الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في صحبة اللئيم والقاضي والجاني

عبداللطيف هسوف

2006 / 11 / 29
الادب والفن


دخل أشرف وحسام حانة الوازيس التي تتواجد بها حلبة لدحرجة الكرات الحديدية. كانا يجلسان بعيدا، ينأيان ‏بأنفسهما عن جوقة المتبارين والمتفرجين، لكن صوت اصطدام الكرات الحديدية وزعق اللاعبين المخمورين لم ‏يتوقفا. مزاحهم وضحكاتهم الدرداء وتصفيقهم وسبهم لبعضهم البعض لا ينضب له معين. كان كل ما يدور في ‏الحلبة يصل إلى مسمعيهما، لذا اقترح السيد حسام على أشرف أن يصحبه إلى معزبته. لم يطمئن أشرف لهذه ‏الدعوة، فأقنع جليسه أن يذهبا إلى حانة أخرى هادئة لا يحج إليها عدد كبير من المتنادمين. أن يدفع أشرف ثمن ما ‏يشربه السيد حسام، ولو شرب برميلا من الخمرة المعتقة والجعة، أخف من أن يؤدي خسارات فيلق من السكارى ‏يتقاطرون من دون سابق موعد على معزبته.‏
تردد حسام، ثم عاد يتبع أشرف واجما كأنما لم يحقق ما كان يخطط له منذ قام من نومه. لا تحسبن أن جليس ‏الخمرة يكون دائما بالمجان. يجب أن تدفع لتصاحب بعضهم. لماذ؟ لأن الخمر لا يحلو إن لم يكن معك جليس ‏يكرع الكأس، ويعرف كيف يكرعها، حتى وإن كنت تعلم مسبقا أنه لئيم خسيس. على كل حال، كان أشرف يعتبر ‏كرمه ثمنا لسماع صوت كرع الكؤوس. آه يا أشرف، أنت الذي تعطي للصداقة حق وللمنادمة حقين، قل أمثالك ‏في هذا الزمن المتردي‎!‎‏ آه يا أشرف، قالها شاعر العرب: ‏
إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ‏
أين هم الكرماء؟ لئام أينما صددت ووجهت وجهك. لئام يا أشرف، إن أكرمتهم استصغروك وطمعوا فيك ‏أكثر. أعطه يدك، يطمع في ذراعك، على حد تعبير المثل الفرنسي. لا تستشعر الخيبة على حالك يا أشرف، لست ‏أنت المخطئ، بل هم المخطئون. تظنهم رجالا حين يجمعك بهم المجلس، ثم ما تفتأ تكتشف أنهم شياطين. لكن لا ‏تيأس يا أشرف، فإن مجالسة ابن ناس واحد يمسح خطايا مجالسة مائة ولد زنا. أولاد الناس موجودون رغم ‏نذرتهم يا أشرف.‏
أوقف حسام سيارته أمام مدخل الحانة الهادئة. ترجلا وسارا في تؤدة لا يتكلمان. صعدا الدرج المفضي إلى ‏قاعة شبه فارغة. جلسا يسكران بعد أن جاءهما النادل بقناني الجعة المثلجة وطبقين من الزيتون والفجل. عادات ‏منتظمة يقوم بها النادل مع كل زبون يدخل الحانة. أصبح أشرف تلك الأيام لا يأنف شيئا. يشرب أي نوع من ‏الخمور، حتى الرديئة منها، بل لا يشرب غير الرديئة الرخيصة الثمن. ‏
كانت الإضاءة ضعيفة جدا بجانب من القاعة. بزاوية نائية من مائدة أشرف وحسام، كان يجلس رجل خمري ‏اللون تبدو صورته غبشاء. لا يبدو منه سوى وميض عينيه، كأنما هو زنجي امتص الظلام جسمه. كانت تجالسه ‏أنثى لا يراها أشرف، هي خارج مجاله البصري تماما. لا يسمع لها كلاما، اللهم بعض الضحكات المكتومة التي ‏كانت تصدر من وراء سارية سميكة بين الفينة والأخرى. بالزاوية المقابلة الأكثر إضاءة، انتبه أشرف إلى رجلين ‏يعرفهما حق المعرفة. يعرفهما متناقضين لكل واحد منها عالم مختلف عن الآخر، إن لم نقل إنهما على طرفي ‏حبل نقيض. جاءا من نفس الحي الذي كان يقيم فيه أشرف: الأول قاضي والثاني مجرم صاحب سوابق. كانا ‏مستغرقين في لعب الورق، كانا يقامران. أوراق نقدية تمرر من جانب إلى آخر مع نهاية كل جولة لعب. كانا ‏مرتاحين لا يعبئان بما يدور من حولهما. الظاهر أنهما اعتادا على المكان واعتاد المكان عليهما: الجاني ‏والقاضي؟ ‏
هذا القاضي أمره غريب. نبث في عائلة فقيرة فقرا مدقعا. أمضى أيام دراسته الجامعية يحفظ دروس القانون ‏المدني والجنائي تحت أضواء أعمدة مصابيح الساحات العمومية، وذلك حتى يوفر لوالديه ثمن الإنارة ليلا في ‏البيت. كان أشرف يراه دائما يرتدي جلبابا من الصوف ليحتمي به من برد الليالي القارص. كان يلبس نظارات ‏كبيرة لتجميع تشتت البصر، زجاجاتها مشققة تمنعه من الرؤية الواضحة، لذا فهو دائما يمشي كمن يتحسس لرجليه ‏موطئا في الظلام. يجلس على حجر ويسند كتفيه إلى عمود المصباح العمومي يستظهر عن ظهر قلب كراسات ‏القانون. ملكة الحفظ قبل ملكة التفكير والتدبر هي معضلة التعليم في دولنا العربية قاطبة. حصل على الإجازة، ثم ‏التحق بمدرسة القضاة. أدى القسم وتخرج برتبة قاضي يحكم ويفصل في أمور الناس. أصبح قاضيا صاحب حل ‏وعقد في بلده، لا تعلو كلمة فوق كلمته، فهو من يمثل القانون أسمى واجبات وحقوق المواطنة. اشترى سيارة ‏فخمة وارتدى قميصا أبيضا وبدلة سوداء وربطة عنق ملونة ليقطع نهائيا مع حياة البؤس السابقة. تنكر لكل ‏أصدقائه القدامى وجيرانه وأصيب بكبرياء فضيعة لم يستطع الفقر والحاجة خلال أيام دراسته إلجامها. تمسكن ‏حتى تمكن ، على حد تعبير المثل المغربي. ‏
جليس القاضي، الجاني الذي يقامره من نفس حيه، لكنه قطع مع الدراسة ولما ينهي الإعدادي. دخل يوما إلى ‏القسم يعتمر قبعة أمريكية كتلك التي يعتمرها رعاة البقر في أفلام الهنود الحمر. وجه له أستاذه سؤالا في التاريخ، ‏وعوض أن يجيب، قام وكشف عن ما تحت صرته، وراح يتبول في ركن من القسم. كان محششا لا يعي أي ‏شيء. تلك كانت آخر أيامه مع الدراسة. خرج المنحرف إلى الشوارع يسرق كل ما تقع يديه تحته. أصبح كما ‏الرعاع إن شتم مر وإن ضرب فر وإن سرق اختفى. ظل على ذي الحال إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن. كلما ‏أفرج عنه بعد سنة أو سنتين، يعود إلى السرقة والصعلكة مرة أخرى، ثم ما يفتأ يعود إلى الحبس بعد شهور ‏معدودات. الآن يظهر أنه فهم اللعبة. يصاحب الناس المرموقين في المجتمع. يقامر، وربما يغش ليربح أموالا ‏كثيرة يجود بها من هم مثل القاضي الذي أصبح رفيقه في السكر والقمار. ولربما لا أحد منهما يشقى كثيرا ‏للحصول على المال. القاضي مرتشي وجليسه يأخذ رشوته بالقمار. سارق يسرق سارقا. القاضي يمكر والصعلوك ‏يذيقه عاقبة مكره بالمكر فوق مكره. كل واحد وطريقته في السرقة، كل واحد وطريقته في المكر. نعم، القاضي ‏الذي كان من المفروض أن ينطق بحكمه وينزله شديدا على السارق كما تنزل المطرقة على الحديد، هاهو ‏يجالسه، بل ويتقاسم معه جزءا من الرشوة التي يسلبها من أبناء الشعب المغلوبين على أمرهم. ‏
آه يا أشرف، لن تفهم هذا المجتمع الفاسد وإن سعيت إلى ذلك بكل فكرك وتجاربك ومعرفتك الواسعة. تذكر ‏أشرف القاضي السيد الزبير الذي كان إلى جانب مهنة القضاء، يحدث في الناس بمسجد حي الحبوس. عادت له ‏ذكراه أيام كان يرافق أباه للاستماع للدروس الدينية. تذكره يتحدث عن العدل وهو يبكي أمام الناس من هول ‏المهمة التي كلف بها. قاضي يحدث في الناس ويبكي من تفريط يكون قد قام به عن سهو، وقاضي آخر يسكر مع ‏سارق عربيد ولا يفكر مرتين في حكمه قبل أن ينطق به، خاصة إذا كانت الرشوة دسمة. يا للفارق مع امتناع ‏المقارنة‎!‎‏ ‏
لماذا يا أشرف تحاول نسخ الحاضر على القديم؟ لماذا تحاول جاهدا مطابقة الفاسد للصالح؟ أين لهذا الزمان ‏المتردي بقاضي من طينة أبي موسى حجاج بن إبراهيم التجيبي الغماتي. هذا المراكشي الصالح الذي كان يعد في ‏الزهاد المبتلين وكان له تبحر في الفقه ومعرفة بأصوله وبصر بعلم الحديث، هذا مع نزاهة نفس وطهارة عرض ‏وتصميم في الحق أفرط فيه حتى ثقلت على كثير من وجوه الدولة وطأته ونالوا منه عند الخليفة أبي يعقوب ‏يوسف الموحدي، فما زاده ذلك إلا حباً وتقريباً إلى أن مات. وقد بلغ من رقة قلبه وسرعة دمعته أنه دخل يوماً ‏على أمير المؤمنين أبي يعقوب الموحدي وقد بل لحيته ورداءه بدموعه. فلما مثل بين يديه زاد في البكاء، فسأله ‏الخليفة عما أبكاه، فقال: يا أمير المؤمنين سألتك بالله إلا أعفيتني. قال: عزمت عليك لتخبرني أولاً بسبب بكائك. ‏قال: بينما أنا قاعد في مجلس الحكم إذ أتيت بشيخ سكران كنت قد حذرته مراراً، فكان من كلامي أن قلت له: يا ‏شيخ، كيف تحشر؟ ففتح يديه وقال: هكذا. فوالله ما ملكت دمعتي حين عرفت ما عنى بقوله، إنما عرض لي بقول ‏النبي صلى الله عليه وسلم: "إن القاضي يحشر مطوقة يداه إلى عنقه، فإما أن يحله عدله أو يهوي به جوره!" هذا ‏معنى الحديث، فأسألك بالله إلا أعفيتني؟ فوعده الأمير بذلك. فقال القاضي: عسى أن يكون في مقامي هذا، فقال له ‏الأمير: لا أفعل حتى أجد عوضاً منك. فخرج من عنده، فما لبث إلا أياماً يسيرة حتى مات! . ‏
دع يا أشرف أمر الخلق للخالق وتبلد أنت الآخر رفقة اللئيم السيد حسام الذي يجالسك الآن، تبلد بما توفر لك ‏من جعة وخمرة. تبلد يا أشرف، انسى. انسى لتعيش يا أشرف. ما في الهم غير الذي يفهم ، أليس هذا ما تردده ‏أمك كلما سمعت عن أمر غريب. لماذا تسعى أن تفهم؟ تبلد يا أشرف، تبلد، تبلد. الخمرة ستسعفك وترمي بك في ‏أحضان البلادة بعد قليل. لا عليك، ستهجرك الأفكار القرحة، وتصبح كما هؤلاء المشوهين أمامك. نعم، ستصبح ‏واحدا منهم، مشوه مثلهم. إذن لا داعي لتحميض الكلام يا أشرف، لا دعي للنقد والتأسف على أحوال المجتمع. ‏أنت أيضا واحد من هذا المجتمع المشوه. مشوهون لا يخلقون غير كيان مشوه، أليس كذلك؟ غض الطرف يا ‏أشرف. غض الطرف، أو أقول لك: افقأ عينك لتعيش بسلام. وإن لم تستطع، استبلد يا أخي. اطلقها تسرح ‏وترتاح أنت الآخر . ‏
أشرف يشرب لأنه ارتمى في أحضان المعتقة يوما كان فيه مهموما مغبونا، ثم استطاب عادة التبلد لما كان ‏للشرب من أثر على نسيان الواقع المر الذي يحيط به. آه يا أشرف من تلك الأيام المغرقة في الحزن‏‎!‎‏ تلك الأيام ‏التي توالت فيها عليك الأسئلة ولم يسعفك سنك ولا تجاربك في إيجاد الأجوبة المقنعة لها‎!‎‏ ‏
شربا بضعة قناني أخرى من الجعة، ثم قاما يسندان بعضهما البعض. تبلد أشرف الآن. لن يرفض دعوة السيد ‏حسام للالتحاق بالمعزبة. إنها العادة، والعادة أشد ضراوة من الضرورة. عادة الشرب كلما حل المساء. لتنتظر ‏الضروريات والواجبات. أصبحت ضحية عاداتك يا أشرف، لتؤجل القراءة والكتابة إلى وقت لاحق. الخمرة أولا ‏وأخيرا، الخمرة تطلبك يا أشرف. صحبة السكارى كل مساء لإنهاء الليل في الشرب والعربدة والكلام الزائف. ‏ألقي بنفسك في الشرب لتسترح يا أشرف. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_