الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخطاب الأيديولوجي السياسي

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2024 / 2 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


قومي ، ماركسي ، إسلامي
" بسبب البوليس السياسي لا يزال Word في غير محله ، للتضييق والحيلولة دون الكتابة ودون النشر ، لان الدولة البوليسية التي ليس لها فكر ، تعادي الأفكار المنادية بالحرية وبالديمقراطية ، لأنها تخاف خطاباتها التي يتلقاها أجهزة الغرب التي تعتمدها كمرجعية عندما يريد الغرب تقطيب النظام المزاجي البوليسي ، كما يعتمدها كسند لمعرفة الأوضاع العامة باي دولة وبلد .. لكن أيام الطغيان والاستبداد البوليسي في طريق الزوال " .
ما يؤسف له ان حضور هذه الخطابات الأيديولوجية والسياسية ، منذ انحلال العلاقة بين هذه المكونات في بداية القرن الماضي ، لا تزال هي الوصفة الجاهزة للدفع باطاريح الاخر ، الخصم ، وارجاع سبب التخلف الى تخلي خطاب من الخطابات المتصارعة ، عن حجج الفريق الفاعل في الساحة السياسية والأيديولوجية ، ويروا من خلال تماسك البنيان الأيديولوجي والسياسي ، وبعكس الخطابات الأخرى ، انه مشروع الإنقاذ للخروج من الازمة ، وشق طريق التغيير الشامل للنهوض بالدولة التي لن تكون الدولة الحالية ، والنهوض بالشعب ليتبوأ مكانته امام مكانة الأمم المتقدمة ..
ان هذا الصراع الأيديولوجي والسياسي بين هذه الخطابات ، سيعرف تراجعا بعد سقوط الكتلة الشرقية التي قادتها موسكو ، وبعد تحول المطالب من مطالب الدولة ، الى مطالب الخبز .. فأصبحت الشعوب تتحرك للدفاع فقط عن بقاءها ، الذي اخذت منه القوى الجديدة المتصارعة في الساحة ، باسم الشعوب المغيبة في معادلة رسم التغيير الذي فرطت به القوى القديمة التي تركت الصراع ، للقوى التي جاءت بعدها ، رافعة لمطالب ليست هي مطالب القوى السياسية منذ ثلاثينات القرن الماضي .
فإعطاء صورة واضحة عن نوع الخطابات المتصارعة ، سيعطي صورة واضحة عن نوع القوى التي تتحرك في الساحة ، لكنها بقدر ما تراجعت الى الوراء ، بقدر ما خبى ، او يكاد يخبو دورها في تحريك الشارع الذي لم يفرط يوما في التفاعل مع المشاريع الأيديولوجية والعقائدية التي تم التسويق لها ، لإحراز النصر العظيم على إسرائيل ، والامبريالية بإخطبوطها الرأسمالي الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية ، واخطبوطها الاشتراكي الذي قاده الاتحاد السوفياتي حتى نهاية تحلله وتفككه ليرجع الى وضعه الجغرافي قبل الحرب الكونية الثانية .. فحرب الخليج كانت ضد الفكر القومي العروبي ، وحرب " داعيش " كانت ضد المشروع الإسلامي ( المعتدل ) ، وحرب الأسواق كانت ضد أي نهضة او حركة او محاولة ، لتقدم الدولة والبلد . فانهزم المشروع القومي ، كما انهزم الإسلامي ، وانهزم المشروع التحديثي والتصنيع ، الذي يعني فشل المشروع الليبرالي المشوه ..
1 ) الخطاب القومي العروبي الماهوي :
هناك صعوبة أولية تعترض محاولة المعالجة النقدية للفكر القومي العروبي ، بغض النظر عن تنوع خطاباته .. وتتعلق بإمكانية الفصل بين ما هو نظري ، وما هو سياسي . ذلك ان الظاهرة القومية بقدر افرازها لمجموعة من التنظيرات ، بقدر ارتباطها كذلك ببعض التطبيقات التي تجلت أساسا في التجربتين الناصرية والبعثية ( حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي يمين ) و ( حزب البعث العربي الاشتراكي السوري يسار ) ، وبالتالي ان شعار " القومية العربية " الذي كان وراءه المسيحيون العراقيون ، والسوريون ، واللبنانيون ، والفلسطينيون ، والسودانيون ، واليمنيون ..لم يعد مطلبا نظريا فحسب ، بقدر ما تحول الشعار لشعار مركزي لبعض الأنظمة السياسية العربية ، وشكل تبريرا أيديولوجيا لمجموع ممارساتها ، والتي تميزت بالنسبة لبعضها بالتقاعس في انجاز المهام التحررية ، واحيانا أخرى بكبت ولجم الحريات ، ومصادرة حقوق المجتمع المدني .
ان تجاوز هذه الصعوبة ، يفترض مساءلة الفكر القومي ، بصدد المهام المركزية التي عمل على بلورتها ، كما يستوجب كذلك المعالجة النقدية لأهم مفاهيمه ومقولاته ، تلك المهام التي يمكن اختزالها في شعار مركزي يتمحور حول ثلاثة اهداف : الوحدة / التحرير / الاشتراكية ، والتي تقوم على مرجعية مفاهيمية ، تقوم على مفاهيم : الامة / اللغة / الدين ..
ان المطلب القومي المتعلق " بالوحدة العربية الشاملة " ، يقوم على الإقرار بوحدة اللغة والدين والتاريخ المشترك . وهكذا ان التماثلات العبْر تاريخية ، هي التي تشكل أرضية للوحدة المنشودة . وبهذا المعنى يمكن اعتبار الخطاب القومي ، خطابا ماهوياً . ذلك ان " الامة العربية " هي ماهية واحدة . واحدة بدينها ولغتها وتاريحها ، وبالتالي انها ماهية متحققة بالإمكان ، ويجب ان تتحقق بالفعل . ان كل خطاب ماهوي يسعى للقبض عن الجواهر باعتبارها كائنات -- واقعية كانت ام فكرية – تتصف بمطلقيتها وتعاليها عن متغيرات الزمكان . فبهذا المعنى يعتبر الخطاب القومي الماهوي ، اللغة والدين والتاريخ المشترك ، " جواهر خالصة " . ومن هنا مصادرته مصادرته على المستقبل باسم الماضي . واضافة لما سبق تستوقفنا ملاحظة أساسية ، ذلك ان محورية مفهوم " الامة " في الخطابات القومية ، يقابله غياب له دلالته لمفهوم " الدولة " . فبغض النظر عن الحديث عن الدولة القطرية أحيانا ، وعن الكيانات المصطنعة أحيانا أخرى ، يلاحظ على الفكر القومي الماهوي ، عدم تأصيله لمفهوم الدولة على المستويات الفلسفية ، النظرية والحقوقية السياسية ، مع غياب كامل للتأصيل السسيولوجي .
ان المكونات الثقافية التي يركن اليها الخطاب القومي الماهوي ،يجب اعتمادها في نسبيتها وتاريخيتها ، ذلك ان اللغة أولا كأداة للفكر ووسيلة للتواصل ، ترتبط بالممارسة الإنسانية في مرحلة تاريخية محددة ، وبمستوى تطور المعارف وحقل الدلالات ، حيث ان الفكر يعمل على ابداع مقولاته ، بارتباط مع مستجدات الواقع التاريخي ، وخصوصية مسائلة الذات للعالم . في حين ان الدين ثانيا ، كمعتقد وتشريع ، شكل اطارا عاما سيتلون بخصوصية كل مرحلة على حدة . ان التصورات الاعتقادية في مجال الفكر العربي / الإسلامي ، قد حكمتها قوانين التطور التي تقوم على التراكم والقطيعة . ومن هذا المنطلق تطرح ضرورة إعادة النظر في تمثل الموروث الثقافي ، ذلك ان عصر الانحطاط العربي ، ارتبط باختزال الحضارة العربية / الإسلامية ، في المعتقد الديني ، ليس كمعتقد مفتوح للتأويل ، ومرتبط بالممارسة الإنسانية ، بل كدغمائية جامدة . وبقدر ما يلح الخطاب القومي الماهوي على وحدة اللغة والدين ، يؤكد على وحدة التاريخ البشري ، مع العلم ان هذه " الوحدة " انْ شكلت اطارا حضاريا وثقافيا تميز بالتنوع والاختلاف ، فإنها لم تتحقق على مستوى الكيان السياسي ، الاّ على المستوى الرمزي .
ان مسائلة الفكر القومي الماهوي بصدد الإقرار بوحدة اللغة والدين والتاريخ ، باعتبارها تمظهرات للماهية التي يسعى هذا الفكر تحديدها ، تستوجب كذلك طرح التساؤل بصدد مفهوم " الامة " ، وذلك بغية وضع الحدود الابستمولوجية في مختلف استعمالات هذا المفهوم . فهل استطاع الخطاب القومي الماهوي ، تجاوز الأرضية الثيولوجية Théologique التي يتأسس عليها مفهوم الامة ، وتأسيس الأرضية الفلسفية النظرية والحقوقية ؟ . ذلك ان مفهومي الامة والدولة ارتبطا في التقليد الغربي الأوروبي ، بتاريخ طويل من المرحلة اليونانية ، الى المرحلة المعاصرة ، تقليد اقترن بتأصيل فلسفي ونظري صاحَبه ابداع مفاهيم القانون والحق والحرية وغيرها ..
انطلاقا من هذه المعطيات السابقة ، تتوضح الجوانب الميتافيزيقية ، في الخطاب القومي العربي كخطاب ماهوي ، في حين ان تجليات هذا الخطاب على المستوى السياسي ، والتي تتمحور أساسا ، حول مفهومي التحرر والاشتراكية ، قد جازفت بإمكانية الغاء المكتسبات النظرية الفلسفية والسياسية في هذا المجال . ومن هنا فقرها النظري الذي تم تبريره باسم الخصوصية والاستقلال الفكري .
وبهذا المعنى ، تتوضح خلفياتها الأيديولوجية ، باعتبارها تعبيرا عن مطامح فئات اجتماعية ، وهي الفئات الوسطى أساسا ، تلك المطامح التي كان ينظر اليها ، في مطلقيتها ، باعتبارها " مطامح " الشعب / الجماهير / الفئات العاملة ..
ان الخطاب القومي الماهوي يجد نفسه اليوم ، أمام ضرورة صياغة الإجابات بصدد مجموع تساؤلات أساسية ، تتعلق بإشكالية المشروع المجتمعي ، والذي يستوجب تحديد النموذج السياسي ، وطبيعة النظام الاقتصادي ،وكذلك الاستراتيجية العالمية . ذلك ان المجتمع الدولي يقوم على استراتيجيات متنافسة ، تسعى كل واحدة منها لبسط هيمنتها .
ان تحقيق هاته المهمة الثلاثية الابعاد على مستوى التأسيس النظري ، يُبْرز أهمية العمل الفكري ، ومسألة المشروع الثقافي ، كأداة تثوير البنيات المجتمعية والذهنية ..
2 ) الخطاب الماركسي :
قد لا نجازف بالقول ، أنّ التقليد الماركسي في العالم العربي ، تمحور أساسا حول الممارسة السياسية للأحزاب الشيوعية العربية من جهة ، والحركات اليسارية من جهة أخرى . فالخطاب الماركسي جاء في فورة الصراع مع الأحزاب الشيوعية العربية ، والأحزاب القومية الماهوية ، بسبب خسارة الحرب في سنة 1967 ، وهي ما يعرف عند هؤلاء ب " النكسة " التي كانت اثقل من " النكبة " ، لانها تميزت بسيطرة إسرائيل على 84 الف كلمتر مربع من الأراضي العربية في ظرف ستة أيام .. فالهزيمة كانت تخاطب الأنظمة المنهزمة ، ومنها كانت تخاطب الأحزاب القومية الماهوية ، والأحزاب الشيوعية العربية . فكانت القاعدة السياسية التي أصبحت رمز الصراع هو افلاس الطبقة البرجوازية العربية ، منذ انشاء الدولة الكلونيالية ، مرورا بالدولة النيوكلونيالية ، ووصولا الى الدولة التكنوكلونيالية التي حافظت على العنوان للمتاجرة السياسية ، دون ان يتم تحرير شبر واحد من أراضي 48 ، واراضي 67 .. فكان طبيعيا ان يجد اليسار الماركسي التربة خصبة لتصريف برنامجه الذي ظل في واد ، في حين ظل الواقع العربي في واد اخر .. لقد عملت الحركات الماركسية اليسارية على تحقيق القطيعة على مستوى التصور والممارسة مع التنظيمات الشيوعية . ان تمحور العمل " الماركسي " في العالم العربي حول العمل السياسي ، وان كان يجد تبريره بمجموعة من العوامل الموضوعية ، فانه لا يستبعد عامل القصور الذاتي على المستوى الفكري والنظري .
ان النظرية الماركسية الكلاسيكية تقوم على التمييز بين الفلسفة والعلم . المادية الدياليكتية والمادية التاريخية . ويعتبر " لويس التوسير " Louis Althusser ان الغاء هذا التمايز ، هو الطريق المؤدي التحريفية يمينية كانت ام يسارية . ذلك ان استبعاد الفلسفة غالبا ما يؤدي الى الانحراف اليميني ، في حين ان استبعاد العلم المادي التاريخي ، يؤدي قطعا الى الانحراف اليساري . ان النزعة الأولى تنتهي الى نوع من الوضع Positivisme ، في ان النزعة الثانية تنتهي الى نوع من الذاتي Subjectivisme ، وبالتالي ان كلا من النزوعين يعبران عن التأثير البرجوازي الصغير ، على النظرية الماركسية ..
يمكن القول ، مع بعض الاستثناءات طبعا ، ان الحركة الماركسية في العالم العربي ، قد تراوحت بين هذين القطبين ، حيث سيعتمد الاتجاه الشيوعي على المقولات الواقع الموضوعي ، موازين القوى ، العامل الداخلي والعامل الخارجي ، وغيرها من المقولات المحددة للممارسة السياسية ، التي تنتهي في نهاية المطاف ، الى نوع من الانتظارية المتقاعسة ، بدعوى عدم نضج الشروط الذاتية والموضوعية اللازمة لعملية التغيير . في حين ستتميز الخطابات اليسارية بمقولات الصراع / الثورة ، واعتبار انجاز الاشتراكية مهمة مستعجلة ، وبالتالي عدم استلهامها لشروط الواقع ، الشيء الذي أدى الى عزلتها ، وفشل مشروعها التصحيحي ..
يمكن ان نضيف للعناصر السابقة ، كون معظم الأحزاب الشيوعية العربية ، قد ظل سجين الثوابت المركزية ، التي شكلت أساسا للعمل الشيوعي ، كما صاغته الأممية الثالثة ، هاته الثوابت التي يمكن تحديدها على ثلاث مستويات :
1 – إعطاء الأولوية للتضامن الاممي .
2 – إعطاء الاسبقية للتحالفات الافقية على التحالفات العمودية .
3 – اعتبار النضال القومي / الوطني ذو طبيعة برجوازية .
ان توجيه هذه الشعارات لعمل الأحزاب الشيوعية العربية ، قد انعكس في تبعيتها للمركز الاممي أيديولوجيا ، كما أدى الى عزلتها على المستوى الوطني . بل وفي بعض الأحيان قصور معظمها على فهم حقيقة طبيعة النضال القومي الماهوي .
ان الملاحظات السابقة تقترح تفسيرا اوليا لانحصار العمل الماركسي في العالم العربي على المستوى السياسي والنظري . ان فشل التنظيمات الماركسية في تحقيق بديلها التاريخي المرحلي ، إضافة للتحولات التي عرفتها بلدان أوربة الشرقية ، تجعل من مسائلة تجربة هذه التنظيمات مهمة مستعجلة انطلاقا من المحاور التالية :
--- مدى تمثل هذه الشعارات للماركسية كنظرية ومنهج ، مقارنة مع اعتبار معظمها ، أنّ الماركسية هي تصور حول المجتمع والعالم . ومن هنا اعتمادها على اطر فكرية دوغمائية ، يتم اسقاطها على مختلف مستويات الواقع ، ومن هنا البعد التقريري في مواقفها ، وضعف مستوى تحاليلها .
من هذا المنطلق يجب تأصيل النقاش النظري ، على اعتبار ان الماركسية هي أساسا أداة لمقاربة الواقع بخصوصياته البنيوية والتاريخية . ذلك ان الابداع النظري والمنهجي الماركسي ، قد تأثر الى حد كبير بمكتسبات الثقافة الغربية ، الفلسفية والعلمية ، وبالتالي ان مجمل التصورات الماركسية حول المجتمعات الأوروبية ، قد حكمتها خصوصية هذه المجتمعات ، ومن هنا ضرورة اعتبارها في تاريخيتها ونسبيتها .
--- مدى تجاوز التنظيمات الشيوعية للقيود الأيديولوجية والسياسية التي شكلت افقا لعمل الأممية الثالثة . ذلك ان الانهيارات التي عرفتها اوربة الشرقية ، قد ابانت عن عمق التصورات السابقة . ومن هنا يستدعي سؤال الفكر محاورة هذه التنظيمات بصدد القضايا التالية :
ا --- مدى ملائمة التصور التنظيمي القائم على " المركزية الديمقراطية " ، للرغبة في تأسيس تنظيمات " طلائعية " و " جماهيرية " ، انطلاقا من معطى ان تجربة هذه الأحزاب على المستوى التنظيمي ، قد تمحورت أساسا حول المركزية ، وتغييب التعامل الديمقراطي ، الشيء الذي أدى الى اختزال بعض الحركات والتنظيمات في بعض الرموز التي تضع نفسها وصية عن " الحقيقة " التي لا يمكن مخالفتها في شأنها .
ب – ما هي طبيعة التأصيل النظري والسياسي ، لشعار " الثورة الوطنية الديمقراطية " ، وذلك بتجاوز الطروحات اللينينية بهذا الصدد ، واعتبار الوقع العربي في خصوصيته ؟
ج – كيفية التعامل مع المسألة الديمقراطية ، ومدى تجاوزها للتصورات الستالينية . ومن هنا تطرح ضرورات نظرية ، تستوجب المعالجة الفكرية ، لعلاقة الاشتراكية بالحرية ، وعلاقة الفرد بالطبقة والمجتمع . وأخيرا علاقة السلطة السياسية بالمجتمع المدني .
3 ) الخطاب الإسلامي ، خطاب الإسلام السياسي :
لقد اصبح من البديهي ، أنّ انتشار الحركات الإسلامية ، او حركات الإسلام السياسي ، وأشكال التطرف الديني ، قد شكل نتيجة منطقية لفشل حركة " التحرر الوطني العربية " ، في صياغة المشروع المجتمعي ، وتحقيق البديل التاريخي . إضافة لاعتبارها ظاهرة افرزتها التحولات الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات العربية في بنياتها الأساسية .
ان تعامل الفكر " التقدمي " العربي مع المسألة الدينية ، تميز بتأرجحه ، بين موقفين . يتمحور الموقف الأول منهما ، حول استعادة بعض الاطروحات الفكرية الأوروبية ، ماركسية كانت ام غيرها ، بصدد الدين . ويتمثل الموقف الثاني ، في الخطابات الداعية لاستحضار الجوانب ( المشرقة ) في التراث العربي الإسلامي . ان كلا الموقفين إضافة الى تصورهما النقدي ، يتصفان بلا تاريخيتهما ..
ذلك ان التعامل مع المسألة الدينية ، قد اتخذ في الفكر الأوروبي الحديث ، طابعا خصوصيا . فعصر الانوار وما صاحبه من انتشار للفلسفات الالحادية ، وخصوصا في القرن الثامن عشر ( 18 ) ، ارتبط بالصراع الأيديولوجي الذي خاضته البرجوازية الناشئة ، ابتداء من القرن السابع عشر ( 17 ) ، والذي تبلورت بداياته مع المشروع الفلسفي " الديكارتي " Descartes . ان نضال البرجوازية ضد الكنيسة ، تزامن مع سعيها لتحقيق مشروعها التاريخي الهادف لا رساء دعائم المجتمع الرأسمالي الليبرالي . وسوف تعمل البرجوازية لاحقا ، وبعد ان استكملت هيمنتها ، على استرجاع اللاهوت المسيحي من اجل محاربة خصومها الطبقيين .
لقد تأثر التقليد الماركسي الى حد كبير بهذه الخصوصية ، كما استلهم المكتسبات الفلسفية السابقة في هذا المجال ، وخصوصا نقد " فيورباخ " Ludwig Feuerbach للديانة المسيحية وتأسيسه لأطروحة الاستيلاب Aliénation الديني .
لقد اقر ماركس بصلاحية الطرح "الفيورباخي " على المستوى النظري ، وتتمثل إضافة المركزية في ضرورة تثوير القاعدة الأرضية المولدة لظاهرة الاستيلاب الديني ، بهدف حذف التناقضات المنتجة لمختلف اشكال الاستيلاب . في حين ان المقاربة اللينينية للمسألة الدينية ، تثير ملاحظتين أساسيتين . تتعلق الأولى بما هو ذو طبيعة نظرية ، ذلك ان مجمل الكتابات اللينينية حول الدين ، لم تتجاوز بضع عشرات من الصفحات ، مقارنة الى التراث الضخم الذي ابدعه " لينين " بصدد العديد من القضايا . اما بالنسبة للملاحظة الثانية ، فتتعلق بالموقف اللينيني من المسألة الدينية من الناحية العملية ، والذي عبر عنه لينين بمناسبة مطالبته القس المسيحي بالانتماء للحزب الشيوعي البولشفي . لقد الح لينين على ما هو أساسي ، أي تقبل برنامج الحزب ، واعتبر مسألة الاعتقاد الديني قضية شخصية . ان التعامل الستاليني لا حقا مع نفس المسألة ، كان قائما على الاكراه والإرهاب الفكري . وإنّ امتدادات هذا الموقف على مستوى بلدان اوروبة الشرقية ، ابانت عن عقم ذلك . ان فئات عديدة من المجتمع المدني ، ستتمثل قيم الكنيسة الكاثوليكية كوسيلة للخلاص من هيمنة البيروقراطية واحادية الفكر ، مما يجسد تهافت الممارسة الستالينية على المستوى النظري ، وافلاسها على المستوى السياسي . ان الإقرار بتقاعس الفكر " التقدمي " العربي في التعامل مع المسألة الدينية ، هو إقرار كذلك بقصوره النظري أولا ، والذي يتضح من خلال النقل الميكانيكي لبعض الطروحات الماركسية ، دون مراعاة خصوصية المجتمعات العربية الإسلامية ، وخصوصية الديانة الإسلامية التي شكلت اطارا عاما تفاعلت داخله مختلف المكونات ، اطارا لم يمنع العقل من مسائلة العالم ، وتأسيس ذات النزوع العقلاني .. ان العديد من مكونات الفكر التقدمي ، لم ترتق الى حدس " جوهر " الطرح الماركسي اللينيني ، الذي تم تشويهه بمقولة " الدين افيون الشعوب " . ونادرا ما كان يتم الانتباه الى الدلالة العميقة للقول الماركسي ، بان الدين " آهة الانسان المقهور " .
اما الإقرار الثاني فيتحدد بكون الموقف الذي يدعو الى الى استلهام الجوانب " المشرقة " من التراث ، موقفا لا تاريخيا ، وذلك من منطلق استحالة اقتطاع جوانب واستلهامها ، واستبعاد جوانب أخرى . فالتراث كل واحد ، حكمت تجلياته شروط تاريخية محددة ، بلورت مجموعة مهام وتساؤلات ، تختلف في نوعية المهام والتساؤلات التي تفرزها شروطنا التاريخية الحاضرة .
-- ان منطلق الخطاب الإسلامي ، او الإسلام السياسي يقوم على ثنائية الكفر والايمان . هذه الثنائية يجب مسائلتها في المرحلة الأولى على المستويين التاليين :
1 ) اذا كان مفهومَا الكفر والايمان يستندان الى مرجعية المعتقد الديني الإسلامي ، متمثلا في النص الديني ، فان هاته المرجعية وضعت حدودا بين الايمان والكفر . الا ان هذه الحدود ، لم تمنع من تدخل الممارسة التأويلية الإنسانية ، والتي تجلت منذ المرحلة الأولى لتشكل الفكر العربي الإسلامي ، في الخلاف الذي نشب بين الفرق الإسلامية الأولى ، بصدد مسألة الخلافة ، وحكم " مرتكب الكبيرة " ، وبالتالي الخلاف حول تحديد مفهوم الايمان . وباعتبار ان الممارسة الإنسانية هي ممارسة تاريخية ، فإنها تتأثر بمتطلبات المرحلة التاريخية ، وتنشغل بتساؤلاتها . فبهذا المعنى نفهم اليوم ان السؤال العقائدي الذي شغل الفرق الإسلامية الأولى كان في جوهره سياسيا ، ذلك ان نفس الفرق إذ تختلف بصدد المسألة السياسية ، فإنها ترجع للمعتقد الديني ، بهدف تأويله لحمله على إضفاء الشرعية الدينية على مواقفها السياسية .
2 ) من هذا المنطلق ، تتوضح مجازفة الخطابات الإسلامية ، بوضع الحدود الفاصلة بين الكفر والايمان . ان ما يتطلب هذه المجازفة ، هو واقع تعدد هذه الخطابات نفسها ، بل وتعارضها ، مما ينزع عنها احقية الانفراد بتحديد شروط كل من الكفر والايمان ، حيث ان هذا الحق مشاع بين سائر المسلمين بالمعنى الديني والثقافي . كما ان الإسلام في جوهره لا يتوافق مع المؤسسة الدينية الموزعة لشهادة الايمان وصكوك الغفران .
-- " يفسر " الخطاب الإسلامي وضعية التأخر التاريخي التي تميز واقع المجتمعات الإسلامية ، بنحرافها عن التعاليم الدينية .. في حين يعجز عن تفسير تقدم المجتمعات الأخرى والغربية منها على وجه الخصوص . وهكذا يتصور هذا الخطاب ان إمكانية تجاوز وضعية التأخر تقتضي العودة الى الايمان الصحيح ، والاحتكام الى التشريع الإسلامي بصدد سلوكات الافراد والجماعات . بهذا المنظور يختزل الخطاب الإسلامي الإشكالية المجتمعية في مسألة الأخلاقية ، وبالتالي تبقى قضايا التحرر والديمقراطية وتجاوز وضعية التخلف ، قضايا عالقة ، وذلك بالركون الى القول ان الدين مصدر لكل الحلول ..
-- يعتبر الخطاب الإسلامي ان علاقة الدين بالتاريخ الإنساني ، هي علاق تطابق . في حين ان هاته الوحدة المنشودة ، تعارضها وقائع التاريخ الفعلي للمجتمع الإسلامي ، وتدحضها صيرورة الفكر العربي الإسلامي ذاته ، ذلك ان البحث عن مشروعية الممارسة الإنسانية التاريخية باسم الدين ، أدى دائما الى الاختلاف سواء تعلق الامر بالصراعات الاجتماعية او الممارسات الفكرية . والاّ كيف يمكن مثلا فهم تعارض الفريقين الكلاميين المعتزلي والاشعري ، والذي وجد له امتدادا في حقل الفلسفة ، بشكل من الاشكال ، بين الغزالي مفكر الفلاسفة ، وابن رشد مُتبّث مشروعية التفلسف .
ان الخطاب الإسلامي ، إذ يسعى لدمج الدين في السياسة ، يفصح عن افتقاده للتصور الخاص بالمشروع المجتمعي . وان ما يشكل اليوم عناصر قوته في مخاطبته الأخلاقية للجماهير ، هو ما سيشكل غدا عناصر ضعفه ، ذلك ان نفس الجماهير ستستعجل تلمس الإجابات عن انشغالاتها الأساسية وطموحاتها ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل