الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النزوع الانشقاقي في الأحزاب السياسية...مسببات وأسباب!

عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث

2024 / 2 / 17
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


النزوع الانشقاقي في الأحزاب
السياسية...مسببات وأسباب!

العمل الحزبي وافر النصيب من نَعت الحقيقي، في أهم ميزاته ومقوماته، تطوعي محمول على اشتراك أعضاء الحزب في القناعة بمرجعية فكرية محددة، والدفاع عن مصالح الشعب خصوصًا الفئات الفقيرة والمهمشة. لذا، وفي سبيل الحفاظ على البناء التنظيمي للحزب، يُفترض أن تسود الروح الرفاقية معززة بحرية التعبير داخل الأُطر التنظيمية وخارجها والانفتاح على ثقافة الاختلاف، بحيث تفضي هذه كلها إلى تجديد القيادات بالطرق الديمقراطية. فمن أبدَه الحقائق في مضمار ما نحن بصدده، أن قوة الحزب وفاعليته ترتبطان بمدى تماسكه الداخلي، وبراعته في إدارة الخلافات بما يغلق الأبواب والنوافذ أمام النزوع الانشقاقي ويحول دون وصولها إلى اللاعودة. لكن درب هذه الينبغيات المثالية، ليس سالكًا بسهولةٍ دائمًا.
الحزب السياسي يعمل في واقع يتأثر به بالتأكيد، ويؤثر فيه بهذا القدر أو ذاك من دون شك، وله انعكاساته على الأعضاء بلا ريب. في واقعنا العربي خاصة، تسود أنظمة حكم سلطوية تسلطية، لا تقبل وجود قوى سياسية تنافسها على كعكة السلطة والثروة. لذا، دأبت طوال العقود الفارطة على إنهاك الأحزاب، الوطنية ذات الرؤى التقدمية الواعية خاصة، بالإعتقالات والتعذيب وارغام الأعضاء على مغادرتها بالترغيب والترهيب، تحت سطوة الحرمان من العمل والملاحقة وتشويه السمعة. وفي بعض البلدان العربية، استطاعت الأنظمة إحداث انشقاقات داخلية شملت العديد من الأحزاب. في أيامنا هذه، وبضغط تحولات العصر وضرورات العلاقات الخارجية، تضطر الأنظمة إلى ان تتزيَّا أحيانًا بأردية "العصرنة" وتتجمل بأكسسوارات الديمقراطية. لكن مساحيق التجميل في العالم كله، أعجز من أن تُصيِّرَ القردَ غزالًا. فأقصى ما تريده الأنظمة من الأحزاب أن تكون أشجارًا تُزيِّن حدائقها، ولكن من دون ثمر يُغري ويجذب أو روائح عَطِرَة تُلفت وتشد.
لا تنحصر انعكاسات الواقع على الأحزاب بما أنف ذِكره في سطورنا السابقة، بل تتفرع في أكثر من اتجاه. هذا الواقع، في المبتدأ وفي الخبر، نتاج ثقافة. والسياسة ترتبط بالثقافة، ارتباط تلازم. ولا يخامرنا ظل من شك بكمون ترسبات الثقافة المجتمعية السائدة، في أعماق اللاشعور داخل كل عضو من أعضاء الحزب وإن بتفاوت، بغض النظر عن عمر تجربته الحزبية ومرجعيته الفكرية. فالإنسان، حسب ابن خلدون في مقدمته، "ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقًا ومَلَكَة وعادة تنزَّل منزلة الطبيعة والجِبِلَّة". ويؤيده في ذلك عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، إذ يقول:"إن الإنسان نتاج ظروفه الاجتماعية أكثر مما هو نتاج نسبه أو وراثته الطبيعية. فإذا نشأ الإنسان في بيئة تسلط عليه منها ضغط أو قسر اجتماعي، صار يؤثر على تفكيره، وعاداته من حيث يشعر أو لا يشعر". وعند كارل ماركس، "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". لا نرى شيئًا من المبالغة في القول بأن الحوار ليس جزءًا من ثقافتنا، عندما يتعلق الأمر بالسياسة و"الزعامة" خاصة، بدءًا برئاسة الدولة، مرورًا بقيادة الحزب، ووصولًا إلى ترؤس جمعية خيرية. في ثقافتنا العربية، ترسخ منزع التشبث بما يسميه ابن خلدون "الرياسة"، منذ الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، الذي لم يتردد في توظيف المقدس لهذه الغاية في قولته الشهيرة:"لن أخلع قميصًا ألبسنيه الله". الحقيقة التاريخية، أن الله لم يعين عثمان خليفة ولم يلبسه قميص الخلافة بالتأكيد، بل اختاره خليفةً عبدالرحمن بن عوف رئيس مجلس الستة الكبار، الذي شّكَّله عمر بن الخطاب عندما شعر بدنو أجله، ليختاروا خليفة منهم. وقد وضع عمر قواعد صارمة للإختيار، شملت قَتْل من يخرج على الإجماع لعلمه الأكيد بحجم جمر الصراع على السلطة المتراكم تحت الرماد بانتظار اللحظة المواتية، وعلى وجه التحديد بين الهاشميين والأمويين. فهل تغير الحال كثيرًا في الحاضر؟! نجازف بالإجابة، من دون تردد، بلا النافية. ومن أدلتنا الدوامغ المؤيدة لهذه الإجابة، حقيقة أن الصراع على السلطة هو الفاعل الرئيس في تاريخنا السياسي، منذ امرئ القيس وحتى معمر القذافي. في واقع عربي هش على صعيد تخلف وسائل الإنتاج، انعكس ضعفًا وهشاشة على البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ما تزال عصبيات ما قبل الدولة أُطُرًا اجتماعية تُمارس فيها السياسة. وفي مقدم هذه العصبيات، القَبَلِيَّةِ والجهوية والطائفية والمذهبية. ونحن عندما نستحضرها، فإنما نعني جوهرها المتمثل بالنعرة والتناصر لذوي القربى، ثم الغلبة والتغالب والتنازع، وهذا الثالوث من أهم مركباتها. هل الأحزاب السياسية بمنأى عن مفاعيل عصبيات ما قبل الدولة، وتمثلاتها؟! قطعًا لا، والدليل شاخص في ممارسات قياديين حزبيين، على جري "سُنَن" الحُكَّام، ووجهاء القبائل وما يماثلها في النعرة العصبية من المكونات المجتمعية، في التشبث بالموقع أو النفوذ داخل الحزب حتى لو تأدى ذلك إلى الإنشقاق. فهؤلاء وأولئك قد يختلفون في الرؤى السياسية، لكنهم في المحصلة نتاج واقع ما تزال القبيلة والغنيمة من أهم محددات العمل السياسي فيه، بلغة محمد عابد الجابري.
ولعل أظهر تبديات مفاعيل العصبيات المومأ اليها فوق في العمل الحزبي، اختيار القيادات الحزبية على مختلف المستويات بالتوافق. لربما تفرض ظروف ما هذا النهج مؤقتًا، لكن استمراره قد يتحول إلى انشقاق في أية لحظة. وكلما أُثخن الحزب بالانشقاق، يضعف أكثر وتنشل حركته.
العمل الحزبي يقوم على أرضية فكرية، وكفاءة في الأداء معززة بثقافة على رفعة في المستوى. وينهض بِخَلق مجال فكري يُمارس فيه العمل السياسي بالحوار والنقد البناء، ومراعاة ثقافة الاختلاف، واحتضان الاتجاهات الفكرية والاجتهادات دون تمييز. بناءً على هذه الأسس وانطلاقًا منها، يختار الحزب قياداته بأسلوب ديمقراطي وليس بالتوافق.
في سياق ما تقدم وتأسيسًا عليه، نشير إلى أن الصراع ولا نقول التنافس، على منصب أمين عام الحزب أو رئيسه يقبع في قائمة أبرز أسباب الإنشقاقات في الأحزاب والاستقالات منها. حتى أحزاب الحكومات، التي تتشكَّل بالريموت وتتحرك به، ليست بمنأى عن هذا الداء للسبب ذاته. وتتغذى ظاهرة الإنشقاقات والاستقالات من الانتهازية السياسية، وتغليب المصالح الخاصة. كما تمتح من تدني المستوى الثقافي والمعرفي، فأعضاء الأحزاب ليس كلهم على رفعة في السوية الثقافية والفكرية. وعليه، ونتيجة لضعف الممارسة الديمقراطية، فإن الاصطفافات غالبًا ما تتشكّل، إثرَ نشوب الخلافات، على المصالح والعلاقات الشخصية وأسس سبق أن أضأنا عليها ولا نرى ضرورة لإعادة بسطها.
وليس يفوتنا ملاحظة ظاهرة لها قسطها أيضًا في زيادة منسوب التأزيم داخل هذا الحزب أو ذاك، ونعني "الباراشوت". هنا، تلتقي الأحزاب والحكومات، لجهة الهبوط بالباراشوت على المواقع القيادية بالنسبة للأولى، والحلول في المناصب بالوسيلة ذاتها على صعيد الثانية. ناشط ما، يكتنف ماضيه السياسي الغموض وتثير ممارساته التساؤل بين كوادر الحزب، لكنه على الرغم من ذلك يحل في موقع قيادي متقدم ويتحين الفرصة للظفر بمسمى أمين عام الحزب أو رئيسه.
رب سائل دارت بباله طائفة من الأسئلة مما مضى، يتصدرها السؤال: وماذا عن بنية الحزب، ألا تتحمل قِسطًا من المسؤولية عن تدهور أوضاعه الداخلية وبلوغها حد الإنشقاق الصامت؟!
سؤال جدير بالطرح، لا مِرية في ذلك ولا شك. ويطيب لنا أن نبدأ الإجابة بالجمود العقائدي والتكلس الفكري، ثم نضيف إليهما التفكير الاجتراري النمطي المتحجر، في عصرٍ سريع الإيقاع والتحول. هذا الشق من الإجابة، يستدعي آخر يتعلق بديناصورات لا تخلو منها الأحزاب التاريخية على وجه أخص، الحركة تُخيفها والسؤال يُبهتها والتغيير يُرعبها. نقول ذلك، وفي البال أزمنة "عبادة الفرد" و "الولاءَات الشخصية" و"احتكار القيادة" و "الأوامر الفوفية".
نكتفي بهذه الإحاطة المكثفة، في تسليط الضوء على ظاهرة مرضِيَّة في حياتنا السياسية توهن العمل الحزبي. والمرض عادة ما يكشف أعراضه بقدر ما تكشفه هي أيضًا، ونراها في أربعة: ضعف التماسك الحزبي، والصراع على قيادة الحزب، وتغليب العام على الخاص. ولا نستبعد وجود عَرَض رابع، يتمثل في عدم استقلالية بعض قياديي الحزب وكوادره في اتخاذ القرار. غايتنا، تحفيز أصحاب الرأي والفكر وكل معني، للمساهمة في ابتكار العلاج الفاعل الناجع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Politics vs Religion - To Your Left: Palestine | فلسطين سياس


.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي




.. الجزيرة ترصد مطالب متظاهرين مؤيدين لفلسطين في العاصمة البريط


.. آلاف المتظاهرين في مدريد يطالبون رئيس الوزراء الإسباني بمواص




.. اندلاع اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل