الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار ليس موضة سياسية بل هو موقف وخيار

أسعد منذر

2024 / 2 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


اليسار : ليس "موضة" سياسية ... بل هو موقف وخيار
لفتني مؤخراً مقال ، نُشر على صفحة أحد الأصدقاء ، بعنوان ( أزمة اليسار والرجم الأيديولوجي ) ، مما دفعني لتقديم بعض الأفكار في هذا الخصوص ، وكي لا يسارع أحدٌ بالحكم المسبق ، أقدم لكلامي بالقول : إن اليسار واليمين ، سواء بصيغتيهما الفكرية " الأيديولوجيا " أم المادية الواقعية " الأحزاب والسلطات " ، ليس أي منهما منزهاً عن النقد نظرياً وعملياً ، ولكن في الفكر والسياسة كما في الفن والأدب ، النقد ذاته يصبح موضوعاً للنقد ، ومن هنا كانت مدرسة نقد النقد .
إنني من موقع اليساري ، أرى أن الذين ينتقدون اليسار كثرٌ ، ومن مشارب مختلفة ، ومواقع متعددة ، يمكنني أن أذكر منها
• أولئك الذين ينظرون إلى الإنتماء الفكري والسياسي ، نظرتهم إلى موضة الملابس ، ساروا بركب اليسار يوم كان اليسار يدفع بصاحبه إلى الأضواء ، ويضعه في مصاف النخبة المثقفة والثورية ، الساعية لتغيير الواقع بل لتغيير العالم ، ويرى هؤلاء أن الموضة قد تغيرت ، وكما يغيّر الواحد منهم ( موديل ) بنطاله وعدد الأزرار على ياقة جاكيته ، نراه يغير موقفه الفكري والسياسي ، فالموضة اليوم هي موضة اليمين والرأسمالية والعولمة والأتمتة ....الخ ، ومن يتفوه بهذه الكلمات في أحاديثه ، يحجز لنفسه – حسب ظنه – مكاناً بين النخبة المثقفة ، بل يرى البعض من هؤلاء أن التطاول على " ماركس " هو قمة الثقافة والمعرفة والإمساك بمفاتيح الفلسفة ، الفلسفة التي لا يعرف بعضهم معناها في أغلب الأحيان ، إن هؤلاء ورغم كونهم الأكثر استفزازاً والأكثر تشويهاً لروح المعرفة ولقيمة الفكر ، ورفعة الفلسفة ، فهم في الواقع لا يستحقون الوقوف عند آرائهم ومناقشتها ، لأنها ستتغير سريعاً مع تغير الموضة والظروف والمصالح الآنية
• آخرون ينتقدون اليسار من منطلق فكري ، ومن موقع اليمين ، هؤلاء لا يستطيع المرء إلا أن يحترمهم ، ويحترم خيارهم الفكري والسياسي ، رغم الاختلاف والخلاف ، ويظل الحوار على قاعدة حرية الرأي ، هو ساحة التعاطي والمعاملة
• فئة ثالثة ، هم يساريون عن حق ، يرون في اليسار خيار حياة ، ويؤمنون بمبادئه وخطوطها العريضة ، في العدالة الاجتماعية ، ومحاربة استغلال الإنسان للإنسان ، سواء أكان ذلك في العلاقات بين الأفراد والطبقات ، أم بين الدول والأمم المختلفة ، ينظر هؤلاء إلى إخفاقات اليسار وانتكاساته ، بعين المناضل الذي خسر معركة أو معارك ، ويظل مؤمناً بهدفه ، ينتقد الأداء والنظرية والتنفيذ والمنفذين ، في سبيل تصويب المنهج والخطة ، كي يتابع المسير نحو الهدف الذي لم يحد عنه ، ولا يرى عنه بديلاً ، هؤلاء من يعوّل عليهم في العمل والبحث والتنقيب ، من أجل تقييم وتقويم وتصويب النظرية ، من أجل تجاوز المعوقات وتخطي النكسات
• أخطر منتقدي اليسار ، أولئك الذين يدّعون الحرص على اليسار ، يبدأون بنقد اليسار وينتهون بالتنظير لليمين ، والدعوة للذهاب إلى خياراته الفكرية والعملية ، مستغلين إخفاق التجربة في المنظومة الاشتراكية السابقة ، وفي بلدان أخرى ايضاً ، ليستنتجوا أن النظرية كانت خاطئة بالكامل ، والهدف لم يكن صحيحاً ولا واقعياً ، والحل لا يكون إلا بالتوجه إلى الفكر اليميني الرأسسمالي ، والتصفيق لكل ما تأتي به العولمة والليبرالية الاقتصادية ، والتي يعزّ عليهم أن نصفها بالمتوحشة ، فهي طيبة ولطيفة ولا تضمر إلا الخير والمحبة للأفراد وللشعوب
اتفق مع صديقي في مقاله ، بأن إكتفاء اليسار بإطلاق الأوصاف الأيديولوجية على الرأسمالية والعولمة والليبرالية ، دون الاهتمام بتقويم وتصويب المسار ، وفق ما يقتضيه الواقع والاشكالات العملية والنظرية الراهنة ، يحوْل القوى اليسارية إلى جوقة شتامين عاجزة عن الفعل والتأثير ، لكن هذا لا يعني أن أوصافاً مثل الرأسمالية المتوحشة ، الليبرالية الجديدة المتوحشة ، العولمة المتوحشة ، هي أوصاف مجافية للحقيقة ، يكفي أن نذكر بدور الاحتكارات الزراعية الرأسمالية الأجنبية في دول أمريكا اللاتينية ، وسيطرتها الممنهجة على الأراضي الخصبة في هذا البلد ، أو احتكارها للزراعة الأساسية والحيوية لذاك البلد ، ودور شركات البترول العملاقة في السيطرة على إقتصاديات كثير من بلدان أمريكا اللاتينية ، كل ذلك يؤكد توحش الرأسمالية والليبرالية الجديدة والعولمة بما هي استهتار بخصوصية الشعوب وتراثها وحقها في حماية ثرواتها ، وبالتأكيد لا يوجد من يعارض أي معطى إيجابي للعولمة يقود إلى تواصل الشعوب والأفراد وتبادل الخبرات والمعرفة .
إن الحديث عن تجارب كوريا الجنوبية وماليزيا وأندونيسيا .... والبرازيل والهند والمكسيك ...الخ ، هو حديث عن تجارب مختلفة لكل منها ظروفها وتفاصيلها التي لا يتسع المجال للحديث عنها في هذا المقال ، لكن يكفي التذكير بدور صندوق النقد الدولي وتواطؤ الدول الرأسمالية الغربية والولايات المتحدة ، في أزمة النمور الأسيوية ، تلك الأزمة التي رسمت فيها الرأسمالية الأوروبية والأمريكية بنسختها الإمبريالية سقف طموح تلك الدول ، ونذكر بالظروف الاقتصادية التي تسبب هجرة واسعة من المكسيك إلى الولايات المتحدة ، والتي وصلت حداً جعلت ترامب يجعل من بناء جدار على حدود بلاده مع المكسيك ، من أساسيات حملته الانتخابية ، وكذلك دور الاحتكارات الأجنبية في الهند وسرقتها لمقدرات البلد والتحكم باقتصاده
أما بخصوص النجاحات الداخلية في الدول الرأسمالية المتقدمة ، وتحقيق مستويات مهمة من الرضا الاجتماعي فيها ،( السويد – هولندا – فرنسا ...... الخ ) فلا بد من القول أن قيمة أي مكسب إقتصادي ، أو مستوى حياة معينة ، لا يقاس بقيمته المطلقة ، بمعنى لا يمكن القول أن العامل في بلد ما مستوى حياته ممتاز ، لأنه يملك شقة سكنية على سبيل المثال ، ويدفع له راتب بطالة عند الضرورة ، إنما تقاس هذه المكاسب بقيمتها الإجتماعية ، أي ماذا تعني الشقة السكنية للعامل مقارنة بما يملكه الآخرون ، وماذا يساوي راتب البطالة في فرنسا مقارنة بدخل الطبقات الأغنى بل وبالحد الأدنى لمتطلبات العيش الكريم في مجتمعه ، هذا من جهة ومن جهة ثانية هاهي مظاهرات الفئات الفقيرة في كثير من الدول الرأسمالية ، تؤكد حقيقة مظلومية الطبقات الفقيرة ، والأهم من ذلك تؤكد الرغبة الرأسمالية المستمرة ، متمثلة في إدارات الدولة ، رغبتها في رمي كل الأعباء على الطبقات الفقيرة والأقل دخلاً في المجتمع ، وازداد الإمعان في تنفيذ هذه الرغبة حتى وصل الأمر إلى نقطة الانفجار ، هذا ويجب ألا ننسى السياسة التي يمثلها الكثير من الأوساط الرأسمالية في عدائها للتأمين الصحي ، وإصرارها على فرض مزيد من الضرائب على الطبقات الأقل دخلاً
إن القول بأن العولمة أمر واقع ، وهو قول صحيح بدرجة كبيرة ، لا يعني أبداً التهليل لهذا الأمر الواقع على كل ما فيه ، فكل الأوضاع الظالمة كانت يوماً أمراً واقعاً ، وغاية مناضلي اليسار يجب أن تكون تغيير هذا الواقع السيء ، أو على الأقل الحد من مساوئه .
يطرح الصديق النموذج الصيني مثالاً ، والتجربة الصينية ولا شك تجربة غنية ومهمة وجديرة بالاهتمام ، لكنها في جانب مهم منها أيضاً تطرح إشكالية فكرية وعملية على الفكر والنموذج الرأسمالي والليبرالي ، الإشكالية تكمن في أن التجربة الصينية لازالت تعتمد ( القيادة الفردية والإدارة المركزية ) وهذه القيادة والإدارة المركزية ، يعتبرها الصديق في مقاله ، وأوافقه بذلك ، أنها من مثالب اليسار ومن معوقات تطوير مشروعه ، لكن المفارقة أن الصين ورغم هذه الإدارة ، قد سارت في طريق إقتصاد السوق والليبرالية الإقتصادية ، مما ينسف إدعاء منظري الرأسمالية ومروجي الفكر اليميني ، في تلازم مسار الرأسمالية الاقتصادي مع مسارها الديمقراطي ، بمعنى أن الديمقراطية ليست ثابتة فكرية من ثوابت الرأسمالية ، الديمقراطية تهم الرأسمالية بقدر ما تؤمن مصالحها الاقتصادية وتفتح المجال لاحتكاراتها ولتراكم الثروة في أيديها ، والدليل تعايش الرأسمالية مع كثير من الأنظمة الاستبدادية والمتخلفة
يقول المقال أيضاً : ( مثلما يدعي هذا اليسار أن الرأسمالية قد استفادت منه في الجانب الاجتماعي – كتحديد ساعات العمل والضمان الاجتماعي والصحي – مع أن هذه أهداف إجتماعية عامة لنضال جميع الشعوب ، ليس لأحد فيها منة على أحد ، كما أنها وفق أولويات إنسانية لا تساوي شيئاً إذا لم يمارس الانسان حريته ومواطنيته اللذين فقدهما في النماذج الانسانية ) ، صحيح أن كل ما ذُكر هي أهداف إجتماعية عامة ، لكن الصحيح أيضاً ، أن من تبنى هذه الأهداف وناضل من أجلها على أنها حقوقٌ للأفراد والشعوب ، نظرياً وعملياً ، وضحى من أجلها ، هي قوى اليسار ، والذي تنكر لهذه الحقوق نظرياً وعملياً ، هو اليمين وقواه اليمينية ، والرأسمالية لم تعطِ الطبقات الفقيرة شيئاً من حقوقها إلا غصباً وعنوة ، تحت ضغط أزمات الرأسمالية ذاتها ، ونضال المظلومين وتضحياتهم ، وهذا الكلام لا يعني أنني لست ممن يأخذون على اليسار إهماله وعن قصد في معظم الحالات ، أهمية الحقوق الأعلى مستوى من الحقوق المباشرة في لقمة العيش والحياة ، حقوق الرأي والتفكير والمواطنة
يقول المقال : ( فضحت ثورة الشباب السلمية ،في أهم منطقة في العالم ، منطقتنا العربية ، تفاهة اليسار العربي والعالمي ، اللذين اختارا الوقوف جانب أنظمة مستبدة ومتخلفة على شاكلتهما ) ، وإن كنت لا أوافق على صيغة العبارة ، لكنني أوافق على أن ما حدث ، قد كشف ضعف دور اليسار العربي ، في توجيه الأحداث وعدم إنزلاقها إلى التطرف الديني والارهاب ، لكن الصديق كاتب المقال يقول عكس هذه الفكرة في مقاله المنشور في موقع ( زايد – سلمان ، الألكتروني ، والذي يشيد فيه بإصلاحات ولي العهد السعودي ، وبآفاق رؤية السعودية 2030 )
إذ يقول : (وبغض النظر عن مزاعم بعض المتضررين من هذه الاصلاحات أو منتقديها ، من الداخل أو الخارج ، بأنها ليست موضوعية إنما جاءت استجابة لعوامل خارجية في مقدمتها حرب اليمن وأخرى داخلية تتعلق بطموحات ولي العهد محمد بن سلمان ، إلا أنها تمكنت من تقويض سلطة المؤسسة الدينية والذهاب إلى تنويع مصادر الدخل في الاقتصاد القومي ، ورسخت دور السعودية التي لا يمكن بناء معادلات المنطقة من غيرها ولا تحل بدونها . ومن يظن أن المملكة العربية السعودية ـ كما الدول العربية ـ قابلة للتغيير الثوري الجذري من الاستبداد إلى الديمقراطية من دون عمليات انتقالية تراكمية فهو واهم وساذج ولا يفقه شيئاً في التطور التاريخي ولا في السياسة الدولية ولعبة المصالح فيها ..) ، فإذا كان هذا رأيه في آلية الإصلاح والتغيير في السعودية ، وكل الدول العربية ، فلماذا يأخذ على يساريي العرب ، وقوفهم ضد التغيير( الثوري ) العنيف ، ويصف بالتفاهة دعوتهم إلى الإصلاح من الداخل ، ودفاعهم عن دور الفرد في هذا الإصلاح قياساً على التجربة السعودية ، اليساريون برأيه تافهون إن نادوا بالإصلاح التدريجي ورفضوا التغيير الثوري العنيف ، وهم ساذجون لا يفقهون في التطور التاريخي ولا في السياسة الدولية ولعبة المصالح فيها ، إن وافقوه رأيه الأول وطالبوا بإصلاح ثوري في السعودية وباقي الدول العربية - حسب تعبيره - وكما يقال | تحَيّرنا يا أقرع كيف بنّا نمشطك | !!
في النهاية أقول ، أن اليسار هو خيار حياة ، هو الوقوف مع العدالة الاجتماعية ، مقاومة الاستغلال وتغول الانسان على الانسان بأي شكل وأي صيغة ، هو حرية الأفراد وحرية الشعوب ، وإن الأخطاء والاخفاقات والهنات النظرية والعملية ، لا تغير من سمو ونبل الهدف ، إنما تدفع إلى تقييم المسار وتقويمه ، وتغيير الأسلحة والأدوات ، وليس تغير الأهداف والثوابت الأساسية ، اليسار خيار وليس موضة تتغير حسب الفصول والمواقع والمناسبات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: غانتس اختار أن يهدد رئيس الوزراء بدلا من حماس


.. انقسامات داخلية حادة تعصف بحكومة نتنياهو وتهدد بانهيار مجلس




.. بن غفير يرد بقوة على غانتس.. ويصفه بأنه بهلوان كبير


.. -اقطعوا العلاقات الآن-.. اعتصام الطلاب في جامعة ملبورن الأست




.. فلسطينيون يشيعون جثمان قائد بكتيبة جنين الشهيد إسلام خمايسة