُشابهة.
قال بوريس الكساندروفيتش ريباكوف Boris Aleksandrovich Rybakov في كلمته الافتتاحية بمُناسبة الذكرى السبعين لسيرجي توكاريف: "هُناك ثلاث مؤسساتٍ اثنوغرافية في موسكو: معهد الاثنوغرافيا في أكاديمية العلوم السوفييتية، وقسم الاثنوغرافيا في كُلية التاريخ التابعة لجامعة موسكو، وسيرجي الكساندروفيتش توكاريف". وقد قُوبِلَت كلماته هذه بتصفيقٍ حاد من جميع الحاضرين.
والآن، رَحَلَ العالِم الذي كان يُجسّد فعلاً جامعةً اثنوغرافيةً بحالها. ولم يبقَ سوى مكتبةٍ من الكُتب والمقالات التي كتبها، مليئةً بالأفكار والخواطر والحقائق، تدعونا الى اجتراح انجازاتٍ جديدة.

* فاليري بافلوفيتش اليكسييف 1929-1991، عالم انثروبولوجيا سوفييتي، ومُدير معهد الأركيولوجيا في موسكو 1987-1991 وعضو في أكاديمية العلوم السوفييتية. قام اليكسييف بالتعاون مع أبرام اسحاقوفيتش بيرشيتز بتأليف كُتب جامعية مثل (تاريخ المُجتمع البدائي)، والذي صَدَرَ في 6 طبعاًت، كان آخرها عام 2007، نَشَرَ حوالي 20 كتاباً علمياً ونحو 500 مقال، منها: (الانثروبولوجيا التاريخية والنشوء الاثني) 1989، (جُغرافيا العرق الانساني) 1974، (أصل البشر) 1986، (أنثروبولوجيا العصر الحجري العالمي وتشكّل الأعراق الانسانية)، (أصل سُكان أوروبا الشرقية)، (أصل سُكان القوقاز) 1974.

ترجمة لمقالة:
V. P. Alekseev (1986) In Memory of Sergei Aleksandrovich Tokarev, Soviet Anthropology and Archeology, 25:3, 86-95








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي


.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط




.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص


.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل




.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري