الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرهاب.. والتشافي بالحب في رواية / بعض الفرح قد يكفي/ للكاتبة السعودية ريم عبد الباقي دراسة ذرائعية تقنية بقلم الناقدة السورية الدكتورة عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2024 / 2 / 18
الادب والفن


مما لا شك فيه إطلاقًا، أن الأدب بالعموم، والأدب العربي بالخصوص، هو أدب مزروع في تربة واقعه، إلّا ما ندر، وهذه الندرة قد لا تلاقي الإقبال إلا عند القلّة، والرواية العربية، بشكل خاص، معنية بهذا الواقع المعاصر، الحافل بالكثير من القضايا الشائكة التي يتسرسب الإرهاب والعنف والتطرّف من بين اشتباكاتها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية، حتى يمكننا القول بأن الرواية العربية هي فن أدبي مقاوم لظاهرة العنف والإرهاب والتطرّف، كما كان الأدب العالمي مقاومًا للعنصرية والتخلّف وداعمًا قويًّا لقضايا التحرّر في العالم. وهذا ما تسميه الذرائعية ب (الخلفية الأخلاقية)، فالذرائعية لا تتناول بالدراسة النقدية النصوص الخارجة عن منظومة الأخلاق الإنسانية العالمية، والنص الأدبي من منظور ذرائعي هو نصّ رسالي موجّه من الكاتب إلى المتلقي، بما يخدم مصالح مجتمعه، ويساعد على الارتقاء به، وحمايته وشدّ أواصره بعيدًا عن العدائية والتفرقة والتفكيك والتجهيل.
ورواية ( بعض الفرح قد يكفي) للكاتبة السعودية ريم عبد الباقي هي رواية اجتماعية تبحث في موضوع الإرهاب من وجهة اجتماعية وإنسانية، تدينه وتتشافى من تأثيراته بالحب والمسامحة والقيّم الخيّرة.
1- البؤرة الثابتة :
ومن هذا المنطلق الأدبي والأخلاقي المسؤول تقدّم لنا ريم عبد الباقي روايتها المعنونة ب ( بعض الفرح قد يكفي) ضمن هذه الثيمة ( ثيمة الإرهاب والعنف والتطرّف)، كاشفة عن راديكالية الفكر الإرهابي الديني المتطرف، والمعزول تمامًا عن سماحة التعاليم الدينية، فالدين شرع الله ولا يمكن أن يأتيه الإرهاب، لا من بين يديه ولا من خلفه، وهو بريء منه ولا يمكن أن يلحق أو يوصم به...
المبتكر عند ريم أنها تقدّم لنا هذا المفهوم من زاوية لم يتطرّق إليها أحد قبلها، وهي الصراعات الفكرية والنفسية والاجتماعية الانعكاسية التي تنال قسمتها ونصيبها الكبير من أسرة الشخص الإرهابي، فتعالوا نبحر معًا بين أمواج تلك الصراعات، لنقف معًا على مقدرة ريم عبد الباقي في إيصال فكرها المعتدل ووعيها السليم وثقافتها المدركة لماهية الأمور المُشْكِلة، وكيف عالجت التأثيرات النفسية والاجتماعية السلبية لهذا الموضوع بسلاح القوة الناعمة، الحب والمصالحة والمسامحة وكل القيَم الخيّرة، عبر فن الرواية.
2- بصريًّا:
ومنه بدأت ريم عبد الباقي بتوظيف تقنية التشويق والإثارة والتحفيز.
• العنوان:
بعض الفرح قد يكفي
استخدمت الكاتبة مفهوم التبعيض باستخدام مفردة( بعض) لتشير إلى اقتصاص جزء من الكل، وهو في الغالب جزء يسير، وتشير فيه أيضًا إلى تسيّد الضد، فالفرح متحقّق الوجود ببعضه فقط، والضد ( الحزن ) متحقّق الوجود بكلّيّته، و(قد) حرف يفيد التحقيق والتوكيد إذا جاء مع الفعل الماضي، أما إذا جاء مع الفعل المضارع، يكون تارة حرف توقّع يحمل معنى الشك والتقليل، وهو الأكثر، وتارة يكون حرف تحقيق، وهو قليل. في هذا العنوان جاء مع فعل مضارع ( يكفي)، فحمل معنى التشكيك، وتأرجح بين التقليل والتحقيق، فجملة العنوان بالمجمل هي جملة مزعزعة بين سيطرة الكلي السائد ( الحزن)، واحتمالية التحقّق الجزئي (الفرح) والشك في مدى كفايته، ولكن جزء من الاحتمال لا يمكن أن يلتقي مع التوكيد...
وهي أيضًا دلالة لغوية تحيل إلى الإيمان بقدرية تبدّل الحال السائد، والأمل بتحقّق ضده، بما قد يخالف منطق المألوف، والرضى بالقليل من حدّ الكفاية، وهو عنوان لرسالة إيجابية مكثّفة تختصر رسالة المتن الروائي.
• الغلاف الأمامي:
لوحة مرسومة، لامرأة شابة، جميلة بشعر أسود طويل، ترتدي ثوبًا بلون أزرق غامق، يتدلى من أذنها قرط ذهبي حلقي الشكل، تبدو حالمة مغمضة العينين، تقف في شرفة، تسند ذراعها على الحافة العلوية للشرفة، وذراع اليد الثانية مسنودة على الحافة بالكوع، وكفّها يسند جانب الوجه، على حافة الشرفة تقف حمامة بيضاء تنظر إلى الشابة، والحمامة البيضاء كما هو معروف هي رمز تقني للسلام، ألوان اللوحة بحميميّتها تأخذنا نحو لوحات الفنان المصري محمود سعيد.
واللوحة تكثيف إيحائي بصري عن حال الشخصية البطلة في الرواية ( غالية).
• الغلاف الخلفي:
مقطوعة نثرية تكمل بها الكاتبة ريم عبد الباقي عتباتها الخارجية، وهي آخر المثيرات التي تحاول فيها أن تحفّز المتلقي للإقبال على قراءة متن الرواية>
في هذة النثرية استخدمت الكاتبة تقنية العرض Exposition :التي يستخدم فيها الكاتب ما يشبه المخطط البياني للرواية، ويُعتبَر كأداة توجيهية تساعده على تنظيم أفكاره وزمكانية أحداثه الخاصة والعامة عند كتابة قصة أو الرواية، استنادًا إلى خمسة أسئلة :
- من، ما ؟
- وماذا ؟
- ومتى؟
- وأين ؟
- ولماذا؟
وأسئلة أخرى قد تنشأ عند الشروع بالكتابة، وأيضًا يساعد فيها المتلقي على الاستعداد لتلقي النص بتأطير مساحة التلقّي بما لا يخرجه عن حيّز المفهوم الذي يريده الكاتب، تقول:
- ما الذي يمكن أن يكون أقسى من الموت؟!
- الغياب مثلًا.. أن تحيا على أمل عودة من لا يعود، طعنة الغدر، الوهم الذي تخلقه وتحيا به لتستطيع التأقلم مع الواقع، الرعب من المجهول.. أن تعيش وأنت لا تعلم ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ فتلوم نفسك وترسم ملايين السيناريوهات لأحداث لا تعرف حقيقتها من كذبها.. أن يخذلك أقرب الناس إليك مرارًا وتكرارًا.. هناك أمور كثيرة في هذه الحياة يمكن أن تكون أقسى من الموت.
في حياة غالية الكثير من الحزن الذي تراكم من جيل إلى جيل حتى اقتحم حياتها من أقنعها أن بعض الفرح قد يكفي ليمحو أعوامًا من الحزن.
أما العتبات الداخلية:
• الإهداء:
إليكم يا من سكنتم شغاف القلب..
إهداء عام، حاولت فيه الكاتب أن تثبت ثيمة الرومانسية التي ستخلق من خلالها عنصر العاطفة لتبدأ في تجميع المكوّنات الأخرى اللازمة لبناء الحدث السردي.
• التصدير:
أفضل ما في الحياة هو قدرتها على المفاجأة.
إدوارد غاليانو
وهو قول لا يخلو من التشويق والإثارة.

3- على المستوى المتحرّك:
نتناول في هذا المستوى :
 الموضوع وتقنية الثيمة Theme:
الفكرة الأساسية أو الثيمة الأساسية في هذا العمل، كما أسلفنا، هي ثيمة الارهاب والتطرف الديني وانعكاساته على المستوى الاجتماعي والثقافي والنفسي والسلوكي على المجتمع بشكل عام، وعلى الكيان الأسري للشخص المتطرّف بشكل خاص، وقد تناولت الكاتبة هذه الثيمة وأحاطت بتداعياتها إحاطة متكاملة باستخدام الشخصيات والأحداث الفنية والواقعية على حدّ سواء، حيث مزجت بين الأحداث والشخصيات الفنية، والأحداث التي حدثت فعلًا والشخصيات التي عاشت على أرض الواقع، وقد ضفّرت بينهما بانتقالات سريعة نكاد لا نشعر ببدايتها، فجأة تحضر أحداث الماضي وتتماهى مع أحداث الحاضر، صحيح أنها تؤمّن العتبة الواقعية التي تتيح لها الانتقال من الحدث الفني الحاضر إلى الحدث الماضي الواقعي والهابط إليها عبر تقنيات سرد الماضي مثل تقنية الاسترجاع Flashback، أو تقنية تيار الوعي Stream of ،consciousness، كما سنجد بالاقتباس التالي:
" كانت الجموع التي بالبهو قد بدأت بالانصراف، بعضهم إلى حجراتهم وبعضهم للبحث عن طعام أو شراب، أمّا هي فلم تكن في مزاج ملائم لفعل أي من ذلك.... تشاغلت بتصفح مواقع الأخبار، جذب انتباهها أحد العناوين وسرحت بعيدًا... تعالت الأصوات وتجسدت الشخوص. كانت تلهث وهي تقفز من سطر إلى سطر، أغمضت عينيها، وعادت برأسها إلى الوراء.." ... ص 10
إلى هنا، نحن في حدث فني في الحاضر، في بهو الفندق الذي والشخصية الرئيسة غالية تستمع إلى عزف على البيانو، وتقرأ في جريدة، ثم تأتي الفقرة التالية:
" تعالى الصراخ الهستيري حولها، نظرتْ ساجدة بذهول كأنها لا تصدّق ما حدث، تدافع الناس بضراوة، يريدون الخروج من فجوة جهنم التي انشقت الأرض عنها، تلفتت حولها، أين اختفت أصوات الضحكات والموسيقى الهادئة؟..... " .... ص 11
وهذه الفقرة أيضًا لا تخرجنا من زمكانية الحدث الفني! إلّا أن إقحام من تسمّى ساجدة يشكّكنا بذلك!.
في الفقرة التالية، يزداد هذا الشكّ، بتبدّل المشهد الفني، حيث أننا ما نزال في فندق، لكن باحتفالية استعداد لعرس فخم، لم تأتِ الكاتبة على ذكره قبلًا:
" .... اللوحات التي تحمل المباركات للعروسين، ومظاهر الاستعداد للعرس الفخم، الذي توافد المدعوون لحضوره من شتى أنحاء العالم، طاقم عمال الفندق الأنيق الذين يطلقون عبارات الترحيب بلا توقف بوجوههم البشوشة، كيف تحوّل كل شيء إلى ذلك الدمار والرعب، بمجرد لمحة بصر؟!"... ص 11
ثم، بدلًا من أن نتوقع انتقالًا زمكانيًّا، نجدها تكسر أفق هذا التوقع بمفاجأة ! حين نجدنا أمام شخصية ملتبسة، هل هي غالية أم أخرى متماهية معها ( ساجدة)؟! شخصية تستأنف سرد الحدث الجلل، حسب الاقتباس التالي:
" أخذ الطنين في أذنيها يعلو مع كل ثانية، ويصيبها بالغثيان، نظرت إلى جانب الفندق الذي تحوّل إلى أنقاض، بعد أن فجّره زوجها، الأحجار المتكومة، الألاء المتناثرة ...... اختلط كل شيء داخل رأسها. لوهلة نسيت سبب وجودها هنا، ولكن الجسم الثقيل الملتصق ببطنها ذكّرها، تحسست الحزام حول وسطها بفزع.... وانطلقت تركض مع الهاربين من الجحيم، أو إلى الجحيم......" .... ص 11
تكمل الكاتبة سرد هذا الحدث الارهابي على تيار وعي هذه المرأة ( ساجدة)، حتى نصل إلى الصفحة 14، ثم فجأة تعود غالية إلى ساحة السرد:
تنهدت غالية وهي تفتح عينيها، وعادت لتقرأ الخبر مرة أخرى على شاشة هاتفها:
" 11 نوفمبر، ذكرى مقتل المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد وابنته، في هجوم انتحاري على فندق راديسون ساس، في العاصمة الأردنية عمان، عام 2005".... ص 14
وهنا فعلًا، تفصح الكاتبة عن زمكانية الماضي، فمن المرأة؟! وما هي العتبة الواقعية المحفزة التي أخذتنا بسببها الكاتبة إلى تلك الزمكانية؟ خبر في صحيفة نعم، لكن أي خبر؟!:
" صورة ( ساجدة الريشاوي) تحت الخبر، ونبذة عن حياتها وتاريخ إعدامها، الذي تأخّر عشر سنوات كاملة.".... ص 14
وعبر تقنية الحوار الداخلي : Interior Monologue
تبدأ بالكشف عن لعبة سردية ماكرة ومحاكة بإتقان، تجبر المتلقي على القراءة بحذر شديد، بما يجبره على البقاء بكامل يقظته حيال كل جملة أو كلمة أو حتى حرف ( كحرف قد) تلقيه الكاتبة على أرصفة المتن الروائي، لنأخذ هذا الاقتباس:
تأملت الصورة وهي تتساءل:
- هل كان الأمر كما تصوّرته، وتخيّلت تفاصيله قبل قليل؟ .... ص15
لعبة سردية مخاتلة جدًّا ستلعبها ريم عبد الباقي عبر شخصية غالية، وستدخلنا في ذات الشرك مرّات عديدة كيما تتجنب السرد المباشر، ستجعلها خصيصة تلتصق بغالية التي تتخيّل تفاصيل الأحداث الإرهابية وفق تصوراتها:
ابتسمت للمفارقة، فقد كانت قبل قليل تحيا داخل عقل إرهابية، فجّرت فندقًا في عمّان.... بينما في الواقع هي تجلس في بهو فندق جميل في دوليسدورف. يغلبها دائمًا ذلك الهوس، بكل الأحداث الإرهابية التي تحدث في العالم، تتقصى تفاصيلها وأسماء منفذيها، وتعيد تخيّلها في عقلها مرات ومرات، وتدونها كما ترتسم في مخيّلتها.... " .... ص 16
هناك ثيمات أخرى حفل بها المتن الروائي، منها الثيمات المشتركة التي نجدها في أغلب الموضوعات الأدبية التي تبحث في الطبيعة البشرية على مستوى عالمي، والتي تدعم الثيمة المركزية، مثل ثيمة الصراع بين الخير والشر، وثيمة الحب، وثيمة التضحية والفداء، وثيمة الشجاعة، وثيمة النضج، وثيمة الانتقام، سنجد تلك الثيمات متكررة مع الكثير من الشخصيات، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن استعراضها في شخصية يوسف الأخ الكبير لغالية.
وتعتبر ثيمة التضليل هي الثيمة المولّدة للثيمة الرئيسة، وقد عرضتها الكاتبة من خلال تقنية الرسائل التي أرسلها يوسف، أخو غالية، لأمه سدرة بعد التحاقه بجماعات الجهاد في أفغانستان، يوسف الشخصية الحاضرة والمحركة لكل الأحداث، وفي نفس الوقت هو الشخصية الغائبة التي أصرّت الكاتبة على تغييبها، ولم تسمح لها بالظهور العلني أبدًا، إلا من خلال الرسائل التي أرسلها لوالدته، والتي لم تعرضها إلا بعد الصفحة 350 وقد شارفت الرواية على الانتهاء، رسائل وجدتها الكاتبة كافية ليعبّرعن نفسه ويبرّر مغادرته، ليبرز في المتن الروائي ثيمة الصراع بين الشر والخير، وثيمة الشجاعة، وثيمة التضحية والفداء، وثيمة الانتقام :
".... لكنه كذب مباح، بل ربما مستحب، فأنا كذبت لأقوم بواجبي في نصرة إخوتنا المجاهدين في أقغانستان، كما قال الشيخ ( عبد الوهاب) شيخ مسجدنا.
أنت لم تستمعي إلى استغاثات إخواننا ضد العدو الكافر الغاشم، ولم تري الصور، ولم تشاهدي التسجيلات التي كنا نشاهدها في المدرسة، ولم تحضري المحاضرات التي كنا نحضرها في المسجد.." ... ص352
وفي رسالة ثانية يطلعها على الخديعة التي بانت نواجذها، منذ فارقها وبقية أهله:
نحارب روسيا بينما تحضر النساء الروسيات إلى معسكراتنا؛ ليقضين ليالي ماجنة مع هؤلاء القادة..
يغيب معظم الشباب من المقاتلين عما يدور حولهم بالأفيون والحشيش، الذي لم أتخيّل أبدًا أن يكون أمرًا عاديًّا مباحًا بيننا، نحن الذين بعنا الدنيا والأهل والأحباب، وحضرنا لجهاد أعداء الله.. تختلط عليّ الأمور يا أمي.. من هم أعداء الله حقًّا؟ في صفّ من أقاتل؟ ومن هي الفئة الباغية الضالة؟. .... ص 358
وكان الندم حاضرًا حينما بدأ العقل معركة التفكير للوصول إلى التمييز بين الحق والباطل، هنا برزت ثيمة النضج.
رسائل أودع فيها مشاعر المحبة لكل أفراد أسرته، فأزهرت ثيمة الحب:
الحقيقة الوحيدة التي ما زلت أؤمن بها هو حبي لكم، ومدى طهركم، ونقاء قلوبكم، وأنني بإذن الله سأموت شهيدًا، على أمل اللقاء بكم مرة أخرى... فقد استودعت حبي وشوقي إليكم عنده أمانة، أرجو أن أستحق استردادها".... ص 364
رسائل كان فيها براءته من أي عمل إرهابي عاشت غالية في هوس أن يكون مشاركًا فيه، هذا الهوس الذي ربّى الكثير من العقد والسلوكية في حياتها:
" عرفت أن يوسف الذي غاب، هو ذاته يوسف أخوها الذي تعرفه بحبه للخير والحق، وببغضه للخطأ وللقهر وللظلم.. ذلك هو يوسف الحبيب الذي لم، ولن يكون يومًا، أداة لظلم سواه، لأي سبب. .... ص 366
عرضت الرواية أيضًا لموضوعات أخرى عديدة، منها موضوع قدسية الأم، وموضوع الزواج الثاني، والغيرة الزوجية، وعنف الرجل ضدّ الزوجة، والخيانة، ومشاكل العقم، وموضوع التنمّر، وموضوع هجرة الشباب للغرب ومايتبعه من انحدار أخلاقي وديني أوله الجنس خارج إطار الزواج..... كلها مواضيع عرضتها الكاتبة من خلال تقنية الحوار dialogue المباشر بين الشخصيات، سأعرض لبعضها عبر:
 تقنية السياق :Context
فقد كان هناك سياقات عدة قدّمتها الكاتبة للمتلقي، وهي الحقائق والظروف والضغوط المحيطة بموقف لغوي معين . وهي كمية المعلومات التي تساعد في فهم رسالة النص الأدبي، هناك سياقات محددة لفهم رسالة النص الروائي، وأخرى تتطلب قراءات عديدة للنص، أو قراءة دقيقة، لفهم الاحتمالات السياقية التي يكتبها الكاتب بين وخلف وتحت السطور بشكل إيحائي مخبوء، وهو يحسب في ميزان احترافية الكاتب.
السياق العقائدي:
وهذا السياق قد يشكل سمة عامة وسائد في المجتمع الواحد، ولكنه أيضًا يمكن أن يكون سمة خاصة بشخص قد لا يتفق فيه أفراد أسرة واحدة تلقت نفس التربية في نفس البيئة، وهذا ما حرصت ريم عبد الباقي على التأكيد عليه، فالأم والابنة مها، وكذلك غالية، يختلفن تمامًا في موقفهن من الزواج الثاني، فبينما رفضته الأم، ليس من باب أنه شرع الله، ولكن من باب اعتقادها أنه خيانة وتخلّي الشريك عن شريكته في وقت هي بأمس الحاجة فيه إلى الاحتواء، حين تزوّج عليها بعد ذهاب ابنها البكر للجهاد في أفغانستان، ومن يتخلّى لا يستحق الحب ولا العودة، نجد مها تعتنق قول " هو حال كل الرجال..نحن نحترم المخلصين، ولكننا نحب الخائنين" على اعتبار أن ذلك هو السائد في المجتمع السعودي، فهي تعرف أن زوجها متزوج عليها ولكنها تتعامى لتبقى في موضع القوة والسيطرة، وليبق هو خائفًا كفأر، بينما تجد غالية أن هذا مبدأ المريض الذي يقبل أن يعيش مع شريك بوجهين، وهو نوع من السادية التي تمارسها المرأة ضد نفسها، وأكبر شاهد على ذلك هو ما يعتري مها مما تسميه الجاثوم، كابوس لا ينفع معه حبوب منومة، وما يعقبه من تدهور في حالتها النفسية والجسدية نتيجة رهابها من البقاء وحيدة.
أيضًا نجد هذا السياق عند كل من فيصل ومحمد، ومفهومهما العقائدي حيال قضية الإرهاب، فبينما يراه فيصل: - ... خليقة الغرب، أرادوا به تحطيم المسلمين وتشويه صورتهم وسمعتهم وإضعاف شوكتهم؛ لأنهم يخشون أن يعز الإسلام وتقوى شوكة العرب.
يرى محمد أن:
- الإرهاب صنيعة الإنسان على مرّ الأزمان.... ص 68
السياق الإعلامي والواقعي:
تعرض ريم عبد الباقي لقضية الإرهاب والتطرّف الديني من خلال معايشة واقعية وإعلامية لنشوء المنظمات والجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي اتخذت لنفسها مسميات وشعارات برّاقة بغرض إغراء الشباب المسلم للانضمام إليها، كلها تدخل تحت خيمة الجهاد ضد الكفار، وقد ساقت لنا العديد من الأحداث الدامية والمعروفة لنا جميعًا، ابتداء من تفجيرات 11 سبتمبر مرورًا بتفجير فندق عمان واغتيال مصطفى العقاد، وجرائم بوكو حرام، واغتيال العمال الأقباط في ليبيا...
" لا تتوقف محطات الأخبار عن بث الرعب في القلوب، من هم هؤلاء الجلادون ؟ من اي جحيم خرجوا؟.... مجرد أسماء تختلف وتتلون باختلاف المرحلة.. ( قاعدة)، ( داعش)، ( نصرة)، ( جهاد)... إلى آخرها، كلها مجرد أسماء، لا فرق بين حامليها إلا في درجة الإجرام، التي تطورت إلى خارج حدود المعقول." ص 93
سياق فلسفي:
هذا السياق جاء حيال العديد من المواضيع، منها مثلا الفلسفة الصوفية عند أم يوسف، والتي تجلّت بوضوح في نظرتها إلى موضوع الوحي، حينما اختلفت مع أمل التي ترى أن الوحي للأنبياء وربما للصالحين، فتجيبها:
- لا يا أمل، الله موجود في صدور جميع خلقه، يوحي إليهم بالخير ويطمئنهم عند الخوف ويدلّهم عند الحيرة، لا يتوجّب أن تكوني من الأنبياء أو الصالحين، كل ما يتوجّب عليك فعله هو أن تكون صلتك بالله قوية.... أن تبقى روحك مؤمنة برحمة الله، مؤمنة بقدرته، متعلقة بالأمل به.....ص 375
سياق ثقافي وفني:
وظّفت ريم عبد الباقي في هذا العمل ثقافة فنية متنوعة، من شعر وخاطرة وأغانٍ، كل منها يحمل رسالة تدعم رسالة العمل الأدبي ككل، في دعوته إلى التصالح مع الذات والمسامحة مع الآخرين:
- أغنية إنكليزية تقول كلماتها:
أتمنى لو أنني لم أعرف أين تذهب قلوب العشاق الكسيرة...
لو أن لي قلبًا من حجر.. لكنت عشقتك بكل ما فيَّ
ولكنني أعرف أين تذهب قلوب العشاق الكسيرة. ..... ص 78
- صدح صوت وردة الجزائرية :
بتونس بيك وأنت معايا ... ص 79
- .... صوت ميادة حناوي:
كان ياما كان
الحب مالي بيتنا ومدفينا الحنان
زارنا الزمان سرق منا فرحتنا
والراحة والأمان ... ص 315
- رفعت والدتها صوتها قليلًا وهي تدندن مع الأغبية ..
- صالحت بيك أيامي.. سامحت بيك الزمن .... ص 372

سياق اجتماعي:
مدينة جدة، وتميّزها اجتماعيًّا عن باقي مدن المملكة، ليستطيع المتلقي أن يتقبّل الكثير من الأفكار المطروحة بشأن الكثير من القضايا، ليدرك أن هذا التنوّع بالطرح والآراء، وليد المجتمع الكوزموبوليتاني الذي يسبغ مدينة جدة، اقتباس:
جدة مدينة كوزموبوليتانية بجدارة، وكان تنوّع جنسيات شاغلي البناية، التي سكنها والدي عند وصولهما إليها؛ أفضل مثال على ذلك.. ففي الشقة المقابلة، سكن معلم اللغة الإنكليزية المصري وزوجته معلمة الحساب، والشقة التي بجوار الدرج كانت لعائلة المحاسب الفلسطيني، أما في الطابق العلوي فكانت عائلة المحامي اللبناني، وغيرهم وغيرهم... ص 249
 تقنية هيكليّة البناء السردي :Structure
اعتمدت الكاتبة محور الشخصيات في بناء الهيكل الفني السردي، أكثر من اعتمادها على محور الحبكة، حيث حمّلت الشخصيات العبء القضوي كاملًا، فجاءت كل شخصية ممثلة لقضية أو أزمة، وأتاحت لكل شخصية مساحتها الكاملة لعرض أزمتها عرضًا مباشرًا عبر الحوارات، أو عرضًا مخفيًّا عبر تقنية المونولوج، بينما بنت حبكة بسيطة بالمقارنة مع محور الشخصيات، فجاءت روايتها مدفوعة بالشخصية أكثر مما هي مدفوعة بالحبكة، وهذا ما يبرر بطء سير الأحداث، وخصوصًا في البداية والوسط، لأن تركيز الكاتبة كان فعليًّا على نمو الشخصيات، وهذا أيضًا ما يبرر اعتمادها على تقنيات سرد الماضي، فتقنية ماضوية مثل تقنية الاسترجاع مثلًا تساعد على تنمية الشخصية، حيث يمكن لذكريات الماضي أن توفّر "نظرة ثاقبة لدوافع الشخصية الرئيسية للقرارات والإجراءات التي يتخذونها"، وفي هذه الرواية، كل شخصية فيها تملك خلفيتها الدرامية المتضمنة شيئًا مهمًّا حدث في الماضي، يمكن أن يفسر حدثًا في الحاضر، وهو ما ساعد ريم عبد الباقي على إنشاء العديد من السيناريوهات عبر دفع الشخصية، والشخصية البطلة تحديدًا، التي وظّفتها عبر تقنية شخصية البطل في الرواية Protagonist ، إلى التذكّر والتفكير في الذاكرة.
هذا عدا عن أن اتباع التسلسل الزمني للرواية أو القصة يمكن أن يؤدي إلى ترك الحبكة تبدو بشكل مسطّح، بينما ذكريات الماضي تعمل على تفكيك التدفق الزمني للقصة، مما يجعلها أكثر إثارة للاهتمام، وأكثر واقعية. كما توفّر ذكريات الماضي فكرة أعمق عن هوية الشخصية، وكل شخصية من شخصيات الرواية تعرضت لحدث سابق أثّر عليها بشكل مباشر وانعكس عليها بسلوك غير سوي، أو لنقل، بأقل تعبير، بسلوك سلبي على المحيطين به، وقد يكون الكثير من المتلقين ممن لا يبرّرون سلوكيات أو تصرفات الشخصية بناء على تجاربها السابقة، ولكن تقنيات سرد الماضي سواء كانت تقنية استرجاع أو تيار وعي أو مونولوج أو مذكرات أو حتى رسائل قديمة، تثير فيهم الشعور بالتعاطف حيالهم وفهم سلوكهم، وهذا ما لمسناه حقيقة في الشخصية المغيّبة (يوسف)، والتي يمكن اعتبارها الشخصية الخصم Antagonist.
تلك الشخصية التي قابلت الكاتبة بينها وبين الشخصية الرئيسة على امتداد الرواية عبر تقنية بطل الرواية مقابل الخصمProtagonist Vs Antagonist ، وهذا ما برّر تغييبها، واعتبارها شخصية غير موجودة، فكلمة خصم يرادف كلمة غائب أو غير موجود أو خيالي، على اعتبار الشخصية البطلة هي شخصية موجودة بطولية تقليديًّا، بينما كلمة الخصم هي كلمة سلبية عند استخدامها للتدليل على شخصية غائبة، غير موجودة أو خيالية، أو بشكل عام هي ( الشرير في الرواية).
عدا عن أن التقنيات الماضوية تساعد المتلقي على فهم السبب الذي أودى بالشخصية البطلة إلى الموقف الذي يقود الحبكة، والأسباب الكامنة وراء الصراع الرئيسي، وهذا ما لمسناه عند كل شخصيات العمل بدرجات متفاوتة، تتصدّر الشخصية الرئيسية غالية المرتبة الأولى.
 الاستهلال:
تبدأ ريم عبد الباقي باستكمال عناصر بنائها الفني، باستهلال مشهدي زمكاني، توظّف فيه تقنيّتان:
 تقنية الزمكانية Setting :
طبعًا سنجد تقنية الزمكانية بعناصرها الخمسة ( لغة البلد- الوقت – المناخ- الخصائص الجغرافية – ثقافة المجتمع والسكان) محققة في كل حدث سردي، وهذا يُحسب للكاتبة.
 وتقنية التصوير اللغوي Imagery وهو ما صار متعارفًا عليه ب ( الرسم بالكلمات)، وسنجد هذه التقنية أيضًا موظفة في مواضع عديدة من المتن الروائي.
وبتوظيف هاتين التقنيتين أقامت أعمدة الاستهلال:
جلست في الركن القصي من بهو الفندق، بالقرب من عازف البيانو الذي انفرد برفيقه الأنيق، يناجي مفاتيحه، لتنطق بين أصابعه بأرق المعزوفات، فتحلّق روحها معه.... ص 9
 تقنية الحبكة Plot:
كما ذكرت في الحديث عن هيكلية البناء السردي، اعتمدت ريم عبد الباقي حبكة درامية بسيطة، لم تعتمد فيها على التسلسل الزمني للأحداث، وإنما هي مزج بين الماضي والحاضر، استشفينا أحداثها من خلال تقنيات سردية متنوعة بين سرد الذاكرة وسرد الحاضر، عن أسرة سعودية من الطبقة المتوسطة تعيش في جدة، مؤلفة من أب وأم وستة أبناء، ثلاثة ذكور وثلاث بنات، خلّف مغادرة الابن البكر ( يوسف) والتحاقه بالجماعات المتطرفة للجهاد في أفغانستات ضد الكفار الروس، نتوءات عميقة الأثر في نفسيات وسلوكيات كل أفراد العائلة، حزن الأم عليها جعلها تدخل تحت براثن أمراض متتالية، ما جعل الأب يضيق ذرعًا بحالها واستسلامها لموت غير محقق، بينما هو رجل أراد أن يعيش وأن تستمر به الحياة طالما أنه يتنفّس، تقصيرها بواجباتها الزوجية جعله يغادر إلى زواج ثانٍ لم تعترض عليه لكنها لم تقبله على كرامتها فطلبت الطلاق، وكان، وأغلقت الباب وراءه على بقية الأبناء، ولم تفتح له إلا كضيف صديق، فعانى الأبناء اجتماعيًّا وأسريًّا، من فقد الأب وحزن الأم وعار الأخ، الولد الثاني (فيصل) عانى من فقدان الثقة بكل عائلته، بعد أن خانه أخوه الأكبر وغادر تاركًا أمامه سريرًا فارغًا في غرفة كانت عالمهم الذي يتشاركان فيه الأفكار والمشاعر والأسرار والأمنيات وأحلام المستقبل، انقلب تنينًا من غضب يصب ناره على كل افراد العائلة، ولم يجد خلاصه إلا بمغادرة البيت إلى مدينة أخرى هربًا من خيال أخيه الذي زعزع ثقته بالأقربين، ومن أفراد عائلته مطعونًا بسلامه الداخلي، أمل، البنت الكبرى تزوجت ممن تحب، وأنجبت منه طفلًا أسمته يوسف، وجاء هادم اللذات ليقتنص زوجها بعد عامين ونيّف من اقترانها به، تزوجت ثانية من حسن الذي أحبها كثيرًا لكنها لم تستطع أن تبادله الحب بذات المقدار، وآثرت البقاء من منطقة رمادية ارتضتها وأرضته بها، الثالث ( محمد) المراهق الهادئ الذي أصبح بعد هرب أخيه يوسف أكثر انطوائية ما جعله عرضة لتنمّر أقرانه، هذا التنمّر الذي جعله يفقد السيطرة على أعصابه في إحدى المرّات ويركل دراجة المتنمّر الراكب عليها ليستقر مع دراجته تحت عجلات سيارة مسرعة في الشارع، ويدخل سجن الأحداث لمدة شهرين، يخرج بعدها شخصًا آخر غريبًا عن نفسه وعن أهله، فيحاول الانتحار، وتنقذه الأختان مها وغالية، تعالجانه في غرفته خفية عن الأم، يقرّر بعدها أن يستكمل تعليمه في كندا، معرضًا عن الزواج بفلسفة تخصّه، معتبرًا الزواج مقامرة بحياة الآخرين، وما يتبعه من إنجاب أطفال يتحملون سوء تقدير آبائهم لهذا العالم، متأثرًا بموقف والده الذي تركهم في مهب التفكك الأسري ومضى لزيجة ثانية، مها المريضة بغيرتها على زوجها الطيّار الذي تزوجته بعد قصة حب، وجاهدت ليبلغ من النجاح ذروته، تكتشف علاقاته الغرامية وتؤثر الصمت حفاظًا على بيتها، وتعيش نوباتها مع آلام الغيرة الحارقة التي لا يكتوي بها أحد سواها، وغالية الصغيرة المدلّلة، التي أنقذتها أختها أمل وهي مراهقة توشك على الارتماء في حضن جارهم، زوج صديقة أمها الذي يفوق بالعمر أباها، استجابة لرغبة عارمة بحضن ذكوري ما كانت لتحتاحه لو بقيت تحت كنف والدها، غدت طبيبة مستغنية بما لديها من علم ومال وعمل واستقلالية عن كل من يحاول تقاسم الحب والحياة معها، مأزومة بهاجس أن يكون أخوها وخصمها يوسف قياديًّا أو على الأقل عضوًا فاعلًا في الجماعات الإسلامية الإرهابية المتطرفة، تعد السيناريوهات لكل حادثة إرهاب حدثت أو تحدث في العام، تسخّر عاطفتها لأمّها التي هي بنظرها قديسة افتدتهم جميعًا، أمّ تنفصل عن كل من حولها وترنو إلى السماء تبثّها وتتلقّى منها رسائل إلى ولدها الغائب الحاضر دومًا ( يوسف).
عمر، طبيب العيون الذي يعمل مع غالية في ذات المستشفى، والذي وقع أسير عينيها الواسعتين وبراءة ملامح وجهها، والتي جابهته كثيرًا معتدة باستقلاليتها واستغنائها، إلى أن وقعت أسيرة ابتسامته الأبوية العذبة، بعد تعاقب مدّ وجزر، هو أيضًا مأزوم بماضيه، بندمه على ذنب الخيانة، بعد نقضه عهد الحب بينه وبين قريبته الشابة الجميلة سندس التي أزهر حبّها في قلبه بعمر السبعة عشر، وهي بعمر الثالثة عشر، بارك الأهل خطوبتهما ثم سافر إلى إنكلترا لتلقي علومه الطبية فيها، فوقع في شرك علاقة حب ومساكنة ومعاشرة غير شرعية مع طالبة إيطالية، لم ترضَ بارتباط زواج، تركته فجأة بعد حضور أمه لزيارته، التي أطلعتها بطريقة غير مباشرة عن ارتباط عمر بسندس، غادرت إلى بلدها ولكنها حاكت له مؤامرة هدمت فيها سعادته الزوجية مع سندس التي سافرت معه بعد سنوات من زواجهما إلى بريطانية ليتحصّل على اختصاص دقيق في جراحة العيون، وكانت فرصة لهما للاستراحة من محاولات الإنجاب الفاشلة، وشاء القدر أن يكرمهما الله بحمل طبيعي، وأن يعودا إلى جدّة محمّلين بفرح الحمل وفرح الاختصاص، لكن مؤامرة الطالبة الإيطالية أصابت سعادتهما في مقتل، حين أرسلت للعائلة شهادات طبية تثبت فيها أن من يدعى (دانيال) هو ابنها من عمر، تفرّق الزوجان، وجاءت طفلتهما في بيت لم يجمعهما...
هذه الأحداث كلها مسرودة بتقنيات الماضي، أما سرد الحاضر فأترك للمتلقي الوقوف عليه.
 تقنية الصراع Conflict :
لم نشهد في هذه الرواية ما يمكن أن نسميه صراع درامي بين أطراف متصارعة موجودة في ميدان السرد، بمعنى أننا لم نشهد صراعات بين الشخصيات الفردية أو بين مجموعات الشخصيات، أو بين الشخصية والمجتمع، وإنما شهدنا صراعًا نفسيًا في داخل كل شخصية، وصراع فكريّ أو أفكار متصادمة هي التي قادت الشخصيات باتجاه الذروة. وقد وظّفت الكاتبة:
 تقنية العقدة Climax بحدث قدَري جمع كل الشخصيات، خلا ( يوسف) الغائب، حيث حضر الأب، وفيصل من جيزان، ومحمد من كندا، ومها وأمل وغالية وعمر، إلى مكان واحد، المشفى، فالأم مصابة بورم في الرأس، وهي تحت رحمة الله ومبضع الجراحين، وجميعهم صفت قلوبهم واتجهت مبتهلة نحو قبلة واحدة، تنقلب الأحداث بعده باتجاه انفراج حقّقه فعليًّا النضج الفكري والشفاء النفسي داخل كل شخصية، ما انعكس إيجابيًّا على سلوكياتهم التي بدأت بالتعافي باتجاه السلوك السوي، فكانت المصالحة والمسامحة تتردّد في القلوب، وتنطق بها العيون مع أغنية أم كلثوم ( أنت عمري).
ليأتي حدث النهاية مفتوحًا على بعض الفرح:
" نعم يا عمر، ( صالحت بيك أيامي سامحت بيك الزمن)
.... وشعرت أن الأوان قد حان، فأمسكت الهاتف لترسل إلى عمر كلمة، لم تجد الجراة لتنطق بها، لكنها أرادت أن تعترف بها أخيرًا، أن تقولها واضحة صريحة، فكتبت :
" أحبك"
ابتسمت، وهي تتذكر دهشته والسعادة التي نطق بها وجهه، نظرت إلى السماء التي بدت وكأنها تبتسم هي الأخرى، وهمست:
" نعم بعض الفرح قد يكفي؛ لينهي سنوات من التيه، وأعمارًا من الحزن"
عند هذا الحدث كانت النهاية المفتوحة على احتمالية زواج غالية من عمر متبوعة بكلمة ( تمت)، لكن الكاتبة ريم عبد الباقي أتبعت ( تمت) بفصل جديد، أعتبره، نقديًّا، هامشًا مضافًا، لا يؤثر وجوده ولا حذفه على المنتج الروائي، فقط حوّلت به الكاتبة النهاية المفتوحة إلى نهاية مغلقة، أو بدا كأن الكاتبة تضع نهاية لرواية ثانية تداخلت بالكامل، بعتباتها الخارجية والداخلية ومتنها والنهاية مع الرواية الأولى، ليبدو لنا أن الرواية سيرية لكاتبة افتراضية تدعى هند تروي سيرتها المتطابقة مع غالية حتى نهاية زواجها من الطبيب خالد، وقد كتبت الرواية بعد عشرة أعوام من ذاك الزواج، وتولّت مهمة السرد من خلال الشخص الثالث، وجهة نظر السارد العليم المحدودة، بتوظيف تقنية وجهة النظر السردية Point-of-view.
- هل تذكرين يوم خطبتنا؟ كانت ليلة مقمرة كهذه، ليلتها نظرتِ إلى السماء وقلتِ لي: " أعلنتُ هدنة طويلة مع الحياة، فبعض الفرح قد يكفي لينهي سنوات من التيه، وأعمارًا من الحزن".
ابتسمتْ وهي تهمس:
- عشر سنوات مضت، وما زلتُ أذكر ذلك اليوم، كأنه بالأمس.
وأنهت الرواية السيرية بكلمة: تمت
جدّة- نوفمبر 2022
4- على المستوى اللساني والجمالي:
تكتب ريم عبد الباقي بأسلوب أدبي إنشائي توظّف فيه العديد من التقنيات الأسلوبية، سواء على مستوى المفردة أو على مستوى الجملة، مفيدة من علم البلاغة من خلال:
تقنية اللغة المجازية Figurative language : بأنواعها :
الاستعارة/ الكناية Metaphor، والتشبيه Simile، والمبالغة Hyperbole، والمجاز المرسل Synecdoche.
للتدليل على ذلك أستشهد بالاقتباس التالي على سبيل المثال لا الحصر:
"أمي يا عمر هي أم موسى، تنتظر أن يعيد الله إليها وليدها، عروس النيل التي فاض النيل بالخير بعد استقبالها، زهرة الأقحوان التي نبتت على قبر أدونيس يفوح منها عطر الحزن الشجي، هي الأميرة فيلدا التي حوّلها طول الصبر على الفراق إلى شجرة لوز جميلة، تنتظر عناق حبيبها لتزهر. أمي هي أسطورة كل الأزمنة، وبطلة كل قصص التضحية، هكذا أراها..".... ص 247
5- على المستوى السيكولوجي:
هذه الرواية، حالها كحال كل الروايات المعاصرة، مفتوحة على المستوى السيكولوجي بمداخله الثلاث : السلوكي، والعقلاني، والاستنباطي. ويكفي أن عملية إنتاج أي عمل أدبي هو بحد ذاته عملية نفسية بمخرجات إجرائية منجزة، فريم عبد الباقي هي أديبة سعودية من أم مصرية، كان لها نصيب وافر من الثقافة والإطلاع المعرفي على مختلف المجالات، والموهبة الأدبية التي مكّنتها من أن تكتب أعمالًا أدبية مائزة، تنتصر فيها للإنسان والحق والخير، وهي إضافة مشرقة إلى المكتبة العربية.
د. عبير خالد يحيي الاسكندرية - مصر 16/2/ 2024








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا