الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفنان سعدي توفيق البغدادي أحجية لم يفهم شفرتها الزمن

مصطفى العمري
(Mustafa Alaumari)

2024 / 2 / 18
الادب والفن


يتصلّب الانسان على مكشوفاته الأولى فتحوله الى كائن متجانس و مطمئن ويحولها هو الى مألوفات و إعتيادات طبيعية في حياته, فيغدو معها وبها محبوراً و مستسلماً, ويعد الانفصال عن أي طبيعة او مجتمع بمحاذاة المخاض و الفاقة, الا عند النخب فالأمر ربما مختلف قليلاً. والاختلاف هنا يأخذ أبعاداً و تمددات مغايرة, فالاشخاص الذين يقصيهم القدر الى نزوعات متعددة، يقصون هم شوائب ما تكالب عليهم من تجارب الحياة و أفانين الدهر بطموح و إرادة.

وليس يسيراً ان تتفوق و تتقدم و تنجح وانت تعالج عين الحياة بماء الصدأ, وتضارع البقاء بدفع الفناء. لكن لا شيء محال على من يمتلك همة و شكيمة.
وها نحن اليوم نتحدث عن أحد اولئك الذين صارعوا الحياة من أجل البقاء فبقى و مكث و سجل أسمه بمدونة الثقافة الفنية الكبرى.
سعدي توفيق البغدادي أحد أهم الأصوات الغنائية العراقية يمتلك صوتاً شجياً مرهفاً و مغدقاً بالحنان. كابد و عانى من أجل ان يصل الى ما وصل له الان.
كان عمره ثلاثة أعوام عندما كان يلعب قرب محل والده, شعر بوخز بعينه بعدما أصابته شقيقته اثناء اللعب،سارعت والدته إلى تطبيب عينه على طريقتها والظاهر انها أطفأت نور عينه بدل ان تطببها له وماهي الا ساعات قليلة حتى سار التوعك و الاحمرار الى عينه الأخرى وبهذا الحال ينسدل ضوء و ستار الحياة على الفتى الذي لم يفقه الحياة بعد, ويغمض عينيه و رؤيته الى الابد.

و كأن أجراس القدر و نواميس الطبيعة قد إستفزها هول المصاب فحاولت تعويض ما افتقده هذا الطفل البريء, وفعلاً تجشم الطفل النابه وعورة الحياة وقطع بها أشواطاً غاية بالاهمية.
ولد الفنان الأستاذ سعدي توفيق البغدادي عام 1941 بالعاصمة بغداد في منطقة تبّة الكرد, دخل معهد المكفوفين عام 1949 و تخرج منه عام 1956 بعد ان تخرج من المعهد والذي لم يوفر له وظيفة لم يكن أمام هذا الفتى الطامح و المتفائل بالحياة الا ان يعمل ببيع الصحف في تقاطعات المارة و أسواق التجار وحياكة الكراسي من الخوص. ولأن عقل الأستاذ سعدي مملوء بالنشاط و المثابرة والتحدي, غامر لأن يقود حياته بعنفوان و إرادة, وعدم الاستكانة و الرضوخ لمحكيات القدر او التباطئ بمزاولة متطلبات الحياة بسبب التدنيس الذي أرهق جسمه وأصاب نظره.
عام 1963 قصد ركن الهواة متحاملاً على العوز وحاملاً معه الأمل, ومع صوته العذب كان يجيد العزف بالناي وبين معزوفة الناي و بين الصوت الشجي المكروب تندمل جروح الزمن بعد ان تذرف عذاباتها من خلال رقيق الدموع الموجعة.
كان يغني " يم العيون السود " عندما سمعه المطرب الكبير المرحوم ناظم الغزالي فدنا منه وتحدث معه و أثنى على صوته.
يبدو ان ركن الهواة فتح له شيء من طموحاته و أمله, فتوسع فنياً و أحيا بعض الحفلات مع كبار الفنانين العراقيين أمثال داخل حسن, حضيري أبو عزيز, وحيدة خليل, صاحب شراد, لميعة توفيق وغيرهم..

لم يشكل فقدان النظر للفنان سعدي توفيق ملمحاً للإنكسار او التثبيط فسار و تحرك بجدارة و شموخ, لكن المؤسسة التي يُفترض منها احتواء الطاقات و القدرات والنوابغ, أشعلت عود ثقابها بباحة طموحاته و توجهاته, عندما أعلنت مؤسسة التلفزيون رفضه و أقرانه من المكفوفين بظهورهم على شاشة التلفزيون, فعمدت تلك المؤسسة الى فقأ عين الامل عند الفنان سعدي توفيق و الفنان سعدي البياتي الذي كان يشاطره ذات الألم.
وبالحديث عن سعدي البياتي, سألته مراراً عنه وعن شخصيته و عذوبة صوته, قال البياتي صديقي و عزيز على قلبي,فهو زميل دراسة عندما كنا بمعهد المكفوفين تقاسمنا هموم الحياة وكانت مآسينا و عذاباتنا و أفراحنا متشابهة.


ومع ضنك الحياة و متطلباتها القاسية يجب ان يوفر ما يلزم لكي يعيش كما تعيش الناس, فمكث مدة طويلة يكتسب رزقه من تسجيل الأغاني بالكاسيتات ويقيم بعض الحفلات الخاصة, وفي هذه الحقبة خرجت اعظم أغانيه وهي بالعشرات.
عام 1980 سُمح له بالظهور على شاشة التلفزيون العراقي بالحفلات الريفية او المقام العراقي الذي يُجيده بمهارة.
تزوج المرة الأولى عام 1973 ولم يشأ قدره ان يخلي سبيله فقد توفيت زوجته بعد حين بعدما رُزق منها ببنت. وتزوج المرة الثانية عام 1988 عندما جمعته روابط حب و تجاذب قوي بينه وبين زوجته الحالية له منها بنتان و ولد أحدى بناته تدرس الطب.

عام 2005 أشتد أوار الطائفية بالعراق و تزايدت قنابل الموت و رصاصات الاغتيال الطائش وهدر الأرواح المجاني, خرج عفريت الجن فانسكبت عقول الناس بلظى الحريق ونفث الشيطان بأفكار الناس فمسخهم الى أوباش بهياكل معوجة.
ليس هناك ما يبرر البقاء ولا مسوغ للعيش مع هكذا نمط من الناس غير المألوفة على تأريخ بغداد, خرج من بغداده التي عاش بها كل عمره غادرها مخبوأً وجلاً و منتكساً.
وكأني به يردد أبيات من قصيدة الشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد

كبيرٌ على بغداد أنّي أعافُها
وأني على أمني لديها أخافُها
كبيرٌ عليها، بعدما شابَ مفرقي
وجفَّتْ عروقُ القلبِ حتى شغافُها
تَتبَّعثُ للسَّبعين شطآنَ نهرِها
وأمواجَهُ في الليلِ كيف ارتجافُها
وآخَيتُ فيها النَّخلَ طَلعاً، فَمُبسِراً
إلى التمروالأعذاقُ زاهٍ قطافُها
تَتبَّعتُ أولادي وهم يملأونها صغاراً
إلى أن شَيَّبتهُم ضفافُها

عاش فترة متنقلاً بين الدول العربية الى ان ساقه القدر الى ولاية وسكانسن الامريكية الشمالية النائية وذلك عام 2012
الرجل الذي لم يشكو من وجع الفقد و غياب البصر و ضيق العيش, يشكو الان و بحرقة و ألم و حسرة من الغربة و بعده عن الوطن و الأهل وعدم تواصل الأصدقاء و الإعلاميين معه. والحق أقول سمعته عشرات المرات بحديثنا بالتلفون ينتقد بعض الأغاني و يصحح بعضها و يقوّم الأخرى, فالاستاذ سعدي يمتلك حس نقدي تصحيحي للأغنية العراقية و العربية.
يسكن الان بولاية بعيدة و مقصية عن ربوع الجالية العربية تنهداته و توجعاته و حسراته يمكنك ان تشعر بها من خلال أول آه يطلقها من صوته المعجون بالام والدنف العميق.
صديقي أستاذ سعدي أتمنى لك الصحة و السلامة وانت تعالج خريف أيامك بغربتين غربة الوطن و غربة إهمال شريحة واسعة من الفنانين و الإعلاميين لتأريخك وعمق ثقافتك الفنية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة