الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحبّ عند مقبرة الحرب!!

كريمة مكي

2024 / 2 / 19
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


منذ أن رحل أبي قبل ست سنوات، كَثُر تردّدي على مدينتي الأم لزيارة أمّي الوحيدة التي ترفض أن تُريحني و تأتي معي إلى بيتي في العاصمة.
و في كلّ مرّة كنت أعود فيها إلى الكاف صرتُ أسلك الطريق القديمة التي تمرّ عبر مجاز الباب عوضا عن الطريق السريعة التي تربحنا وقتا أكثر.
ما عاد الوقت يعني لي كما كان من قبل فقد خَفّت مسؤولياتي واحدة تلو الأخرى و صرت في حاجة ماسّة لملامسة الذكريات البعيدة و العميقة.
صرت أحب المرور على الطريق القديمة التي حذفتُها من سفراتي منذ أن تمّ انجاز ʺاوتوروتʺ تونس- مجاز الباب.
منذ بدء العمل بهذا ʺ الاوتوروتʺ الذي لا يغطي، في الواقع، إلا مسافة قليلة من طريق تونس- الكاف و أنا أتّكئ عليه للوصول سريعا إلى بيت أمي رغم أنّه حرمني و أولادي من متعة الدخول إلى مدينة مجاز الباب و عبور القنطرة المرادية المميّزة فيها و شراء بعض الأغراض كما كنت أفعل و أنا صغيرة مع أبي رحمه الله.
صرت اليوم أحبّ المرور على نفس تلك الطريق و استحضار الذكريات مع الحجر و الشجر و البيوت و الحوانيت الباقية بعد مرور السنين.
أتذكّر اليوم سفراتنا مع أبي حين كان يوقظنا في الصباح الباكر جدّا لنذهب إلى العاصمة و نعود إلى الكاف في آخر اليوم فأبي لا يُطيق المبيت في العاصمة رغم أنّه اقتنى شقة لنقيم فيها أنا و إخوتي خلال دراستنا الجامعيّة.
في تلك الأيّام الخوالي، كان يوم النزول إلى العاصمة متعة لا تضاهيها متعة رغم كرهي للاستيقاظ الباكر جدا الذي كان يُكرهنا عليه أبي.
كان يوم النزول إلى تونس –كما نقول- يوما منتظرا بشوق و فرح ففيه سنشرب قهوتنا في المقهى الأندلسي في تستور(الذي توقف نشاطه اليوم و ما صمد منه إلا الشجر و الحجر: فمازلت إلى اليوم أرى هيكله الجميل المحمي كما كان دائما بشجرة الياسمين الوفيّة الأمينة!!).
و بعد ذلك و بعد أن ينتهي أبي من اقتناء أغراض تجارته فإننا سنذهب لنأكل في أحد المطاعم الثلاث التي يحبها أبي في تونس و لا يحب غيرها.
أتذكّر كيف كان أبي في طريق العودة إلى الكاف لا ينفك يتذمرّ كل مرّة من غلاء الأسعار و خاصة من فاتورة المطعم الحارقة...
لو كان اليوم معنا و لمس التضخم الناري الذي نكتوي به و نعيش في ظلّه...ماذا كان يقول؟؟؟
كان بلا شك سيترحّم على الزمن اللطيف الذي مضى عليه رحمة الله!
في نهاية الأسبوع الماضي، عُدتُ إلى الكاف، كالعادة لزيارة أمي، و في الطريق اخترت أن أوقف السيارة على مستوى مقبرة ʺالكومنولثʺ بمجاز الباب لأستريح و أتناول من خبز الطابونة الذي أشترِيهِ دوما من عند ذلك الرجل المسن الذي هجره من كان يظنهم أحبابه: ولده و ابنته و حكومة دولته فوقف يبيع ما تصنعه زوجته العجوز من خبز لذيذ هو كلّ دخله في مواجهة الغلاء و مصاريف الشيخوخة و العناء.
قلت له و أنا أستلم منه الخبز الساخن الشهي: أنت الأغنى فينا!
قال : و كيف؟
قلت: لأنك تحظى أنت و زوجتك ببَركة الرب و لذلك فأنت الغني عن العالمين. لولا بركة الله لما كان هذا الخبز شهيّا بل و ساخنا إلى الآن و أنت الذي خرجت به من بيتك باكرا و اليوم بارد!
ابتسم ابتسامة الحامدين الشاكرين الذين لا يضرّهم نقص مؤونة أو فحش غلاء و لكن يكسر قلوبهم جحود الدولة و الأبناء!
نزلت من السيارة أمام المقبرة الجميلة و النظيفة.
مقبرة تضم رفاة جنود أجانب سقطوا في الحرب العالمية الثانية في معركة أرادها المتحاربون الكبار أن تقام على أرض البلد المسالم الصّغير: تونس الخضراء!
كان في المكان زوّار من كل الأعمار يلتقطون الصور التذكارية و أطفال يلعبون و يأكلون و يركضون و كأنّهم في حديقة ذلك أنّ جمال المكان يُنسيك حتما أنّك في مقبرة حرب.
لا بل أنني لمحت على الكرسي الحجري في أقصى يمين المقبرة شابا و فتاة متلاصقان يتناجيان و قد أعطيا بظهرهما للموتى و للمتطفلين من الأحياء!
ياله من مشهد جميل : الحبّ عند مقبرة الحرب: الحب على أنقاض الدماء المسفوكة و الأشلاء.
إنّه التحدّي الدائم لبلوغ الوعد المنتظر:
المحبّة هي وحدها الطريق للتعايش في سلام!
فإذا كانت الحرب تصنع الموت فمن بعد الحرب لا بدّ أن يجيء الحب ليصنع النّسل البهي و يصنع لنا الحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي