الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية (أفكار عالِم إثنوغرافيا)
مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)
2024 / 2 / 19
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الكاتب: سيرجي الكساندروفيتش توكاريف*
ترجمة: مالك أبوعليا
الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم
هناك تعريفات كثيرة للدين. لكنها غالباً ما تختلف عن بعضها البعض بفروقٍ صغيرة فقط. هناك، في الأساس، تعريفان، طريقتان لفهم الدين، تختلفان جذرياً عن بعضهما البعض. الطريقة الأُولى هي الطريقة الايمانية واللاهوتية المُدافعة عن الدين، والثانية، هي خصمها من المُلحدين.
ينطلق الرأي الأول من فكرة وجود قوة جبّارة خارقة خارجنا يعتمد عليها الانسان. ولهذا يُفهَم الدين على أنه إقامة علاقةٍ من نوعٍ ما، مع تلك القوة: التعبير عن الخضوع لتلك القوة، والخوف منها، والاعتراف بالتبعية لارادتها، والرغبة في الاقتراب منها والاندماج معها، وما الى ذلك. ان طبيعة تلك القوة الخارقة، ودرجة سُلطتها، ومُحتوى املائاتها ووصاياها، وموقفها من المبادئ الأخلاقية (الخير أو الشر، الاله الرحيم أو الغاضب)، ودرجة تشخّصها، وما الى ذلك، تختلف من دينٍ الى آخر، وتنعكس بشكلٍ متنوعٍ في صِيَغ الدين وتعريفاته. لكن الاختلافات تتعلق بالتفاصيل فقط.
الطريقة الثانية، "المُلحدة" للنظر الى الدين، فتستمد أُصولها، على النقيض من الأولى، من عدم الاعتراف بوجود أي قُوى خارقة. ان الأفكار والصور الدينية التي تتطور في العقل البشري ما هي الا ثمرة الخيال. ان الخوف من القُوى الخارقة، هو خوفٌ من اللاموجود، والجُهد المبذول لاسترضاءها هو جُهد لاسترضاء شيء وهمي وغير واقعي. ولذلك، فإن مهمة فِهم الدين وجذوره وجوهره، تُحال، من هذا المُنطلق، الى مسألة كيف نشأت في الوعي الانساني الأفكار والمفاهيم حول الأشياء غير الموجودة في العالم الواقعي. وقد استجاب أنصار المدارس الفكرية المُختلفة لهذا، بطُرقٍ مُختلفة، وما زالوا (نظرية الفيتيشية، الاحيائية، السحر، الخ)، ولكنها جميعها كانت ولا تزال تتوصل الى نتيجةٍ واحدة: الاعتراف بالطابع الوهمي لكل صورة دينية.
ومع ذلك، اذا ألقينا نظرةً مُتمحصّةً على وجهات النظر "اللاهوتية" و"الالحادية" حول جوهر الدين، فإننا نُلاحظ، بشكلٍ مُفاجئ، أنه على الرغم من تناقضهما، ان لديهما شيئاً مُشتركاً. انهما ينظران الى الدين كمجموعةٍ من الأفكار حول قوةٍ ما، في العالم الآخر، تقف فوق الانسان. لكن اللاهوتيين يقولون أن هذه القوة موجودة، بينما يُنكر المُلحدون وجودها.
***
دعونا نسأل أنفسنا: هل يجوز اعتبار مُحتوى المفاهيم الدينية ذاته-تصورات الخيال الديني-هو الأمر الأساسي في الدين؟ هل هو الجانب الأكثر أهميةً وأساسيةً في كل الأديان؟
السؤال جرئ، وللوهلة الأُولى، غريب. ما الذي يُمكن أن يكونه، الى جانب الايمان بالاله (أو الأرواح، أو الشيطان، وما الى ذلك)، جوهراً للدين؟ أين يُمكن للمرء أن يبحث عن هذا الجوهر؟
دعونا نتفحّص الأمر عن كثب.
كان لا بد، لكل مرءٍ تعامل مع الأبحاث الاثنوغرافية أو غيرها من وصفيات مُعتقدات أي شعب، أن يُلاحظ الطبيعة المُبعثرة وغير الواضحة والمُتناقضة في كثيرٍ من الأحيان لتلك المُعتقدات. يُمكننا أن نُلاحظ، عند النظر في مُعالجة هذا الباحث أو ذاك للمُعتقدات الدينية، اختلافاً بينهم (وهذا يعتمد على اختيار البيانات وعوامل أُخرى). دعونا ننظر الى مثالين أو ثلاثة، اخترناها من بين مئاتٍ منها.
تم وصف المُعتقدات الطوطمية لقبائل وسط استراليا بشكلٍ مُتكررٍ من قِبَل باحثين مُدربين جيداً: بالدوين سبنسر Baldwin Spencer وفرانسيس جيمس جيلين Francis James Gillen وكارل وتوماس ستريهلو Karl and Thomas Strehlow بالاضافة الى آخرين. ومع ذلك، فإن مُحتويات هذه المُعتقدات لا تزال غير واضحة. هل صور أسلاف الطواطم totemic forebears، هي صورٌ للبشر أم للحيوانات، أم لكليهما في ذات الوقت؟ هل التشورينغا churingas المُقدسة هي أرواح الأسلاف أم "أجساد أُخرى" للأشخاص؟ هل الألتشيرا Altjira/alchera هو اله السماء، أم مُصطلح للعصور الاسطورية القديمة؟ وهكذا.
تلعب عبادة "أسياد" الطبيعة، التايغا والحيوانات، في عبادات الصيد وصيد السمك عند شعوب سيبيريا، دوراً رئيسياً. ولكن ما هي طبيعة هؤلاء "الأسياد"؟ هل هي الأرواح حامية الحيوانات أو الظواهر الطبيعية المُختلفة، أم أن الظواهر الطبيعية نفسها (التايغا، الجبال، البحر، الخ) هي موضوعات العبادة؟ ان كانت أرواحاً، فهل هي مُرتبطة بأي شكلٍ من الأشكال بشخصيات الأسلاف، أم بأرواح الشامان المألوفة؟(1).
ما هي "فيتيشيات" شعوب غرب افريقيا، المشهورة؟ هل هي أشياء مادية تُنسَب اليها خصائص خارقة للطبيعة وتُعبَد؟ أم أنها أرواح أو كائنات مُتخيَّلة أُخرى تسكن هذه الأشياء أو ترتبط بها بطريقةٍ ما؟ لقد كان هناك خلاف بين العلماء حول هذه المسألة(2).
نظراً لأن موضوع العبادة الدينية غير مُحدد على الاطلاق، ومُحتوى المُعتقدات ذاته غامض للغاية، فليس غريباً أن كل اثنوغرافي يصف هذه المُعتقدات، قد سعى، عن قصد أو غيره، أن يُلائمها في اطار الأفكار المألوفة لديه، سواءً كانت تلك الأفكار مأخوذةً من ترسانة المُصطلحات اللاهوتية (الله، الشيطان، الروح، الخ) أو من ترسانة العلم (الفيتيش، الطوطم، المانا، الخ). ليس من المُتسغرب أن تظهر مُعتقدات نفس الشعب أو القبيلة في الأدب العلمي كتصوير اثنوغرافي تارةً للاحيائية، وتاريةً للفيتيشية، وتارةً أُخرى للأفكار السحرية (ما قبل الاحيائية)، حسب آراء الباحث في مجال النظرية.
هذا هو أصل الخلافات الشديدة بين عُلماء الانثروبولوجيا حول معنى كلمة "مانا" أو "فيتيش" أو "طوطم" أو "مانيتو" Manitou. وهذا هو أيضاً أصل الخلافات الحادة بشكلٍ خاص حول ما اذا كان شعب مُعين لديه مفهوم حول اله سماوي خالق، والجهود الحثيثة لاتباع نظرية "الاله الواحد البدائي" primitive monotheism (وخاصةً الاثنولوجي الألماني الكاثولوكي فيلهلم شميت Wilhelm Schmidt)، والتي تُحاول العثور على مثل هذه الأفكار البدائية بين شعوب جُزُر الاندامان Andaman islanders والسيمانغ Semangs والبوشمن Semangs والفويلغان Fuelgan والتاسمانيين والشعوب المُتخلفة الأُخرى. وهذا هو أيضاً، مصدر الجهود اليائسة لجعل أفكار الشعوب المُتخلفة فيما يتعلق بالقوة الحيوية تتناسب مع فكرة "الروح" المسيحية.
من بين المسائل الأكثر تخصصاً، والتي لم يُجَب عنها حتى الآن، يُمكن للمرء أن يستشهد بمسألة ما اذا كانت عبادة الأسلاف موجودةً على الاطلاق بين شعوب سيبيريا. كانت الاجابة المطروحة على هذه المسألة في العادة، ايجابية. وكان يتم الحديث حول أن "عبادة الأسلاف" حقيقة لا تقبل الجدل فيما يتعلق بشعب الألتاي والخانتي والمانسي والتشوكتشي Chukchi وشعوبٍ أُخرى. ومع ذلك، فقد ظَهَرَت الشكوك حول هذه النتيجة في السنوات الأخيرة، ويميل بعض الباحثين الى إنكار وجود عبادة الأسلاف بين مُعظم الشعوب السيبيرية(3).
هُناك مثال آخر. منذ نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك رأي واسع الانتشار مفاده أن العبادات الزراعية لشعوب أوروبا القديمة كانت قائمةً على تجسيد "روح النباتات" (قال بهذا الألماني فيلهيلم مانهارت Wilhelm Mannhardt والألماني فيلهلم فوندت Wilhelm Wundt والاسكتلندي جيمس فرازر)، ولكن في السنوات الأخيرة، تم التعبير عن رأي (الألماني فون سيداو von Sydow) يقول بأن هذه التجسيدات غير موجودة، وأن وصف مانهارت لـ"ذئاب الجاودار" rye wolves و"عذارى الحبوب" grain maidens و"أمهات المحصول" grain mothers، الخ، قد كُتِبَت تحت تأثير "النظرية الاسطورية"(أ) التي كانت سائدةً في القرن التاسع عشر، بينما الشعب نفسه لا يعرفون عنها شيئاً(4).
يُمكن للمرء أن يستشهد بالعديد من الأمثلة الأُخرى حول كيف أنه يكمن خلف ما يبدو أنه الوصف الأكثر صدقاً للمعتقدات الفعلية لهذا الشعب أو ذلك، ليس مجموعة مُحددة من المفاهيم الواضحة، بل ضباباً فكرياً يرى فيه كل باحثٍ ما يتوافق مع آرائه.
لا عَجَبَ أن العِلم، بعد قرنين من الجُهد لفهم وتحديد الأشكال الباكرة من المُعتقدات الدينية، غير قادرٍ بَعد، على العثور على اجابةٍ مُقنعةٍ لمسألة ما هي عبادة الطبيعة وعبادة الاسلاف والاحيائية والفتشية وغيرها. ان كانت المفاهيم المذكورة أعلاه تعكس مراحل تطور الدين، فبأي تسلسل تَبِعَت بعضها البعض؟
ان البحث النقدي لتوصيفات مُعتقدات مُختلف الشعوب، كما تراكمت في الأدبيات، قاد الانثروبولوجي الأمريكي البارز بول رادين Paul Radin الى استنتاجٍ جريءٍ، ولكن متين، وهو أن غالبية المُعتقدات التي وصف العلماء أنها مُنتشرة بين شعوب مُختلف البُلدان، ليست حقاً مُنتشرة بين الأغلبية الساحقة منهم، بل فقط بين شريحةٍ صغيرةٍ من الشامانات والكهنة وغيرهم. انهم ليسوا مُجرّد أوصياء وخُبراء في المُعتقدات (ومنهم حصل الانثروبولوجيين على معلوماتهم في مُعظم الأحيان)، بل انهم هُم مُنشِؤوها كذلك. أما العوام، أي الأغلبية الساحقة من "المؤمنين" فلا يعرفون هذه المعتقدات ولا يهتمون بها الا عند وقوع الكوارث: فيكفي عند هؤلاء أداء الطقوس المطلوبة وتقديم القرابين(5).
***
اذا انتقلَ المرء الى مرحلةٍ لاحقةٍ من تاريخ الدين، الى ديانات الدول القديمة، مثل مصر وبلاد ما بين النهرين والهند واليونان وما الى ذلك، فليس من الصعب أن نُلاحظ أنه على الرغم من كم البيانات التي لدينا حول مُحتوى الأفكار الدينية وصور الآلهة وغيرها من الكائنات الخارقة، وكماليتها بفضل النصوص الدينية والايقونات، ومع ذلك، لا تزال هُناك نسبة مُعينة من التخمينات. ينطبق هذا على مسألة أصل تلك الصور الدينية: ما هو أصل أوزيريس المصري، وايزيس ورع وعمون، ومردوخ البابلي وعشتار وشمش، وزيوس اليوناني وابوللو واثينا وهيرا وبوسايدون، الخ. بالاضافة الى ذلك، فإن العديد من الجوانب الأكثر أهميةً من المعرفة الدينية (من وجهة نظر المؤمنين)، قد تحوّلَت، على أيدي الكهنة، الى تعاليم مُقدّسة غامضة وسرية مقصورة على فئة مُعينة، وبعيدة عن مُتناول الناس. وقد ضاعت هذه الجوانب أيضاً فيما يخص مبحث تاريخ الدين والاثنوغرافيا.
لهذا السبب، نحن في الواقع لا نعرف الا القليل جداً عن ديانات العصور القديمة اليونانية-الرومانية، أي عن المُحتوى الحقيقي للمُعتقدات نفسها. نحن لا نعرف، بشكلٍ أساسي، سوى الأساطير الظاهرية حول الآلهة، والتي تُرجِمَت الى الآداب القديمة وحتى تحوّلَت الى شكلٍ مسرحي وأدبي ساخر. كانت أفكار اليونان القديمة الدينية الحقيقية تحت حراسةٍ مُشددةٍ في الطوائف السرية، في معابد الكهنة، وماتت معهم.
لكن النقطة المُهمة هُنا ليست ببساطة أن معرفتنا حول المُحتوى الفكري لديانات الدول القديمة، ضيقة جداً، وليس ببساطة أن عَبَدَة الآلهة القديمة لم يكن لديهم مفهومٌ واضحٌ عنها. من الضروري أن نُدرِك-مهما بدا ذلك غريباً للوهلة الأُولى-أن هذا المُحتوى من الديانات القديمة لم يُشكل بأي حال الجانب المُهم منها. والا، فكيف يُمكن أن نُفسّر الحقيقة-التي أتيحت لي فرصة الكتابة عنها(6)- التي تقول أن أديان الدول القديمة، التي كانت في نفس مُستوى التطور التاريخي العام وأدّت نفس الوظيفة الاجتماعية والايديولوجية، كانت مُختلفةً بحدّة عن بعضها في مُحتواها وأفكارها؟ في حين أن ديانات العالم الكلاسيكي، وخاصةً اليهودية القديمة، كانت مُوجّهة نحو الحياة على الأرض، فقد كانت الديانة المصريةـ، على العكس من ذلك، مُوجّهةً في المقام الأول نحو الحياة بعد الموت، وأن الديانة المصرية، باهتمامها البالغ بجسد الميت (التحنيط، الأهرامات، معابد الموتى) تختلف بشكلٍ حاد عن الزرادشتية الايرانية، بخوفها الخُرافي من الجُثث ونبذها لها. ان الزهد الصوفي في الهند، الذي امتدّ ليتحوّل الى تعصّبٍ همجي، لم يكن يحمل سوى القليل من التشابه مع التُقى الهادئة والطقوس الشكلية الصرف في الصين الكونفوشيوسية. ان بانثيون الآلهة الهندية واليابانية وغيرها، التي لا تُعد ولا تُحصى، تتناقض بشكلٍ حاد مع العقيدة التوحيدية الصارمة ليهوذا في مرحلة ما بعد المنفى. كانت الأساطير الدينية الثرية عند اليونانيين في العالم الكلاسيكي، تتناقض مع صورة الآلهة المُجرّدة والجافة عند الرومان. ويُمكن للمرء أن يُضيف الى هذه القائمة،عدداً كبيراً من هذه التناقضات. ومع ذلك، فهذا لا يمنع الباحث-على الأقل الماركسي- تمييز ديانات الدول القومية هذه (على الرغم من بقاءها في بعض البُلدان حتى يومنا هذا)، كمجموعةٍ واحدةٍ من الأديان ذات نمط واحد مُحدد.
وأخيراً، فيما يتعلق بالديانات "العالمية" الرئيسية في يومنا هذا، وهي البوذية والمسيحية والاسلام، فإننا نجِدُ صورةً مُماثلة. بادئ ذي بدئ، لا ينبغي للمرء أن يعتقد أن المُحتوى العقائدي لهذه الديانات هو معرفة عامّة. ليس كُليّاً. هذا معروف لدى اللاهوتيين وعدد قليل من الخُبراء "ألعلمانيين". فالجُمهور الغفير من المؤمنين، مثل المسيحيين على سبيل المثال، لديهم فكرةٌ غامضةٌ للغاية عن مُحتوى الدين المسيحي. ويُمكن القول أن مُعظم المؤمنين لا يعرفون ذلك على الاطلاق. وهكذا، وفقاً لاستطلاعٍ أجراهُ معهد غالوب Gallup الأمريكي عام 1954، على الرغم من أن 96% من الذين سُئِلوا قالوا بأنهم مسيحيين، إلا أن 60% منهم لم يتمكنوا من تسمية أعضاء "الثالوث المُقدّس"، و65% منهم لم يعرفوا من ألقى الخُطبَة في الكنيسة، و79% لم يعرفوا اسمَ نبيٍّ واحدٍ من أنبياء العهد القديم، وأظهَرَ استطلاعٌ آخر أن 53% ممن شَمِلَهُم الاستطلاع لا يعرفون أسماء الانجيليين الأربعة(7).
هُناكَ شيءٌ آخرَ أكثرَ أهميةً. وكما هو الحال في ديانات الدولة القومية، نكتَشِفُ هُنا أيضاً أن مُحتوى عقائد الديانات العالمية الثلاث يختلفُ تماماً عن بعضها البعض. هذه الاختلافات تصدمنا بشكلٍ خاص فيما يتعلق بالبوذية والاسلام، حيث يصل الاختلاف بينهما الى أقصى الحدود (هنا تقف المسيحية موقف المُتوسط بينهما). هناك في الاسلام وعظٌ مُتعصِّبٌ حول وحدانية الله، بينما هُناك في البوذية قبولٌ لعددٍ غير مُحدَّد من الآلهة من مُختَلَف الرُتَب. يوجد في الاسلام خضوعٌ غير مشروط وسلبي لله، بينما في البوذية هناك اهمالٌ تام للآلهة وويتم الحديث عن طريقٍ مُستقلٍّ للخلاص يُمكن لكلِّ شخصٍ أن يسيرَ فيه، وتم لاحقاً في البوذية اعتماد فكرة تقديم البشر المُقدسين والأعمال السحرية للذهاب نحو ذلك الخلاص. في الاسلام هناك اعتقادٌ بعمليةٍ تاريخيةٍ واحدةٍ لا رجعةَ فيها، تَبلُغُ ذروتها في يوم القيامة الأخير الذي سيَحُلُّ على البشرية، بينما يوجَدُ في البوذية تسلسلٌ دوريٌّ لا نهايةَ له من الفترات التي تُسيطرُ فيها آلهةٌ مُختلفةٌ على التوالي. يوجد في الاسلام فكرة الخلاص الفردي للنفس البشرية، بينما في البوذية هُناكَ إنكارٌ للخلود الشخصي، وتتوحّد الدارما dharmas وتجتمعُ الى الأبد(8).
ومرّةً أُخرى، كما هو الحال فيما يتعلق بأديان الدول القومية، فإن وجود اختلافات حادّة هُنا، لا يمنعنا بأي حال، من الجمع بين البوذية والمسيحية والاسلام في قائمةٍ واحدة، وفي نوعٍ من "الديانات العالمية".
***
كُل ما سَبَق يوضح بجلاء الخلاف الشديد السائد في الأدبيات العلمية فيما يتعلق بتصنيف الظواهر الدينية وتحقيبها (هيغل، كونت، جون لوبوك John Lubbock، ليو فوربينيوس Leo Viktor Frobenius، آخيليس وباريش وغيرهم). سَعى بعضهم، وان كان ذلك تشويهاً، الى تحقيب الدين استناداً الى تعاقُب مواضيع العبادة، والبعض الآخر، سعى الى تحقيبه حسب أنواع علاقة الانسان بالآله(9). هناك جُهود تسير على هذا المنوال مؤخراً، يقوم بها اريك فروم Erich Fromm(10) أو ارنولد توينبي Arnold Toynbee (الأنظمة التقدمية والدائرية)(11)، وهي جُهودٌ مثيرةٌ للاهتمام، ولكنها غير قادرة أن تحل المسألة.
ومع ذلك، تحتوي التعاليم الماركسية حول المُجتمع ومسار تطوره التاريخي العام، تحتوي على أساسٍ متينٍ بما فيه الكفاية فعلاً، لبناء تاريخٍ دينيٍّ صارمٍ وموضوعي. ذلك أن الدين، من وجهة النظر الماركسية، ظاهرة اجتماعية، وشكل من أشكال الوعي الاجتماعي. وبعبارةٍ أُخرى، إنه أحد أشكال العلاقات "الايديولوجية" بين البشر. من هذا، يترتّب على تعريف الدين ذاته، أنه ليس علاقة الانسان بالاله أو الآله بِقَدر ما هو علاقة بين البشر ببعضهم فيما يتعلق بمفاهيمهم وتصوراتهم عن الاله (أو الآلهة).
***
ولكن قبلَ الشروع في دراسةٍ تفصيلية لهذا الموضوع، دعونا نُحاولُ مرّةً أُخرى أن نتطرق الى مسألة المُحتوى الموضوعي للأفكار الدينية، بالمعنى الدقيق للكلمة.
تُواجِهُنا حقيقة التنوع الاستثنائي للمُعتقدات الدينية على مستوياتٍ مُختلفة، واختلافه، حتى في فتراتٍ تاريخيةٍ مُتقاربة أو مُتطابقة، نقول، تُواجهنا حتماً بالسؤال التالي: ما هو الشيء المُشترك الذي يَجمَع بين كل هذه الأفكار الدينية من حيث مُحتواها، وما هو العامِل المُشتَرَك بين كُل هذه الأفكار الدينية من جانب مُحتواها بحيث يُمكن تصنيفها جميعاً في مجالٍ واحدٍ من الوعي الاجتماعي، وفصلها عن جميع المجالات "غير الدينية" الأُخرى؟
يُجاب على هذا السؤال في أغلب الأحيان من خلال الاشارة الى "الايمان بما هو خارقٌ للطبيعة". الخارق للطبيعة هو الذي يُعتَبَر المعيار الرئيسي أو حتى الوحيد الأصيل للدين، والذي يَفصِلُهُ عن كل ما هو "غير دين". دعونا الآن نَقبَل هذا التعريف، دون انتقاد غموضه وعدم دقته الى حدٍّ ما. ولكن كيف يتجَلّى هذا الايمان بما هو خارقٍ للطبيعة بشكلٍ ملموس؟ في الوعي أم في تصرفات الإنسان؟
هل يتجلّى في مُحاولات تفسير ظواهر العالم المُحيط بنا غير المفهومة (أو كُل الظواهر بشكلٍ عام)؟ أصل الكون، نشوء البشر، حركة الشمس والقمر والنجوم المرئية؟ بالطبع لا.
من المؤكّد أنه كان هُناك زمن (العصور الوسطى الأُوروبية) عندما حّلَّ اللاهوت المسيحي محل معرفة العالم. لقَد أخضَعَ اللاهوت لذاته كُلّاً من الفلسلفة وبذور العلوم الدقيقة البسيطة آنذاك. لكن مَضى على ذلكَ زَمَنٌ طويل. ان تاريخ نضال العالم من أجل التحرر من العقيدة الدينية، وتاريخ انتصاراته على علوم العصور الوسطى السكولاستيكية والزائفة، معروفٌ جيّداً. واليوم، لا يُحاول الدين، على الأقل في البُلدان الرأسمالية المُتقدمة- أن يتحدّى انجازات العلوم الطبيعية الدقيقة أو حتى العلوم الاجتماعية، ولا يُحاول مُنافستها في معرفة العالَم. ان لاهوتيي اليوم أنفسهم، من كاثوليك وبروتستانت وغيرهم، يطّلِعون بشكلٍ مُمتاز على مُنجزات عِلم الفلك والفيزياء النووية وغيرها. لا يزال العديد من عُلماء الطبيعة البارزين مؤمنين دينياً، ولا يمنعهم الدين بأي حال، من تحقيق مُنجزاتٍ وكشوفٍ علمية.
***
بعدَ أن تخلّى منذ زمنٍ طويلٍ عن أي ادعاءٍ "بتفسير" العالم المادي، يدّعي الدين الآن أنه يُوفّر لنا فهماً عاماً لمعنى الحياة وأنه يُزودنا بحلٍّ لمسائل الفلسفة والأخلاق الأساسية، وقبل كُل شيء، حل مسألة أصل الشر في العالم وكيفية مُحاربته.
لذلك، ان عُدنا الى السؤال المطروح سابقاً فيما يتعلق بمُحتوى الأفكار الدينية ذاته، فيُمكن القول أن ما هو مُهم في هذا المُحتوى ليس أسماء الآلهة وليس التعاليم اللاهوتية حول صفاتها وعلاقتهم ببعضهم البعض، وليس أفكار الأفكار حول علاقة الانسان بالاله، ولكن، ما تُقدّمه الأديان حول مسألة أصل الشرور في حياة الانسان.
يُمكن أيضاً أن ندرُسَ تاريخ الدين بأكملهِ في كُل العصور عند جميع الشعوب من حيث كيفية إجابته على مسألة أسباب الشر ووسائل التغلّب عليه. يُمكن الحديث هنا، على ما يبدو، حولَ صعودٍ تدريجي، يتوافقُ مع الصعود العام للثقافة والتعقيد المُتزايد للعلاقات الاجتماعية، مُنتقلاً من الاجابة البدائية العيانية على هذه المسألة، الى حلٍّ أكثرَ عُموميةً وتجريداً. ومن حلٍّ حسّي جسدي مُباشر، الى فهمٍ للشر الاجتماعي ووسائل التخلّصِ منه.
كان الشر، في المرحلة الأُولى من التطور التاريخي (على سبيل المثال، قبائل استراليا وبابوا غينيا الجديدة وهنود أمريكا الجنوبية)، هو الشعوذة التي يُمارسها عدوٌّ ينتمي الى قبيلةٍ أُخرى، ويُنظَرُ الى هذا السحر على أنه مادّيٌ تماماً: السحر الأسود على شكل عظمةٍ يُدخِلها العدو في جسد ضحيته. يُمكن القضاء على هذه السُداسية Hex السحرية عن طريق قيام ساحر مُتخصص بسحب هذه العظمة، أو قتل الساحر العدو.
في وقتٍ لاحق، يبدو أنه ظَهَرَت فكرة قيامَ روحٍ شريرة بالسطو على روح الشخص. هُنا كان يجب العثور على الروح المفقودة واعادتها. أو كانت هُناك فكرة دخول روحٍ شريرة الى جسدِ المريض، وهُنا يجب إخراجُها. كانت هذه مهنة الشامان، الذي يعرِفُ كيفية التعامل مع الأرواح الشريرة. هُنا، كما كان الأمر من قَبْل، لم تكن هُناك فكرةٌ مُجرّدَةٌ عن الشر، بل تصوّرٌ عمليٌّ عياني صَرف له. لكن في هذه المرحلة كانت قد ظَهَرَت الفكرة العامة حول الأرواح الشريرة كنوعٍ خاصٍّ من الكائنات الخفية المسؤولة عن الأمراض والكوارث الأُخرى. مَن هِيَ هذه الأرواح، ومن أين أتت، هل كانت أرواحَ قبيلةٍ مُعادية، أم تجسيداً لقُوى الطبيعة الهائلة، أم أسلافٌ غاضبين من لامُبالاة البشر تجاههم؟ هذه أسئلة أُخرى. يُوجد هُناك أدلّة اثنوغرافية مأخوذة من الهنود الأمريكيين وشعوب سيبيريا وافريقيا، الخ، تُشير الى هذه المرحلة.
في الديانات القومية الطبقية القديمة، يحظى مفهوم الشر بشكلٍ أكثر عُموميةً ومعنى. يَظهَرُ الشر نفسهَ في المقام الأول على شكلِ لامُساواةٍ اجتماعية واضطهادٍ وعُنفٍ وظُلم. وسبب الشر هُنا هو غَضَبُ الآلهة، بسبب قلة اعترام عبادها لَهُم، أو قلة القرابين، أو غير ذلك من اخفاقات المؤمنين.
هُناك العديد من الفروق الدقيقة. فبَعضُ الآلهة شريرٌ بطبيعتها، وبعضها الآخر مُتسامح، ولكن حسّاس. بعضها يطلُبُ قرابين بشرية، وبعضها الآخر يكتفي بالعطايا الصغيرة. تطوّرَت في ديانة العصور الكلاسيكية القديمة، حيثُ وَصَلَ الفكر الديني الفلسفي الى مُستوىً أرفَعَ مما كان من قَبل، تَطوّرَت فكرة عامّة عن الآلهة ككائناتٍ شِبه انسانية، ذات صفاتٍ انسانية. تُعاقِبُ الآلهةَ البَشَرَ على قلة احترامهم لهم، وعلى كبريائهم وغطرستهم، ويُعاقَبون حتى بسبب حَسَدِهم من حظ البشر السعيد (مثل قصة بوليكرات Polycrates (أ)). على أي حال، تم اعتبار كل الشر، وخصوصاً الشر الاجتماعي، من مسؤولية الآلهة.
وفي الديانة التوحيدية الاسرائيلية، تطورت نفس الفكرة بشكلٍ أُحادي الجانب ولكن بطريقةٍ منطقيةٍ تماماً. يتمثّل الشر، في عبادة آلهة أُخرى دون الإله يهوه. يُعاقب يهوه الشعب والأفراد بسبب ارتدادهم عن ذلك. أنه يُعاقبهم على أدنى خطيئة، بصرف النظر عن كيفية القيام بها.
تُحَل هذه المُشكلة في الديانات القومية الشرقية المُنظمة الأُخرى بشكلٍ صارم، وبشكلٍ لا لُبسَ فيه. الشر، في الكونفوشيوسية الصينية، هو فَشَل تأدية الطقوس الموصوفة، أو رفض ذلك. الشر في الديانة الهندوسية أو سببه، هو عدم مُراعاة قوانين الطبقات والفئات التي فرضها الاله.
ارتقى التفكير الأخلاقي الديني حول أسباب الشر الدنيوي الى مُستوى أعلى بكثير في الديانة الثَنَوية في ايران. هُنا، يتجسّد الشر والخير في إلهين عظيمين كانا مُتساويين في القوة والسُلطة منذ زمنٍ بعيد: اله الشر ووالظلام أنجرا ماينيو Angra Mainyu، واله النور والخير آهورا مازدا Ahura Mazda. ان كل الحياة والوجود الانساني، هي ساحة صراع لا يتوقّف بين هذين الالهين. يجب على الشخص الذي يعبد آهورا مازدا أن يُشارك بكل قوته في هذا الصراع.
عندما ينتهي العالَم، سينتصر آهورا مازدا، وسيُسحَق انجرا ماينيو الشرير، وستبدأ مملكة النور. هذا المفهوم المُنظّم جيداً والمُتفائل للشر الدنيوي وتدميره، يتناقض مع منظومة أخلاقية-دينية فلسفية أُخرى، مُتسقة أيضاً، ولكن مُتشائمة، وهي العقيدة البوذية التي تعتَبِر الشر والمُعاناة خاصية حتمية لكُل الوجود. يُمكن للمرء أن يتخلّصَ من المُعاناة فقط من خلال قمع الرغبة في الوجود نفسه. هذا الطريق صعب وبعيد المنال. ولكن يُمكن للشخص الذي يقبل بالايمان ببوذا وتعاليمه، أن يَصِلَ في النهاية الى هَدَفِه، والى النيرفانا.
يَصِل الفكر الفلسفي، رُغم لباسه الديني، في كُلٍّ من البوذية والزرادشتية، الى درجةً عاليةٍ من التجريد، مما يدل على المُستوى المُرتفع للغاية للتفكير الفلسفي-الأخلاقي في كلتا الحالتين. يجب على البحث أن يُفسّر لماذا أنتَجَ هذين النمطين من التفكير نتائجَ مُعاكسة.
تقوم المسيحية بمفهومها عن الشر والخطيئة، بخَرق الصورة العامة والمُنتَظَمة للغاية للصعود التدريجي للفكر الفلسفي وطرحه حلولاً أكثر اتساقاً وتعميماً لمسألة الشر في العالم. ان هذا لأمرٌ غريبٌ فعلاً وغير منطقي الى أبعد الحدود. لماذا يسود الشر في العالَم؟ لأن العالَم خطّاء. ولماذا هو كذلك؟ لأن الزوج الانساني الأول عَصوا الله وأكلوا من ثمرة الشجرة المُحرّمة. هذا الحل غريب، إن جاز لنا قول ذلك. وبما أنه لا يُوجد ما يدل على أن الثمرة المُحرمة كانت ضارةً بأي شكلٍ من الأشكال " وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت-سِفر التكوين" فِمَن الواضح أن خطيئة الانسان الأول هي العصيان وانتهاك التابو. ولكن إن كان ذلك فِعلاً شريراً من الناحية الأخلاقية، فلا يُمكن لأي أخلاقٍ بشرية أن تُبرر عواقب ذلك العمل، المنصوص عليها في الكُتُب المُقدسة: لعنة الله على البشرية جمعاء، وعلى الأرض وكُل ما يعيشُ عليها، وباختصار، إقامة مملكة الشر الدنيوي على الأرض. ان كُل هذا العقاب لا يحتوي أية بذرة عقلانية. ومن الغريب جداً أن آباء الكنيسة المسيحية، الذين طوّروا أُسس اللاهوت على مدى قرون، لم يَجِدوا في مصادر الفكر الديني-الفلسفي شيئاً سوى هذه الأُسطورة العبرية القديمة غير المُتماسكة التي يرتكز عليها مذهب فداء المسيح لنفسه. ما الخطيئة التي من المُفتَرَض أن قاسى المسيح بآلامه الهائلة وضحّى من أجلها لتكفيرها كشهيد؟ أحقاً كانت تلك الخطيئة أكل تفاحتين فقط؟ سيكون من الصعب تصوّرِ شيءٍ أكثر سخافةً من هذا!
ان فكرة "الشيطان" تحوزُ مكانةً غير واضحة في الايمان المسيحي. هذه الشخصية لا تلعبُ أي دورٍ تقريباً في العهد القديم. ينسِبُ سفر التكوين "سقوط" حوّاء وآدام الى الحية، التي كانت "أَحْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ-سفر التكوين"، ولا يُوجد على الاطلاق ما يُشير الى أن الشيطان كان يتخذُ ذلك الشكل. تم ذكر الشيطان ثلاث مرات في العهد القديم (سفر أخبار الأيام الأُولى 21:1، سفر طوبيا 6:1-9، 1:2-7، سفر زكريا 3:1)، وذُكِرَ هُنا ليس كمُعارضٍ لله، بل كروحٍ خاضعةٍ له. هناك "روحٌ شريرةٌ" ما، تُعذّب الملك شاول، لكنها أيضاً كانت "من الرب"، وهذا يُذكرنا بالروح الشامانية (سفر الملوك الأول 16:14). يبدو أن الشيطان، في العهد الجديد، ليس شخصيةً مُستعارةً من اليهودية، بل من الزرادشتية، وهو يلعبُ هُنا، دوراً أكثرَ أهمية. انه "يُغوي" المسيح في الصحراء (ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ-متّى 4، 1-11). بعد ذلك، يقوم يسوع نفسه مراراً وتكراراً بطرد "الشياطين" من المرضى والمجانين، مثلما يفعَلُ الشامات، ولكن هذه الشياطين التافهة لا علاقة لها بالشر العالمي أو بخطيئة الانسان. وهو، اي اليسوع نفسه، مُتّهم بأنه يُخرج الشياطين عن طريق رئيسهم (أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «هذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ»-سفر متّى 12، 24-27، سفر لوقا 9 15،19). فقط في سفر الرؤيا نجد اشارةً أكثر تحديداً الى "التنين العظيم، الحية القديمة المدعو ابليس والشيطان"، وكيف "طُرِحَ الى الأرض" (سفر رؤيا يوحنا 12:9). ولكن هذا هو الوحيد في الأدب المسيحي. لا يوجد أي ذكر للشيطان في قانون الايمان النيقاوي Nicene Creed(ب). ويظل دورهُ كشخصيةٍ مسؤولةٍ عن الشر والخطيئة على الأرض، غير واضحٍ تماماً في العقيدة المسيحية(12)(جـ). انه مجال خصب لنقاشات طلّاب الدين.
***
ومع ذلك، غالباً ما يتم التعبير عن أن الأهم في الدين هو مسألة الموت وحتميته وامكانية تجنّبه أو التغلّب عليه. غالباً ما يُنظر الى مفهومي "الايمان بالاله" و"الايمان بخلود الروح" (أو الحياة ما بعد القبر)، على أنهما لا ينفصلان. يُزعَم أن الايمان بالاله والايمان بالخلود هما نفس الشيء أساساً.
لكن الحقائق تُشير الى أن الأمر ليس كذلك على الاطلاق. لا تسعى جميع الأديان بأي حال، الى ايجاد حلٍّ ما لمسألة التغلّب على الموت. بالاضافة الى ذلك، لا تطرح غالبية الأديان هذه المسألة. بالتأكيد، توجد المُعتقدات المُرتبطة بالموت والعادات الجنائزية بين جميع الشعوب. على الرغم من تنوّع العادات والطقوس الجنائزية، فإن معناها العام مُتطابق في كُلّ مكانٍ تقريباً. انها مُزدوجة: أولاً التحرر من الميت مادياً ورمزياً وتجنيبه الأذى وتجنّب أذاه، وثانياً، إعادة التعزيز الرمزي لنظام الروابط الاجتماعية الذي تخلخلَ بسبب موت أحد أعضاءه. هذه هي الصفة العامة للرد على موت الشخص.
فقط عندما يُدفَنُ زعيمٌ قَبَلي أو قائدٌ عسكري أو ملكٌ أو امبراطور أو كاهن، يُصبح الميّت نفسه الشخصية المركزية في الطقوس. تُمنَحُ له الهدايا والعطايا بعد موته لاسترضاءه او حتى لشراءه. من هُنا تنشأ فكرة تهيئة الظروف لحُسن حياة الميت بعد موته، ولضمان استمرار حياته على الأرض. يعتقد سكان أمريكا الأصليين أن الصياد الشُجاع سيُواصل الصيد بعد موته في الأراضي الغنية بالطرائد. اعتَقَدَ الاسكندنافيون القُدماء أن المُحارب الذي يسقطُ في المعركة سيستمر في قِتال الأعداء في عالمِ ما بعد الموت. لكن هذا النوع من المصير السعيد نسبياً بعد الموت ليس موعوداً للجميع. هذا الأمر ليس موجوداً في العديد من الديانات، بما في ذلك الديانات المُتقدمة نسبياً. لم يَعِد دين اليونان الكلاسيكية أتباعه بأي شيءٍ جذّاب بعد القبر. ويصح نفس الشيء في اليهودية القديمة. إن كانت الآلهة، في هذه الديانات وغيرها، تمُنُّ بالنِعَمِ على شخصٍ تحميه، فإن هذه النِعَم تنطبقُ فقط على حياة هذا الشخص على الأرض وعلى نسله، ولا تمتد الى ما بعد الموت.
ان الديانات الخَلاصية soteriological فقط، هي التي تُحاول حل مسألة الموت باعتباره شراً كبيراً، وتُحاول التغلّب عليه. ان فكرة الانتصار على الموت كانت موجودةً في شكلٍ جنيني، ليس فقط في المثالين المذكورين أعلاه، بل أيضاً في الديانتين المصرية والايرانية القديمة. صارَت هذه الفكرة سائدة في المسيحية، في عقيدة الحساب بعد القَبر المُتناقضة أساساً، والتي بمُوجِبها لا يُوعَدُ سوى القليل من الناس بالنعيم السماوي. وينطبقُ نفس الشيء على الاسلام. لقد حلَّت الديانات الهندية والبوذية مسألة الموت بطريقتها الخاصة، من خلال عقيدة التناسخ reincarnation، ولكن لا يُنظَرُالى هذا التناسخ-على الأقل في حالة البوذية-على أنه تغلّبٌ مُتعمّدٌ على الموت، بل على العكس، باعتباره استمراراً أبدياً لا مفرَّ منه للوجود المؤلِم.
باختصار، لا تحل صيغة "الدين باعتباره مُحاولة للتغلّب على الموت"، بأي حال، محل صيغة "الدين كتفسيرٍ وتبريرٍ للشر والمُعاناة".
***
وهكذا، نرى، أن الديانات، على مدى كامل تاريخها، وعلى الرغم من تنوعها الواسع في أشكال المُعتقدات والصور الأُسطورية الدينية، طَرَحَت في جوهرها اجاباتٍ لمسألةٍ رئيسيةٍ واحدة: ما هو أصل الشر؟ ما هو مصدر مُعاناة الوجود الانساني وكيف يُمكن القضاء عليه؟ وطُرِحَت اجاباتٌ مُختلفة، اعتمَدَت على المُستوى العام للتطور الاجتماعي والثقافي، ولكنها بَحَثَت جميعها في نفس المسألة.
فُهِمَ الشر نفسه بِطُرُقٍ مُختلفة، حسب نفس الظروف التي انبَثَقَ فيه الدين المَعني. كانت الظروف التاريخية، في صورتها الأكثرَ عُموميةً، قابلةً لأن تُختَزَل، الى ميلٍ نحو الانخفاض التدريجي في اعتماد الانسان غلى قُوى الطبيعة، واعتماد مُتزايد مُرهِق للجماهير الشعبية المُضطهدة على السُلطة الحاكمة. وبطبيعة الحال، ظلَّت التبعية للقُوى الطبيعية (المرض، الشيخوخة، الكوارث الطبيعية)، ولكن كانت هذه التبعية، تتم، بصورةٍ مُتزايدة بوساطةٍ اجتماعية: حيث عانى الأغنياء من الأمراض والكوارث الطبيعية أقل من الفُقراء. ولكن ما هُو مُشترَك بين جميع التفسيرات الدينية للشر، أن سببه يُطرَح بشكلٍ مُشوّهٍ وغامضٍ ومُزيّف وخيالي، ويُمكننا أن نعثُرَ عليه في مجال الميتافيزيق والعالم ما فوق الأرضي. لذلك، فإن وسائل التغلّب على الشر مأخوذة أيضاً من ترسانة "العالم ما فوق الأرضي"، والصلاة والدُعاء والتعويذات والاسترضاء والتضحيات والكفّارات، والسعي الى الخَلاص.
ان الفكر الانساني، الذي يستندُ الى "الشقاء الواقعي"، وينبُعُ من "عالمٍ لا قَلبَ له"(13)، لا يُمكنه أن يَطرَحَ حلّاً آخر للمسألة.
ويترتّب على ذلك أيضاً، أن تفسير أسباب الشر، يعني أيضاً في القكر الديني: تبريره. برَّرَت أديان جميع الشعوب، على مر القرون، الشر الاجتماعي بدلاً من مُكافحته. هذا يعني أن الدين كان يَصرِف، ويستمر في صرف انتباه الناس عن النضال الحقيقي ضد الشر في العالَم.
اذا صحّ قولُ ما سَبَق، فيظهَرُ استنتاجٌ مُهم. يُمكننا أن نقول أن الاختلاف الحقيقي في فِهم جوهر الدين من جانب المؤمنين والمٌلحدين، لا يَكمُن في التكرار اليائس وعديم الهَدَف لعبارَتي: "يُوجد إله" أو "لا يوجد إله"، بل في تناقضٍ أساسيٍّ تماماً بين خطّينِ من السلوك العَمَلي: اما مُناشدة الاله (أو الآلهة) لتخليص المرء من الشر والمُعاناة والظُلم، أو مُحاربة الشر والمُعاناة والظُلم بقُواه الخاصة. كُل الأديان تُعطّل الناس في نضالهم من أجلِ مُستقبلٍ أفضل، في حين أن الالحاد الاشتراكي يُسلّحهم ويُعبئهم. علاوةً على ذلك-وهذا مُهم بشكلٍ خاص-يُقسّم الدين الناس الذين يسعون الى السعادة (حول ما يجِبُ أن نصلّي للإله من أجله، وكيفية القيام بذلك)، في حين أن الالحاد الاشتراكي يُوحّدهم حول هدفٍ واحد، وهو النضال.
لقد تناولنا هُنا ذلك الجانب من الدين الذي ينبغي أن يكون ذو أهميةٍ رئيسيةٍ للعلم، وخاصةً الأنثروبولوجيا.
***
الدين، اذا جازَ لنا أن نُكرِّرَ ما قُلناهُ سابقاً، هو ليس موقف الانسان تجاه الإله أو الآلهة، بقدر ما هو موقف البشر تجاهَ بعضهم البعض فيما يتعلق بمفاهيمهم عن الإله أو الآلهة، طالما لا يوجد دينٌ عالمي، ولم يُوجد هُناك أي دين واحد للجميع على الإطلاق، فكُلُّ شعبٍ له دينهُ وطقوسه و"إيمانه".
ليس من قَبيل الصُدفة أنه كان يُنظَر الى الانتماء الديني في العادات الشعبية الروسية في الماضي، على أنه علامة (أو حتى مُرادف) للانتماء الاثني. وعندما كانَ يتعلّق الأمر بشخصٍ من شعبٍ آخر، كان يُسئَل: ما هو "ايمانه"؟
من المقبول، ليس فقط بين العامّة فقط، بل في الأوساط العلمية الانثروبولوجية الحالية أيضاً، أن المُعتقَد الديني (الانتماء الطائفي) هو أحد المعايير الثابتة للاثنية، وأحياناً، يكون هو ما يُميّز مجموعة (اثنية-دينية) عن المجموعات الأُخرى المُجاورة. الأيزديون Yezidi هم عُبّاد نار أكراد. البارسيّون Parsis عُبّاد نارٍ هنود. السيخ هُم طائفة هندو-اسلامية. الأقباط هُم مسيحيون مصريون، وحتى لو أن هُناك تنوّع بين البوسنيون، فهُم يوغسلاف مُسلمون. على الرغم من أن هذه التعريفات غير دقيقة، وحتى لو لم يكن هُناك تطابق كامل بين الانتماء الاثني والديني، الا أن الاحصائات الاثنية والتدابير العملية للادارة السياسية والتقسيمات الادارية، تأخذُ انتماء الناس الديني بعين الاعتبار. غالباً ما يكون هذا الانتماء بمثابة مُعرّفٍ مُهم، وأحياناً، يكون مُعرّفاً ذو أهميةٍ حاسمة. ولكن ما هو أقل شأناً، هو مُحتوى الايمان، أي جانبه اللاهوتي والعقائدي.
يُمكننا القول أنه حتى بالنسبة للمعرفة العلمية حول الدين وتاريخه، فإن المُهم ليس دراسة أسماء الآلهة أو الأرواح، ولا الحكاايات الأُسطورية عنها، ولا وصف طقوس العبادة، حتى الأكثر تفصيلاً منها، ولا المُحتوى العقائدي لنظام ديني مُعيّن. الأهم هو الدراسة التاريخية لوظيفة الدين الاجتماعية، باعتبارها أحد المعايير الاجتماعية التي تُميّز مجموعة بشرية عن أُخرى.
هذا لا يعني بالطبع أنه ليس علينا دراسة مُحتويات المُعتقدات الدينية. يجب دراستها، ولكن لا يجب اعتبارها موضوع البحث الرئيسي(14).
ان كانت هذه الفكرة تبدو غريبةً لأي شخص، فذلك لأن تأثير التقليد اللاهوتي في دراسة الدين لا زال حاضراً. على أي حال، كان هذا الفرع المعرفي في أيدي اللاهوتيين لعدَّةِ قرون. وكانت مُعتقدات كُل دينٍ، بالنسبة لهُم، (سواءً تلك التي تنتمي الى دينهم أو غيرها)، هي التي تُشكّل، وما تزال، موضوع اهتمام دراستهم. ترفضُ الدراسات العُليا بطبيعة الحال، قبول الأبحاث الدينية اللاهوتية الصرف كدراساتٍ حقيقية، ولكن لا يزال يوجد بعض الأبحاث العلمية التي تعتبر المُعتقدات الدينية موضوعاً رئيسياً للدراسة(15). كان هذا طبيعياً ومفهوماً بالنسبة للاهوت، ولكنه ليس صحيحاً بالنسبة للعلم.
وبهذا المعنى، ليس الدين استثناءاً بين الظواهر الاجتماعية. على العكس من ذلك، فهو مثل أي ظاهرةٍ ثقافيةٍ أُخرى، سواءً كانت ماديةً أو فكرية، تُؤدي وظيفةً اجتماعيةً مُهمةً للغاية: انها تُوحّد وتُرسّخ مجموعة من البشر، وتضعها في مُواجهة المجموعات الأُخرى.
ان هذا الدور المُزدوج للدين، كعامل اندماجٍ وفصلٍ في نفس الوقت، هو سمة تُميّز جميع عناصر الثقافة دون أي استثناء. الدين هو أحد تلك العناصر، ولعله يؤدي هذا الدور، وهو يؤديه بشكلٍ أكثر وضوحاً أكثر من أي دورٍ آخر(16).
ان تاريخ الدين، هو تاريخ ظهور العلاقات المُتنوعة بين البشر في سياق تطور المُجتمع، وكيف تمظهَرَت في المجال الايديولوجي ومجال الأفكار الدينية(17).
وعلى هذا المبدأ، يجب بناء عملية تحقيب الدين، وهو تحقيبٌ يتوافق في خطوطه الرئيسية مع التقسيم العام للتاريخ الى فتراتٍ زمنية مُحددة.
ان أقدم فترة في تاريخ الدين، هي الفترة القَبَلية، أي فترة العبادات القَبَلية العشائرية. وعلى الرغم من تنوع تفاصيلها، فإن سماتها الأكثر أهميةً- كما يتضحُ من البيانات الانثروبولوجية الغنية-تتشابه بين الشعوب في جميع أرجاء العالَم. والأهم من ذلك، أن جانبها الاجتماعي مُتطابق في كُل مكان. إن أحد أقدم أشكال العبادة-العبادة الجنائزية the funerary cult-يُعبّر عن فكرة الاهتمام بالشخص الميت، الذي كان ينتمي الى نفس المُجتمع، وهُو يَرمِز الى إعادة تقوية اندماج المجموعة (المُجتمع) التي عانت من الخسارة التي سببها موت أحد أفرادها. الطوطمية، وهي شكلٌ آخر من أشكال العبادة القديمة للغاية، هي اعترافٌ بالتضامن داخل العشيرة، والذي يَرمِزُ اليه الطوطم والطقوس وأساطير الأسلاف الأسلاف الطوطميين. السحر والايمان بالسحر الأسود هو تعبيرٌ عن اعترافٍ أو شعورٍ غامضٍ بالعداء بين القبائل. ان عبادة الإله القَبَلي، هي أقصى درجات الشعور بالتكامل والتضامن الاجتماعي، التي تحققت في ظل المُجتمع القَبَلي العشائري.
في كُل أشكال المُعتقدات هذه، المعروفة لدى الأنثروبولوجيين، هُناكَ مزيجٌ من استعراض قوى التكامل بين العشائر المُختلفة من جهة، وداخل القبيلة نفسها من جِهةٍ أُخرى. ليس من قَبيل الصُدفة أن جميع الطقوس الطوطمية وطقوس المرور، والمُنظمات السرية التي نشأت على أساسها، وما شابَهَ ذلك، كانت مكسوةً بأشكالٍ من السِرية الصارمة. يبدو أنه حتى أكثر أشكال المُعتقدات الدينية بدائيةً، لم تكن مُشتركةً على الاطلاق، حتى بين أفراد عشيرةٍ واحدة أو مُجتمعٍ واحد.
***
تتطابق فترة المُجتمعات الطبقية المُبكرة (العبودية أو الاقطاعية المُبكرة) مع فترة الديانات "القومية" والدولة. انها تختلف عن بعضها، ولكن النمط العام هو نفسه. وينشأ البانثيون القومي الشامل من خلال اندماج وتركُّب العبادات العشائرية-القَبَلية. هذا الاندماج يشمل أقاليم واسعة وجماهير كبيرةً من الناس. أصبحت الآلهة القَبَلية القديمة، وهي حُماة النومات المصرية، مثل حورَس Horus وخنوم Khnum وحتحور Hathor وبتاح Ptah وأوزيريس Osiris وغيرها، أصبَحَت مواضيع للعبادة يُبجّلها الشعب المصري القديم كُله. كذلك صارت آلهة البوليس اليونانية القديمة هي البانثيون الأولمبي. في بعض الأماكن كان رأس البانثيون يكتسب صفة الإله الأقوى والأعظم، أو حتى الاله الأحد، كما حَدَثَ مع يهوه اليهودي. ولكن نشأت بالتوازي مع ذلك وبشكلٍ أكثر حِدّةً، قوى الفصل بين الآلهة، وكان أساسها الفصل بين الجماهير.
ظَهَرَ الدين، في مراحله الأُولى، ليس كعامل انفصال، بل كمؤشرٍ عليه. ان الحروب بين القبائل التي تُميز المرحلة الانتقالية من المُجتمعات ما قبل الطبقية الى المُجتمعات الطبقية المُبكرة، والغزوات، والتحالف بين القبائل مع مُختلَف أشكال التَبعية المُصاحبة لها (دفع الجزية، العبودية والمحسوبية وما الى ذلك)، لم تَظهَر الى الوجود بسبب الدين، بل بسبب الظروف المادية. لكن كان يُنظَر الى هذه الأشكال من العداءات بين القبائل في شكل صراعٍ بين العبادات، وانتصار بعض الآلهة على آلهةٍ أُخرى، واعادة ترتيب اللاهوت وتسلسل الآلهة الهَرَمي. كان الأُمراء الذين عَبَدوا حورَس هم الذين وحدوا مصر كلها ووضعوا الههم فوق كُل الآلهة الأُخرى. في وقتٍ لاحق، تحوّلَت الأولوية في البانثيون المصري، مع تعاقُب السلالات وتغيّر عواصم البلاد، الى الإله بتاح، والى رَع، والى آمون. في بلاد ما بين النهرين، انعَكَسَ نضال الكوميونات المدينية في رفع إنليل Enlil ونينورتا Ninurta ومردوخ Marduk وآشور Ashur الى مواقع السيادة. أدّى تأسيس مَلَكية الأخمينيين Achemenids الفُرس الواسعة الى انتصار الههم القومي آهورا مازدا على جميع الآلهة الأُخرى.
لكن لم تُحقق الجماعات الدينية أهميةً مُستقلة حتى نهاية عصر العالم الكلاسيكي، ولم تنفصل عن المُجتمع الاثني. لقد انضمت آلهة مصر الى البانثيون العام، ولكنها ظلَّت آلهةً مصرية، ولم تمتد عبادتها الى ما وراء حدود مصر. وحتى ظهور الامبراطوريات الكُبرى مُتعددة الجنسيات والاثنيات، قد فَشِلَ في انتاجِ دينٍ واحدٍ لجميع الاثنيات. فلم تفرِض الشعوب المُنتَصِرَة آلهتها الخاصة على الشعوب التي خَضَعَت لها. حتى ملوك الفُرس، عَبَدَة آهورا مازدا، رُغم أنهم جعلوا عبادته الزاميةً بين الشعب الفارسي، لم ينشروها بين عشرات الشعوب التي أخضعوها، وسَمَحوا لهم بكل تسامح بمواصلة عبادة آلهتهم القومية. فقط في العصر الهلينستي والروماني، وبفضل الازاحة الاثنية المُكثفة والواسعة النطاق على نحوٍ مُتزايد، بدأ هذا النوع من الديانات العالمية بالتشكّل. بدأت بعض الآلهة الوطنية المحلية ذات الشعبية الخاصة في الخروج من حدود عبادتها الاثنية الضيقة السابقة، واكتسَبَت أتباعاً خارج أوطانها الأصلية. وهذا ما حَدَثَ لطيبة عمون Theban Ammon وسيرابيس Serapis اليوناني الذي انتشَرَت عبادته في مصر، والإلهة ايزيس Isis المصرية التي عُبِدَت كذلك في اليونان وسيبيل أو كوبيلي Cybele التي نشأت في آسيا الوسطى وعُبِدَت في روما، وميثرا Mithra ذو المنشأ الفارسي الذي عَبَده الرومان. هذه كانت الخُطوة الأولى لتشكُّل "الأديان العالمية"، وهي (أي الأديان العالمية) الحُقبة الثالثة العظيمة في تاريخ الدي، والتي سنتحدث عنها أدناه.
كانت الآلهة القومية تجسيداً لقوى الفصل، والتنافر المُتبادل بين المجموعات الاثنية أو الدُول التي كانت تعبدها. لكن هذا التنافر المُتبادل كان مُتنوعاً في نمطه، بدءاً من التعايش السلمي غير المُتساوي، الى التعايش غير المُتصالح، وصولاً الى التعطش للدماء. لم يُظهِر عَبَدَة أبوللو الأيوني في مدينة ديديما الاغريقية Didyma في القرن الخامس قبل الميلاد، لم يُظهروا أي عداءٍ تجاهَ عُبّاد ديميتريوس الاتيكي أو بوسايدون الدوري Doric Poseidon، باستثناء الاشتباكات العسكرية العَرَضية بينها. على العكس من ذلك، وصَلَت عبادة يهوه الاسرائيلي الى أقصى حدود التعصّب المُتطرف: في زمن غزو اليهود لفلسطين، أمَرَ يهوه أتباعه بإبادة سُكان المُدن المُحتلة الذين يعبدون آلهتهم المحلية، حتى آخرِ فردٍ منهم. لاحقاً، في فترة التجاور السلمي نسبياً بين الاسرائيليين والكنعانيين، أمرَ يهوه شعبه "المُختار" مرةً أُخرى بعزل أنفسهم تماماً عن الكنعانيين، خاصةً فيما يتعلق بالزواج، حيث تأسس زواج الأقارب الديني-القومي الصارم: "سفر نحميا 19:2".
ولا يزال اليهود الملتزمون باليهودية حتى يومنا هذا يلتزمون بزواج الأقارب الديني-القومي، ويُحافظون على وضعهم المُنعزل والمُتقوقع.
ان العزل الذاتي هو سمة من سمات نظام الطوائف الهندوسية حتى يومنا هذا، خاصةً أن الهندوسية، في المقام الأول، ليست هي بحد ذاتها التي تعزل نفسها، بل كُل وحدة من وحداتها الاجتماعية المُنغلقة على نفسها هي التي تفعل ذلك. بالنسبة للهندوسية الارثذوكسية، فهي لا تعترف سوى بالزواج بين أفراد الطائفة الهندوسية الواحدة فقط، وثانياً، لأن الهندوسية ككل، على الأقل من الناحية النظرية، هي نظام مُنعزل، حيث أنها، على عكس اليهودية، لا تعترف بالتبشير الديني للأفراد، ولا يستطيع المرء أن يتحول الى الهندوسية (على الرغم من تبنّي الغرب الواسع للأنظمة الدينية الهندية)، بل يجب على المرء أن يُولَدَ في احدى طوائفها ليكون هندوسياً.
كان للانفصال والعُزلة المُتبادلة بين الكيانات الدينية-القومية (الشعوب والدول) أيضاً جانبٌ آخر، ومهم للغاية: لقد خَلَقَت هذه العُزلة المُتبادلة وهم التضامن الداخلي في داخل كُلٍّ من هذه الكيانات، كما لو أنها تتستر على تناقضاتها الاجتماعية الداخلية. فمِن خلال وضع المصريين في مُواجهة كُل من هو ليس مصرياً، والروماني في مُواجهة كل من هو ليس رومانياً، فقد حَجَبَت الديانات القومية الوعي الطبقي لجماهير الشعب، وهو بالطبع ما كان في مصلحة الأنظمة القائمة.
وبالمُقارنة مع هذه الوظيفة الأكثرَ أهميةً للأديان القومية، والتي هي بمثابة وظيفة ومؤشر للفصل والانعزال الدولي، وبالتالي خِدمة أهداف الطبقة الاجتماعية المُهيمنة لكل شعبٍ على حِدة، فإن مُحتوى المُعتقدات الدينية يبدو أقل أهميةً الى حدٍّ كبير. وبصرف النظر ما اذا كان الحديث يدورُ حول الأديان التوحيدية (اليهودية) أو الثَنوية (الزرادشتية) أو تعددية (أغلبية الديانات القديمة)، وبصرف النظر عما اذا كانت الديانة المعنية مُتوجهة نحو الحياة على الأرض (الكونفوشيوسية والهيودية القديمة) أو نحو عالم ما بعد القبر (المصرية)، أو ما ان كان لديها أساطير غَنيةً (الاغريق) أم لم يكن لها أي أساطير تقريباً (الرومانية)، أو ما اذا كانت مُشبعةً بالتصوف (الهندوسية) أو مُعاديةً لها بشدة (الكونفوشيوسية، الديانة الرومانية)، فلم يُغيّر أيٌّ من هذا وظيفتها الاجتماعية الأساسية.
***
تبدأ الحُقبة الثالثة في تاريخ الأديان بنوعٍ من المُفارقات التاريخية. هذا هو عصر ما يُسمى الديانات العالمية (ما فوق القومية). وتكمن المُفارقة في حقيقة أن هذه الديانات نشأت كمُحاولاتٍ للتغلّب بشكلٍ جذري وجوهري على كل أشكال الانعزال والانفصال. لقد بشّرَت بالاندماج العام والعالمي، ورَفَضَت الاختلافات العرقية والثقافية والسياسية من حيث المبدأ. كَتَبَ بولس الرسول: "لأنه لا فرقَ بين اليهودي واليوناني، لأن رباً واحداً للجميع، غنياً لجميع الذين يدعُونَ به" (رسالة بولس الرسول الى أهل رومية 12:10). وفي رسالته الى أهل بولوسي: " حيث ليس يوناني و يهودي ختان و غرلة بربري و سكيثي عبد حر بل المسيح الكل و في الكل" (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي 3:11).
كان التبشير بساكياموني Sakya-muni البوذية موجهاً أيضاً الى الجميع، بغض النظر عن الطائفة او الطبقة الاجتماعية أو المجموعة الاثنية. بالنسبة للدين الاسلامي، فهو لم يُعبّر في صِيَغٍ لفظيةٍ واضحة عن عالميته، ولكن حقيقة الانتشار السريع للتعاليم المُحمدية في افريقيا وآسيا أظهَرَت وجود قُوةٍ إدماجية كبيرة فيها، وهذه القوة هي التي أدّت، كنوعٍ من التناقض، الى انفصالٍ أكثر شدةً وحدِّة. من الواضح أن الرهبان البوذيين اللاحقين، فصلوا أنفسهم عن الأشخاص العلمانيين وعن كل شيءٍ دُنيوي. اتخذ هذا الأمر في المسيحية أشكالاً أكثر حدة. ان نفس يسوع الذي قال أنه لا ينبغي أن يكون هُناك تمييزٌ بين اليوناني واليهودي، اعتَرَفَ بصراحة، بل وأكّدَ أنه "ما جئتُ لأُلقي سلاماً بل سيفاً"(انجيل متّى 10:34). بل حتى أنه قال "فإني جئت لأُفرّق الانسان ضد أبيه، والابنة ضد أُمها، والكنّة ضد حماتها" وأن "أعداء الانسان أهل بيته". وتم تمييز المسيحيين "المؤمنين" عن الوثنيين. في الاسلام، يصل التناقض بين "المؤمنين" و"الكفار" حد المُطالبة بشن حربٍ لا رحمة فيها ضدهم.
وسُرعانَ ما بدأ نوعٌ جديدٌ من الانفصال والتمييز. لم تُحافظ الديانات الجديدة على وحدتها. انقسَمَت الكنيسة المسيحية منذ بداياتها الى طوائف عديدة، من "بِدَعٍ" وكنائس محلية، واستمر الصراع بينها لعدّة قرون، وكان يتخذُ من وقتٍ لآخر أشكالاً قاسيةً ودموية. لقد حَكَمَت الكنائس والطوائف المُتنافسة على خُصومها بالموت مراراً وتكراراً. ولم يكن الصراع بين الطوائف الاسلامية "السنة والشيعة" أقل ضراوةً. في البوذية، لم يؤدي الصراع بين الطوائف الى مثل هذه الاراقة الجماعية للدماء، ولكنه كان في بعض الأحيان، صراعاً مُحتدماً. أدت الانشقاقات والانقسامات الكُنسية المُتتالية في بعض الأحيان الى نتيجةٍ غير مُتوقعه: إستُعيد نظام الأديان القومية الى حدٍّ ما. وهكذا أدّت ادانة مُجمّع خلقيدونة Council of Chalcedon الكُنسِي للقول بطبيعة يسوع المونوفيزية، أي الواحدية (إما اله أو انسان)، الى تحوّل هذه "الهرطقة" المُدانة الى كنيسة قومية للأرمن والاثيوبيين، وأصبحَت الكنيسة الكالفينية أو البريسبيتارية هي الكنيسة القومية للاستكتلنديين، والكنيسة الانجليكانية هي الكنيسة الانجليزية، وصار الايمان الماروني كنيسةً لمسيحيي لُبنان.
***
ان الدمج والفصل هُما عمليتان مُرتبطتان بشكلٍ لا ينفصل في عملِ أي ظاهرةٍ ثقافية. انها تُوازن بعضها وتتصارع من حيث المبدأ: كلما كانت مجموعة مُعينة من الناس مُتحدة بشكلٍ أكثر تماسكاً، وتميّزت ببعض السمات الثقافية المُشتركة، كلما كان تعارضها مع بقية الجنس البشري أكثر حِدّةً وعُمقاً. والعكس صحيح. ولكن في المُمارسة العمَلية غالباً ما يُنتَهَكُ هذا التوازن.
اذ أن هُناك ظواهرُ ثقافية، يكون فيها عامل التكامل هو السائدُ الى حدٍّ كبير، مثل الفن. ان الآداب الجميلة، أو مقطوعة موسيقية أو مسرحية أو لوحة فنية أو منحوتة، يُمكن من خلالها، أن ينقُل الفنان والمؤلف والمؤدّي مشاعرهم وأفكارهم الى المُشاهدين والمستمعين. ان الاتصال الانساني في الفنان، هو أعلى شكل من أشكال الاتصال الانساني. وبطبيعة الحال، فإن عناصر الانفصال موجودةٌ هُنا أيضاً، طالما أن الناس ينظرون الى نفس العمل بطُرُقٍ مُختلفة. يجد الأُوروبي صعوبةً في تقبّل الموسيقى الصينية، كما هو الحال مع الصينيين بالنسبة للموسيقى الأُوروبية. ان "اللوحة التجريدية" لأوروبا الغربية وأمريكا المُعاصرتين، لا يفهمها الجميع، ولا حتى كثير من الناس في أوروبا وأمريكا نفسها. يُقدّر البعض في أوروبا الرسم الايطالي أو الفلامنكي Flemish painting، والبعض الآخر يتقبّل أكثر المدرسة الواقعية الروسية. بعضهم يُعجبه غلينكا Glinka وتشوبن Chopin وتشومان Schumann، والآخرون يُعجبهم ماهلر Mahler وبروكوفييف Prokofiev وشوستاكوفيتش. وهذا يعتمد على الذوق الشخصي وعلى التقاليد الثقافية العامة. ولكن في حين أنه قد لا يكون هُناك أحياناً تفاهُمٌ مُتبادل بين الأشخاص ذوي الأذواق المُختلفة، الا أنه لا توجد أيضاً عداوة بينهم. لا يوجد في التاريخ حتى الآن حالاتُ حروبٍ دامية بين مُحبي الموسيقى الكلاسيكية والرومانسية، أو بين الفنانين الذين يتبعون مدرستي ديفيد وبيكاسو.
بالاضافة الى ذلك، ليس هُناك شك في أنه نتيجةً للنمو العام للروابط الثقافية في العالم الحديث وتعمقها، فإن التأثير المُتبادل للمدارس الفنية المُختلفة يؤدي أكثر فأكثر الى مزيدٍ من عمليات التكامل والاندماج في الفن. أصبَحَ الشخص المُثقف في يومنا هذا، مُعتاداً أكثر فأكثر على فِهم الفن بمُختلفِ أنماطه، والاستمتاع بالموسيقى الهندية وموزارت وشوستاكوفيتش، وتقبّل الرسم الكلاسيكي الأُوروبي والنحت الخشبي الاقريقي.
باختصار، في الفن، تصعد قُوى التكامل والاندماج، وتضعُفُ قُوى الانفصال.
ليس هذا هو الحال مع الدين. لقد سيطَرَ عامل الانفصال فيه منذ البداية. بالتأكيد تقوم الطقوس الطوطمية بتقريب المُشاركين فيها من بعضهم البعض، ولكن الأهم من ذلك، أنها تضعهم في مُواجهة مع جميع أفراد القبائل الأُخرى، ولا تُساعدة على خلق المُساواة أو الوحدة داخل مُجتمعهم. كان يُمنَعُ النساء والأحداث (الذين لم يخضعوا لطقوس المُرور) حتى من الاقتراب من المكان الذي تُقامُ فيه الطقوس. وينطبق نفس الشيء على طقوس المُرور. ان نشوء الجمعيات السرية يعتمد مُباشرةً على التناقض الحاد بين من هُم اعضاءها ومن هم ليسوا أعضاءاً فيها، وتنشأ حتى بين أعضاء الجمعية الواحدة تمايز حاد في السُلّم الهرمي. حتى في اطار المُجتمع العشائري المشاعي، في العبادات القَبَلية، يظهَر السَحَرة والمُشعوذون و"مُغيروا الطقس" والشامانات، ولاحقاً الكهنة، وكُل نوعٍ مُمكن من حاملي المعارف والمهارات السرية التي لم تكن مُتاحةً للآخرين. لقد استشهدنا أعلاه بوجهة نظر بول رادين بأن هؤلاء "المُفكرين الدينيين" لا يؤدون وظيفة وسطاءٍ بين البشر والأرواح والآلهة وحسب، بل أنهم أيضاً هُم الذين خَلَقوا عالَم الأرواح والآلهة، وخدعوا أعضاء قبائلهم، وخدعوا أنفسهم في نهاية المطاف.
ان حقيقة أن هذا "الانفصال الديني" أصبَحَ أقوى في فترة الديانات القومية ودين الدولة، هو أمرٌ واضحٌ حسبما بيّناه أعلاه. يتخذُ الخلاف والعداء بين الاثنيات شكل الصراعات بين الآلهة. ويظهر داخل كُل دولة، طبقة مُتميزة من الكهنة، وحَفَظة أسرار المعرفة والطقوس. تنشأ في أعمق أعماق الاثنيات، في بعض الأماكن، طوائف سرية تآمرية أكثر صرامة. مثلاً في نشأ في اليونان القديمة طوائف الكابيري(د) Cabiri وكوريت(هـ) Curetes والأُورفية(و) Orphism والفيثاغورية(ز) Pythagoreanism والألغاز الاليوسينية(حـ) Eleusinian mysteries وغيرها.
كانَ ظُهور الديانات العالمية، كما ذَكَرنا سابقاً، بمثابةِ موجةٍ قويةٍ من الميول الاندماجية. لقد خَلَقَت في الواقع، تجمعاتٍ بشريةٍ لم يسبقُ لها مثيلٌ في اتساعها: فقد تقاسَمت البوذية والاسلام آسيا كلها تقريباً فيما بينهما. وسيطَرَت ديانة المسيح على أوروبا. لكنَّ هذا الاندماج كان زوالهُ سريعاً وخادعاً: لقد تحدثنا سابقاً عن التنوع الهائل من الانقسامات والانشقاقات والبِدَع والطوائف والاضطهاد والحروب فيما بينَ الأديان(18).
سيَكون من السذاجة الشديدة الاعتقاد بأن الخلافات العقائدية، والفهم المُتنوع للنصوص اللاهوتية، هي التي تكمُن وراء هذا الانفصال والانشقاقات والصراعات من كُل نوع، وأن الأرمن والأقباط والأثيوبيين قد فصلوا أنفسهم عن المسيحيين الآخرين لأنهم آمنوا بطبيعة المسيح الواحدة وليس المُزدوجة، وأن الروس والرومانيين والصِرب والبُلغار واليونانيين لا يَقبَلون سُلطة البابا لأنهم مُقتنون بأن الرُوح القُدس تأتي من الرب وليس من الرب والابن معاً، وما الى ذلك. ان الغالبية العُظمى من المؤمنين العاديين لا يعرِفون شيئاً على الاطلاق عن هذه التفاصيل اللاهوتية. فقط اللاهوتيون المتخصصون يعرفون ذلك. ولكن حتى بالنسبة لهم، فالأكثر أهميةً هو الولاء للكنيسة، وليس الخلافات حول العقيدة. نأى الكهنة الأرمنيين بأنفسهم عن الخلقيدونيين الرسميين لأنهم لم يرغبوا في اخضاع أنفسهم خِدمةً للبطرياركية البيزنطية، وأرادوا أن تكون لهم كنيستهم المُستقلة. لقد فَصَلَ رؤساء الكنيسة الأرثذوكسية الشرقية أنفسهم عن الكنيسة الغربية لأنهم لم يرغبوا في وضع أنفسهم تحت رعاية البابا (ولم يكن بامكانهم حتى أن يرغبوا في ذلك، لأنهم كانوا تابعين لامبراطورية بيزنطة).
يُمكن للمرء أن يُقدّمَ أمثلةً حول انشقاقات الكنيسة التي لم تَكُن بسبب خلافاتٍ عقائدية على الاطلاق. المثال الأكثر وضوحاً يتمثَّلُ في المؤمنون الروس القُدامى. منذ القرن السابع عشر، وحتى يومنا هذا، رَفَضَ المؤمنون القُدامى بِعناد التواصل مع النيكونيين Nikonians(ط)، الذين انفصلوا عنهم، ولكن ليس بسبب تفاصيل لاهوتية، بل بسبب جوانَبَ طُقسِيّةٍ تافهة مثل كيفية تهجئة اسم "يسوع"، ونُطق كلمة هاليلويا، وأين يجب وضع الأصابع عند الصلاة. ومع ذلك، تم تهجير الناس أو قتلهم بسبب هذه الخلافات التافهة.
لقد اعتبَرَ المُتعصبون من المؤمنين القُدامى بصِدق أن العالم كُله الذي يُعارضهم هو "مملكة العداء للمسيح".
ان قُوى الانفصال في الديانات العالمية، كما هو الحال في الديانات القومية، فعّالة، ليس فقط في المنطقة المُحيطية بين الكنائس والطوائف والمذاهب، ولكن داخل هذه المُجتمعات الدينية نفسها أيضاً. لا يوجد بين رجال الدين أنفسهم ورعاياهم أية مُساواة. هُناكَ تدرجاتٍ عديدةٍ بين رجال الدين: الشمامسة والبيشوب والأساقفة والمطَارنة والبَطاركة والرُهبان الخ، وهذا لا ينطَبِق على الكنيسة الأرثذوكسية وحدها. التسلسل الهرَمي بين رجال الدين البروتستانت أبسَط الى حَدٍّ كبير، ولكن حدودهُ مرسومةٌ بوضوح. ان جماهير العِباد غير متجانسين كذلك: لا يُمكن أن تكون المرأة كاهنة، ولا يُمكن أن تقتربَ من المذبح، ويتمتع الأثرياء الذين يُقدمون مُساهماتٍ كبيرةٍ في ديرٍ أو كنيسة بامتيازات.
باختصار، إن "الأُخوّة" داخل المُجتمع الديني، هي أُخوَّةٌ نسبيةٌ للغاية. وهذا ينطبق حتى بالمعنى الديني نفسه: من المُفترض أن يهتَمَّ كُل شخصٍ عادي بـ"خلاصِهِ" الشخصي، أو على الأكثر بـ"خَلاصِ" أفرادِ عائلته. يُقدَّمُ في أدب العهد الجديد (باسم بولس الرسول) للمؤمنين النصيحة الماكرة التالية: أن يشتري كُلُّ واحدٍ الخلاصَ لنفسه على حساب خسارة نَفسِ أخيه. " لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ"(رسالة بولس الرسول الى رومية 12:19,20). كم هو جميلٌ هذا التسامح والحُب الأخوي!
لم نذكر كذلك، أنه حتى في الأديان العالمية، كما هو الحال في الأديان القومية، يُخفي خيال الأشخاص المُنتمين الى المُجتمع الديني التناقضات الطبقية الحادة، مما يَخلِقُ وَهمَ وجود مصالحَ روحيَّةٍ مُشتركة بين الحاكمين والمحكومين. يقول لينين: لَقَد رَبَطَت فكرة الرب الطبقات المُضطهدة بالايمان بأُلوهية الظالمين"(19).
وبالتالي فإن الأخلاق الدينية هي في الأساس أخلاقٌ أنانية. إنها أنانية لأنها تستبدل العلاقات بين الأشخاص وتوسطاتها بعلاقة كُلِّ فردٍ بالاله. تُرشِدُكَ الأناجيل أن تُحِبَّ الرب أكثرَ من "قَريبك" (أي أخيك الانسان). عندما سُئِلَ عن ما هي أهم وصية في الناموس، أجاب يسوع: " يا معلم اية وصية هي العظمى في الناموس، فقال له يسوع تحب الرب الهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك، هذه هي الوصية الاولى و العظمى، والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك" (انجيل متى 22:36-39، وكذلك انجيل مرقس ولوقا). وهكذا نرى كيفَ تُفَسَّرُ محبة "قريبك" بسُلطةٍ لا تقل عن سُلطة الرسول بولس!. هذا يعني أنه من وجهة النظر الدينية (المسيحية في حالتنا هذه)، اذا كانت محبة أخيك الانسان تتعارَضُ مع محبّة الله، فيجب التضحية بالأول من أجل الأخير. ومن هُنا جاء كضرورةٍ منطقية، تبرير الحروب الدينية والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش وقمع "الزنادقة" والمُلحدين. تُنكَرُ قيمةُ الحياةِ الانسانية باسم واجبِ الانسانِ المُطلَق تِجاهَ الرب. إهزِم الزنادقة! إهزِم الكَفَرَة! قاتِل أعداء الله!
***
قد يتسائل المرء، لماذا لم يَقُل كاتب المقال شيئاً حتى الآن عن الخوف والعجز باعتبارهما أصل كل الأديان؟ ولماذا لم يَذكُر شيئاً عن وظيفة الدين كوسيلة لتَعزِية الفرد في مُعاناته؟ هل عفى الزَمَن هذه الطروحات الماركسية المعروفة؟ هل هي خاطئة؟
لا، انها صحيحة تماماً. ولكن من الضروري أن نَفهَمَ بوضوح ما هي المسألة هُنا.
إن خَوف الانسان وعَجزِهِ أمام قُوى الطبيعة العَمياء أو أمامَ القُوى الاجتماعية العفوية التي تضطهده، هُما الشرط السيكولوجي المُسبَق للدين، ولكن ليس جَذرَهُ الحقيقي.تَشعُر الحيوانات أيضاً بالخوفِ والعَجز في مُواجهة الخَطَر. انها تَشعُرُ بذلك ولكنها لا تُدرِكه. الوعي يظهَرُ فَقَط عند الانسان. ولم يَكُن الانسان الفرد هو الذي يَقِفُ في مواجهة الطبيعة، بل الانسان الاجتماعي، أي المجموعة البَشَرية(20). دعونا نتَذَكّر كلمات ماركس حول "محدودية" علاقات البَشَر "ببعضهم وبالطبيعة" والتي نشأت منها "الديانات الطبيعية والشعبية"(21). يُناشِد الناس (الناس وليس الفرد) ويلجأون عندَ طَلَبِهِم للحماية بطوطمهم وإلهِهم عند شعورهم بالعَجز. ان اله الآخرين لا يَحمي، بل على العَكس، على المرء أن يلجأ للحِمايةِ ضدّه وضد السِحر المُعادي. وماذا عن الخوفِ والعَجّز في مُواجهة القُوى الاجتماعية؟ من الواضح أنه لا يُمكن للمرء أن يَطلُب الحمايةَ سِوى من إلهنا نحن: "يسوعنا المُبجَّل" "عذرائنا المُباركة" و"الله القدير".
هل الدين عزاءٌ كاذب؟ نعَم، ولكن مِمّن يطلُبُ الانسان الذي يَشعُرُ بالمُعاناة هذه التَعزية؟ ليس من الالهِ بَشَكلٍ عام، بل من إلهنا! كان من المُعتاد اختيار قِلّةٍ قليلة من مجموعة الآلهِةِ المُتعددة، أو حتى يتم اختيارُ الهٍ واحد ليكون مُخلصاً ومُعزياً. كانت هذه هي وظائف اوزيريس وايزيس في مصر، و"الأُم العُظمى" بين شُعوب آسيا الوسطى، وميثرا عند الايرانيين. عندما بدأت هذه الالهة في أداء وظيفة العزاء هذه بشكلٍ سيء خلال عصر الأزمات العامة والكوارث الجماهيرية في الامبراطورية الرومانية، كانت هُناك حاجةٌ الى مُعزٍّ جديد، والهٍ يخدِمُ جميع السُكّان المُضطهدين والمتنوعين قَبَلياً في الامبراطورية. وهكذا ظَهَرَ يسوع المسيح، الذي وَعَدَ بالتعزية، وقدّمَ تِلكَ التَعزية الى حين: " تعالوا إلي يا جميع المتعبين و الثقيلي الاحمال و أنا اريحكم" (متى 11:28)(22).
***
ان المُفكّر العظيم سبينوزا هو قائلُ هذه الجُملة المعروفة: " ما يقوله بولس عن بطرس، يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس". هذه فكرة عميقة جداً، على الرُغم من أنه لا ينبغي للمرء بالطبع أن يأخذها بشكلٍ حرفيٍّ للغاية ويُضفي عليها صِفة الإطلاق.
ألا يُمكِنُ أن نُطبِّقَ ذلك على دراسة الدين؟ نعتقِدُ أنه يُمكنِ ذلك.
لَقَد تَرَكَ لنا نحاتي اليونان القديمة العُظماء فيدياس Phidias وبوليسيتوس Polycitus وبراكسيتيليس Praxiteles وليوكاريس Leochares منحوتاتٍ جميلةٍ لزيوس وأبوللو وآلهة الأوليمب الأُخرى. لكننا لا نتعلّم منها شيئاً عن تلك الآلهة، بل هي تُخبرنا الكثير عن نحّاتيها، وعن الثقافة الفنية الكلاسيكية الرفيعة في اليونان.
تُحدثُنا الالياذة والادويسة لهوميروس عن نفس تلك الآلهة الأولمبية. لكن هذه القصائد تُعلمنا كثيراً عن هوميروس وعن الشعر الملحمي العظيم أكثر مما تُعلمنا إياه عن الآلهة الأولمبية.
رَسَمَ اندريه روبليف Andrei Rublev والدة الإله والعديد من الايقوان الأُخرى، لكننا نتعَلّمُ منها كثيراً عن غبقرية روبليف الفنية وعن البيئة الثقافية التي أنتَجَ أعماله فيها أكثرَ مما نتعلّمُ منها حول والدة الاله أو القديسين.
لقد تَرَكَ لنا لاهوتيو أوروبا العصور الوسطى العديد من الأعمال التي تحتوي على أفكار عميقة جداً حول صفاتِ الآلهة ومذاهب العقائد المسيحية المُختلفة، ولكننا لا نتعلّمُ من هذه الأعمال عن صفات الاله، بل عن العقل البشري والظروف الاجتماعية والثقافية التي أدّت الى النظر في موضوعات خيالية صَرف.
تُزودنا الأناجيل وبقية أدبيات العهد الجديد بتفاصيل كثيرةٍ عن يسوع المسيح وحياته وتعليمه. ولكننا لا نتعلّمُ من تلك الكتابات عن يسوع (نحن غير مُتأكدين ما اذا كانت هذه الشخصية موجودة أم لا)، ولكن عن الصراع الاجتماعي التي كُتِبَت في اطارها تلك النصوص.
باختصار، نستمدُّ من مقولة سبينوزا تأكيداً لحقيقة أن الوظيفة الرئيسية لمؤرّخ الدين ليس النفاذ الى جوهر صور الخيال الديني وأوجهة التشابه والاختلاف بينها، بل دراسة وسطه الاجتماعي الثقافي، والظروف التاريخية الملموسة التي خُلِقَت فيها تلك الصور، ووحدة الناس وانفصالهم والذي انعَكَسَ في خلق المفاهيم الدينية.
* سيرجي الكساندروفيتش توكاريف 1899-1985 باحث ماركسي في الاثنوغرافيا والتاريخ والمعتقدات الدينية، ودكتور في العلوم التاريخية.
دخل جامعة موسكو بعد ثورة اكتوبر مباشرةً، ودرّس اللغة الروسية واللاتينية في المدارس المحلية في مقاطعته تولا التي وُلدَ فيها، لمدة 4 سنوات، وعاد ليدرس في جامعة موسكو عام 1922. حصل على منحة دراسية من الدولة واستكمل عمله بالتدريس. بعدما تخرج من الجامعة عام 1925، استكمل دراسته في معهد الدراسات العليا في الجامعة وقدم اطروحته حول (المُجتمع الطوطمي)، ودرس في قسم الاثنوغرافيا في المعهد. قدم تقاريراً عن الطوطمية الاسترالية والديانات الميلانزية وعن العادات الاقتصادية الانجليزية في القرون الثالث عشر وحتى الخامس عشر، وتخرّج رسمياً من الجامعة عام 1930. عمل في المتحف المركزي للاثنولوجيا عام 1927. درّس في جامعة موسكو وقدّم دورةً حول تاريخ البُنى الاجتماعية في جامعة صن يات صن للعمال الشيوعيين في الصين. درس توكاريف تاريخ شعوب ياقوتيا وسيبيريا وقام برحلة ميدانية بحثية الى تركمانستان عام 1928، وقام برحلات متعددة الى التس وياقوتيا عام 1934. عمل توكاريف في قسم (الاقطاعية) في أكاديمية الدولة لتاريخ الثقافة المادية، وانتسب الى المتحف باعتباره عالماً اثنوغرافياً عام 1938. كان باحثاً مُساعداً في المتحف المركزي المُعادي للدين حتى عام 1941. تم تعيين توكاريف عام 1939 استاذاً في قسم الاثنوغرافيا في معهد التاريخ في جامعة موسكو الحكومية وظل كذلك حتى عام 1973. دافع توكاريف عن اطروحة الدكتوراة بعنوان (النظام الاجتماعي للياقوت في القرنين السابع عشر والثامن عشر). وفي عام 1943 عمل كرئيس قسم لمعهد الاثنوغرافيا التايع لأكاديمية العلوم السوفييتية.
كان توكاريف في أعوام 1951-1952 أول عالم اثنوغرافي سوفييتي يقوم بالتدريس في جامعتي برلين ولايبزغ في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
ترأس توكاريف قسم الاثنيات الأوروبية غير السوفييتية عام 1961 في أكاديمية العلوم. وكان منذ عام 1956-1973 مسؤولاً عن قسم الاثنوغرافيا في معهد التاريخ في جامعة موسكو. حصل على ميدالية العمل مرتين وجائزة الصداقة بين الشعوب، وميدالية العمل المدني في الحرب الوطنية العظمى وميدالية الدولة السوفييتية. وله عشرات من الكتب والمقالات العلمية في مجاله.
1- See, for example, L. Ia. Shternberg, Pervobytnaia religiia v svete etnografii, Leningrad, 1936, p. 31 V. G. Bogoraz, "Chukchi," part 2, R-e-lig-iia , Leningrad, 1939, pp. 4, 11
2- See V. N. Kharuzina, "Zametki po povodu upotrebleniia slova fetishizm, " -E---t--n- ograficheskoe obozrenie, 1908, no. 1-2
3- See, for example, B. P. Shishlo, ktoki kul ta predkov, Leningrad, 1972
أ- حاولت أن أبحث عن ما هي الأفكار التي استندت عليها النظرية الاسطورية في الاثنوغرافيا في القرن التاسع عشر، ولم أتوصّل الى نتيجةٍ حاسمة. ولكن قد يُساعدنا بعض ما استطعت التوصل اليه. الاسطور، بالنسبة الى فيلهلم فوندت، هي الانعكاس "المُباشر" للظواهر الطبيعية، وهي مُطابقة للعمليات المُباشرة للادراك الحسي كما كان موجوداً عند الشعوب القديمة. ان عيب جميع النظريات في تفسير الاسطورة، حسب فوندت، هو أنها جميعها اعتبرت الاسطورة تفسير الشعوب القديمة لظواهر متنوعة، مثل الحياة والموت والتغير والفصول، بينما يجب أن نعتبر، حسب فوندت، أن شكل الظواهر وتجلّيها يتطابق مع ادراك الناس الحسّي لها. بعبارةٍ أُخرى، الأساطير، هي التمظهر الطبيعي المُباشر لشكل ادراك الناس القُدامى لما يُحيط بهم.
في رأي الأنثروبولوجي جيمس فرازر، أن الأسطورة تنشأ عن الطقوس في خلال العملية الطبيعية للتطوّر الدينيّ. الأسطورة تخدم كوظيفة "مُباشرة" لفهم العالم والسيطرة عليه من خلال الطقوس.
يرى مانهارت، أنه لأجل فهم أسطورةٍ ما، يجب أن ننظر الى التقاليد الحيّة للشعوب، وكيف يعيشون. ان تقاليد الشعوب الزراعية، على سببيل المثال، تُقدّم لنا تفسيراً لأُصول اساطيرها. وبذلك، هناك ارتباط "مُباشر" بين التقاليد الحيّة ونمط حياة الناس، وأساطيرهم.
4- K. von Sydow, Selected Papers on Folklore, Copenhagen, 1948
5- P. Radin, Primitive Religion, New York, 1937 (2nd ed., 1957)
6- S. A. Tokarev, "Problemy periodizatsii istorii religii," Voprosy nauchnogo ateizma, no. 20, Moscow, 1976, pp. 77, 78
7- W. Herberg, Protestant, Catholic, Jew. An Essay in American Religious Sociology, New York, 1956, pp. 14, 236 also see Iu. A. Levada, Sotsial naia priroda religii, Moscow, 1965, p. 198
8- S. A. Tokarev, op. cit., p. 80
9- S. A. Tokarev, Rannie formy religii i ikh razvitie, Moscow, 1964, pp. 6-10
10- E. Fromm, Psychoanalysis and Religion, New York, 1967, pp. 34-37
11- A. Toynbee, An Historian s- Ap proach to Relig-ion, Oxford, 1956, pp. 10-13
أ- حَكَمَ بوليكرات جزيرة ساموس اليونانية بينَ 540-522 قبل الميلاد. كان ارستقراطياً يُحب المال والغزو والثروة. وحَسَب هيرودوت، كان حظّهُ سعيداً دائماً، فقد نصحَه صديقه، حاكم مصر أحمس الثاني بأن يُلقي بأحد خواتمه الثمينة في البحر كقُربانٍ للآلهة، لأن الحظ الجيد الى هذه الدرجة قد يَجلِبُ له المصائب الكثيرة لاحقاً. فَفَعَلَ بوليكرات ما نصَحهُ به صديقه. وفي أحد الأيام اصطادَ أحد الصيادين سمَكَةً كبيرةً من البَحر وأرادَ أن يُقدمها عَطيةً لبوليكرات، واذ بالطُهاة يكتشفون أن الخاتم في أحشاءها، فأعادوهُ الى صاحبه.
حَلُمت ابنة بوليكرات بأن زيوس سيُعاقب أبيها.
وفي خِضَمّ الأحداث، قام ملك ليديا، وكانت جُزءاً من الامبراطورية الفارسية، بدعوة بوليكرات للقدوم عنده، بعد أن حاصَر الاسبارطيون والكورنثيون جزيرته، فلبّى دعوته وقَتَلهُ ملك ليديا صلباً.
ب- قانون الايمان، هو بيان المُجمّع الكُنسي القسطنطيني الأول الذي عُقِدَ في نيقية عام 325، وهو بيان لاهوتي يوضّح للمؤمنين أُسس العقيدة المسيحية الصحيحة.
-12 قام الفيلسوف الروسي اللاهوتي فلاديمير سولوفييف بمُحاولةٍ غريبة للجمع بين التعاليم الزرادشتية حول الروح الشريرة العظيمة، خصم الرب، والعقيدة المسيحية. لقد اعتَبَر فكرة الشر ليس بالمعنى السلبي، اي غياب الخير، بل كقوة عالمية نَشِطة تُناضل ضد الخير. لقد فَهِمَ سولوفييف فكرة "المسيح الدجّال أو المُجدف" في سفر الرؤيا، بالمعنى الواقعي تماماً، كخصمٍ للمسيح سوف يظهرُ الى الوجود.
See V. Solov ev, "Kratkaia povest ob Antikhriste," Sobr. soch., vol. 8, St. Petersburg, 1901
جـ- فلننظر ما الذي يعتقد سولوفيوف أنه سيأتي مُعارضاً المسيح: " ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْلِ الْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ وَحْشًا طَالِعًا مِنَ الْبَحْرِ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونِهِ عَشَرَةُ تِيجَانٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ اسْمُ تَجْدِيفٍ. وَالْوَحْشُ الَّذِي رَأَيْتُهُ كَانَ شِبْهَ نَمِرٍ، وَقَوَائِمُهُ كَقَوَائِمِ دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَمِ أَسَدٍ. وَأَعْطَاهُ التِّنِّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَانًا عَظِيمًا" سفر الرؤيا.
هذا التخريف، هو ما كان سولوفيوف يعتقد أنه سيأتي لمُعارضة المسيح.
13- إسهام في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل، كارل ماركس، ترجمة هيثم منّاع، دار الجمَل للنشر، ص3
14- يتفقُ مع هذا بعض العُلماء البرجوازيين الأكثر نفوذاً. على سبيل المثال، يكتب الانثروبولوجي روبرت لُوي Robert Lowie: "اذا وَرَدَ الى علمنا أن قبيلةً تُمارس السحر، وتؤمن بالأرواح وقُوىً غامضة في الطبيعة غير الحيّة، أو ربما سيادة بعض الكائنات الميتافيزيقية، فإننا لا نعرف بعد شيئاً عن دين هؤلاء الناس. كُل شيء يعتمد على الترابط بين مجالاتٍ مُختلفةٍ مما هو خارقُ للطبيعة، على الوزن العاطفي الاجتماعي المنسوب الى كُلٍّ منها".
R. Lowie, -Pri- m- itive Religion, New York, 1925,p. 53
ونحن نُضيف، ان الأمر يعتمد كذلك على نوع وبُنية مجموعة الأشخاص التي تؤدي هذه الطقوس، والتي تنتمي هذه المُعتقدات اليها.
15- See, for example, I. A. Kryvelev, Religioznaia kartina mira i ee bogoslovskaia modern--i zatsiia, Moscow, 1968, pp. 3- 13, and others
16- See S. A. Tokarev, Razgranichitel nye i ob edinitel nye funktsii kul tury (Doklady k IX MKAEN, Chikago, 19-73), Moscow, 1973
17- A substantial literature on the "sociology of religion" has already come jnto being abroad. See, for example, G. Le Bras, ~tudesd e sociologie religieuse, vols. 1-2, Paris, 1955- 56 .Herberg,,The Sociology of Religion, London, 1969 R. Robertson, infiihrungin die Religionssoziologie, Munich, 1973, and others. Among Soviet works see, particularly. Iu. A. Levada, op. cit.
د- طائفة الكابيري، كانت طائفة في آسيا الصُغرى ومقدونيا وشمال ووسط اليونان. لقد كانوا مُروجين للخصوبة وحُماةً للبحارة، وكانت آلهتهم من الذكور. وتضمنت عباداتهم عبادة قوة الخصوبة ومُمارسة طقوس المُرور.
هـ- طائفة الكوريت وهي طائفة كريتية مُكونة من 6 كَهَنة، وكانوا يهدفون الى اعادة تمثيل ولادة الإلهة ارتيميس.
و- كانت الأورفية عبادة سرية، وَعَدَت اتباعها بحياةٍ أُخرى أفضل من الحياة الدُنيا. كان أحد وجوهها الأساسيىة هوسها بأُسطورة اورفيوس، الموسيقي الذي ذَهَبَ الى العالم السُفلي لإعادة زوجته الميتة يوريديس.
ز- الفيثاغورية: طائفة سرية يونانية كانت تؤمن أن العالم يقوم على الأرقام.
حـ- طائفة الألغاز الاليوسينية، وهي طائفة زراعية يونانية. تعتمد على اسطورة اختطاف هيديس لبيرسيفوني، وهي ابنة الالهة ديميتر، حيث قامت ديميتر، أثناء بحثها عن ابنتها بتعليم الزراعة لزيوس، وفي النهاية استطاعت ديميتر أن تُخرِجَ ابنتها وأن تجتمع معها.
18- عبّرَ الصحفي الاجتماعي الأمريكي المُعاصر هارولد اسحاق بشكلٍ دقيق عن ظيفة العَزْلِ والفَصل الذي يقوم بهِ الدين، وقَد وَضَعَعُ في نفس صف العوامل الاجتماعية الأُخرى التي تفصل البشر عن بعضهم البعض (العِرق، اللغة، التقاليد التالريخية، الخ). "تُشير البيانات الى أنه كلما كانت المُعتقدات والروابط الدينية أقوى، كلما زادَت قوة العداء للمُعتقدات الدينية الأُخرى ومُعتنقيها".
H. R. Isaacs, Idols of the Tribe, New York, 1975, p. 151
صحيح أن العداء الديني لم يكُن في كثيرٍ من الأحيان سُوى غطاءٍ لمصالح دُنيوية صرف. لكن كانت الأطراف المُتحاربة تسعى دائماً الى الحصول على بركات وعونِ آلهِتها. وفي حين قد يكون القادةُ منافقين، فإن جماهير الناس الذين ينضوون تحت رايتهم، كانوا يؤمنون بالبركات الالهية. "لقد قَتَلوا وقُتِلوا لأنهم اعتقدوا أن عقيدتهم وطقوسها صحيحة".
ibid., pp. 153, 154
"هناكَ شيءٌ واحدٌ يُمكن قولهُ على وجه اليقين، عندما يَبحَثُ المرء في الصراعات الدائرةِ بين دماعات يومنا هذا: فإنه يُمكن أن نَجِدَ عناصرً دينيةً في كُلٍّ منها".
ibid., p. 154
ط- النيكونيين، وهُم أتباع البطريارك الروسي نيكون، الذي قامَ باصلاحاتٍ كُنسية. المؤمنون القُدماء، هم الذين رفضوا اتِّباع الاصلاحات.
19- V. I. Lenin, Poln. sobr. soch., vol. 48, p. 232
20- تَوَصَّلَ علم النفس المُعاصر الى نتيجة مفادها أن "الفرد لا يَدخُلُ في أي علاقاتٍ مع الطبيعة، أو مع العوامل البيولوجية أو غير البيولوجية مع البيئة، الا من خِلال الوظائف الاجتماعية المُختلفة لاستخدام أو حماية الموارد الطبيعية للمُجتمع.
B. S. Anan ev, o problemakh -sovrem ennogo chelovekoznaniia, Moscow, 1977, p. 24
21- Marx and Engels, Soch., vol, 23, pp. 89, 90
22- يكتُبُ الصَحَفي الأمريكي هارولد اسحاق في هذا الشأن: "لا يتلَقّى الفرد من خلال ايمانه بالدين، العزاءَ كفردٍ مُنعزل، بل كَعضوٍ في جماعة، حتى في الطوائفِ الأكثر انعزاليةً وتأمليةً والجماعات الألفية، يُطلَبُ أن يكون هناك جماعةٌ من المتأملين والدُعاة: "انهم لا يَسعَونَ الى عالمٍ داخلي، بل روابِطَ خارجيةٍ كذلك...مشاعر الانتماء المُشتَرَك مع الآخرين الذين يشعرون بما يشعُرُ به فردُهم. لا يَذهَبُ هؤلاء الباحثين عن الخلاص وحيدين الى الجبالِ المُنعزلة في الصحراء، انهم يجتمعون في الكنائسِ والمعابِدِ والكوميونات وغيرها.
H. Isaacs, op. cit., p. 168
ترجمة لمقالة:
S. A. Tokarev (1979) On Religion as a Social Phenomenon (Thoughts of an Ethnographer), Soviet Anthropology and Archeology, 18:3, 3-36
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم
.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة
.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.
.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة
.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال