الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بورتريه الفن والواقع، الجنسانية والجمال

علاء موفق رشيدي

2024 / 2 / 19
الادب والفن


يجمع العرض الفني بعنوان (لوحة واحدة، فنان واحد، وعرض واحد One Painting one artist one performance ) للفنانة (عزة أبو ربعية) والفنان (بشارة عطا الله)، فن البورتريه إلى فنون الأداء، فهو يقدم لوحة واحدة تبقى مغطاة بستارة ذهبية حتى نهاية الأداء الحركي، الذي يتشكل من حركات بسيطة، حين يظهر المؤدي في صالة العرض يؤدي أفعالاً صامتة، يتمرآى في المرآة، يتكحل، يرتدي الحلي، الأقراط والأساور ويدلى حول عنقه الطوق ويربط عند خصره المسبحة، يدور المؤدي في الصالة مجدداً، يكمل ارتداء الأزياء، طبقات من الأقمشة، يعقد الخلخال حول قدمه، ويحمل تاجاً معدنياً منقوشاً بالغار الروماني، يضعه على رأس الفنانة أولاً، ومن ثم على رأسه، وأخيراً، يتخذ موقعه على عمق الكنبة في الصالة، لترفع اللوحة فتظهر صورته فيها في وضعيته التي وصل إليها في أداءه.

العمل الفني والواقع جدلية الاستقلالية وإعادة التمثيل:
يقترح غاليري (مجاز) على المتلقي هذه التجربة الفنية التي تقدم أولاً عرضاً أدائياً (بشارة عطا الله)، ليكشف المعرض تالياً عن لوحة وحيدة، هي بورتريه لعطا الله من رسم (عزة أبو ربعية). لتنعكس التجربة الفنية عما هي عليه في التجربة الواقعية. إن التجربة معاكسة هنا، فبينما يتموضع الموديل عادةً لتتحقق اللوحة، نجد اللوحة هنا في العرض المسرحي محققة في انتظار أن يتموضع الموديل أمامها. إن اللوحة المحققة هنا سابقاً على العرض هي في انتظار اكتمال الموديل. ما يمكن أن نطلق عليه ثنائية الاكتمال بين الوضعية المرسومة في اللوحة والوضعية المحققة خلال الأداء الحركي.

إن عرض البورتريه وأداء الواقع إلى جانب بعضهما البعض يطرح تساؤلات عن العلاقة بين اللوحة-العمل الفني والواقع. هل الواقع يعيد تمثيل اللوحة؟ أم أن العمل الفني يعيد تمثيل الواقع؟ أم أن كل منهما مستقل في حضوره عن الآخر. إن الواقع حاضر بإستقلالية، لكن هل يمكن للعمل الفني أن يستقل بمدلولاته عن الواقع. يرى المفكر الفرنسي (جان بودريار) في كتابه (المصطنع والإصطناع) أن الرمز المصطنع كالصورة أو اللغة لا يحجب الواقع بل حل هو نفسه مكان الواقع، بتدميره ثنائية الدال والمدلول، ما يعني أن سلطة الرمز افترست المرجعية التي يشكلها أو كان يشكلها الواقع. وهكذا بات الواقع هو الرمز، والرمز ذاتي المرجعية، لا يرتبط بغير ذاته، الرمز يصنع العالم، وهو العالم. كما يوضح المترجم (جوزيف عبد الله) في مقدمته للكتاب. يكتب (جان بودريار): "إن أفضل مثال مجازي على الاصطناع، حكاية بورخيس حيث عمل واضعو خرائط الإمبراطورية على تصميم خريطة مفصلة لدرجة أنها صارت تغطى تماماً كل إقليمها، لكن انحطاط الإمبراطورية انتهى تدريجياً بتفكك أطراف هذه الخريطة لتنتهي بالتلف، وما يزال منها في الصحاري بعض المزق القابلة للترميم، جمال ميتافيزيائي لهذا التجريد المندثر يشهد على كبرياء بحجم الإمبراطورية ويتحلل كجيفة تعود تراباً، تقريباً على غرار النسخة التي تصير نفس أصلها مع تقادم الزمن".

تمر الصورة برأي (بورديار) في عملية التمثيل بالمراحل التالية:
• إنها انعكاس لحقيقة عميقة،
• تحجب وتشوه حقيقة عميقة،
• تحجب غياب الحقيقة العميقة،
تكون بلا علاقة مع أي حقيقة كانت: إنها الاصطناع الخالص المخص بها.

البورتريه بين إبداع الرسامة وجمال الموديل:

ما رأيت وجهاً قط في جمال وجهك، هذه حقيقة مقررة. والجمال لون من ألوان النبوغ، بل الجمال أعلى قدراً من النبوغ، وهذه أيضاً حقيقة مقررة. فإن كنت تشك في ضوء الشمس أو في الربيع أو في القمر الفضي حين ينعكس خياله على المياه المظلمة أو في أشباه هذه الحقائق الأولية فلك أن تشك في صدق ما أقول. إن الجمال يحكم العالم بإذن من الله، ولا ينازعه في دولته شيء في الوجود. (صورة دوريان غراي)

في العرض الأدائي في غاليري (مجاز) يجسد المؤدي لوحة الفنانة، وفي لوحة البورتريه تجسد الفنانة أداء الموديل. إن هذه الجدلية تطرح الأسئلة الفنية عن دور الرسامة والموديل في الإبداع الفني. هل الإبداعية في لوحة البورتريه تأتي من جمال الموديل أم من إبداع الفنانة. تتطرق رواية (صورة دوريان غراي، أوسكار وايلد) لهذا التساؤل، يقول الرسام في الرواية: "اصغ إلي إن كل صورة ترسم بإحساس قوي هي صورة الفنان وليس صورة نموذج. فالنموذج شيء عارض لا أكثر ولا أقل، أو هو المناسبة فقط. والرسام لا يكشف عن شخصية نموذج في الصورة التي يرسمها وإنما يكشف عن شخصيته هو". بينما يجيبه المحاور المدافع عن جمال الموديل: "أنت تقول إنك وضعت فيها من نفسك أكثر مما ينبغي، وهذا غرور منك عظيم، أنت مخدوع بنفسك، كيف تشبه نفسك بهذا الفتى الذي يحاكي أدونيس جمالاً، ويبدو كتمثال مخروط من عاج كسته أوراق الورد؟".

تقول الرسامة (عزة أبو ربعية) في لقاء صحفي: "لقد ألهمني جمال بشارة تحقيق عمل فني لوحة بورتريه عنه". وفي حوار مماثل من رواية (صورة دوريان غراي) يقول الفنان أن جمال البورتريه يخلق الأسلوب الفني: "يخيل إلي أحياناً أن تاريخ العالم ليس فيه إلا عصران لهما بعض الأهمية: العصر الأول هو العصر الذي ظهرت فيه أداة جديدة للتعبير الفني، والعصر الثاني هو العصر الذي ظهرت فيه شخصية جديدة أصبحت موضوعاً فنياً. لست أدري إن كنت تفهم معنى هذا الكلام أم لا، ولكن شخصيته قد ألهمتني أسلوباً في الفن جديداً. إن رؤية هذا الصبي حين يخطر أمامي تلهمني دون وعي مني بأسس مذهب جديد، وأحس بهذه الأسس إحساساً واضحاً فتلهمني أسلوب جديد يجتمع فيه خيال المدرسة الرومانسية وسمو الروح اليوناني". يضع الفنان بشارة عطا الله في العرض وفي اللوحة تاجاً ذهبياً من الغار اليوناني.

بالمقابل، تحمل لوحة البورتريه روح الموديل، يروي (أونوره دي بلزاك) في قصة الأدبية (اللوحة غير المنجزة) حكاية تبرهن على ألا اكتمال للوحة إلا بتجسد روح الموديل. فإن كان العمل الفني يستمد إبداعيته من روح الرسامة في الخيار الأول، فإن الخيار الثاني ليس إلا اعتبار إبداعية البورتريه تكمن في روح الموديل. هذا ما يعيشه الموديل (دوريان غراي) في رواية (أوسكار وايلد)، فهو يشعر أن اللوحة جسدت روحه، بتلك المصداقية التي تفوق معرفته بمكنوناتها: " ظن أن ما به خداع حسي ففرك عينيه واقترب من الصورة ليدرسها من جديد فلم يجد بها أي تبدل، لكنه لم يشك في أن الوجه بأكمله يحمل معنى جديداً. نعم، إن ما يراه حقيقة لا ريب فيها، وهي تنطق في معالم الوجه بجلاء تام آثار الرعب في قلبه". لا يرتبط إبداع لوحة البورتريه في هذا اللوحة على جمال البورتريه، بل هي تمتد لتعبر عما يفيض عن داخله: " هناك الصورة، ما العمل في هذه الصورة التي تعلن مكنونات نفسه وتسرد قصة حياته دون حاجة إلى ألفاظ؟ لقد علمته الصورة أن يتعشق جمال تكوينه، أفتراها تعلمه الآن أن يمقت بشاعة روحه؟".

وتناقش تالياً رواية (صورة دوريان غراي) موضوعة الجمال والشيخوخة، الهرم والخلود بين الواقع واللوحة، فتعقد روح دوريان غراي اتفاقاً مع الشيطان، لتصاب صورته في اللوحة بالهرم والشيخوخة، وينعم جسده الأرض الفيزيولوجي بالخلود والجمال: "سوف يتقدم بي العمر وأصبح مخلوقاً بشعاً تنفر منه العيون، أما هذه الصورة فستظل أبداً ناضرة الشباب، ولن يزيد عمرها عن هذا اليوم من شهر يونيو، ليت الأمر كان بعكس ذلك. ليت الصورة تكبر وأخلد أنا في شبابي، إني أتنازل عن أعز ما أملك لتتم هذه الصفقة، وليس في العالم كله ما أضن به ليتحقق لي هذا الحلم". لكن الرواية ما تلبث عند بلوغ نهايتها أن تذكر بأن التلف وآثار الزمن تصيب الصورة أيضاً بذاتها: "لقد عاد فعدل عن هذه الأوهام، فقد تذكر أن الصورة تكبر في العمر كما يكبر الإنسان وتسجل الخطوط التي ترسمها السنون على صفحة الوجه. وقد تنجو الصورة حقاً من آثار الخطيئة ولكن هل من الزمن نجاة؟ لسوف يغور خداه أو يترهلان، ولسوف يتسع فمه كما يتسع فم الأبله أو يسترخي".

الموديل واللوحة في جنسانيات الذكورة والأنوثة والحياد:

إن طفلاً من الأطفال المنشدين المتماسكين بالأيدي على شكل دائرة تدور خرج فجأة من الدائرة، وباستطلاع غريزي تابعت عيني حركته، وحين توقف كان قد أصبح بالقرب مني، ورأيت وجهه، لم يكن طفلاً ذكراً، كان أنثى، لم أعرف عن يقين أنها أنثى، فوجوه الأطفال كوجوه العجائز لا جنس لها.
(الأغنية الدائرية، نوال السعداوي).


إن ميزة الإيحاءات الجندرية في هيئة البورتريه، وميزة الأداءات الحركية في العرض الفني أنه تمزج، تدمج، تلتبس فيها عناصر الذكورة والأنوثة، الرجولة وذائقة المرأة وحركتها في الآن عينه. توضح الرسامة (أو ربعية) في حديث خاص معها أنه هذا التمازج، التداخل، الإلتباس بين الإيحاءات الجنسانية بين الذكورة والأنوثة، بين الأداءات الجندرية بين الرجولة والنسوية كان واحداً من العوامل الأساسية التي دفعتها إلى تحقيق اللوحة-المشروع. تحاول الكاتبة (نوال السعداوي) في روايتها (الأغنية الدائرية) ابتكار هذا الكائن الثنائي الجنس تخييلياً، من خلال قصة جنين توأم (حميدو وحميدة): "حميدو لا يعرف كيف يعيش بغير حميدة، فهي ليست أختا عاديا، ولكنها توأمه، والتوأئم نوعان، نوع ينشأ عن الجنينين يعيشان في رحم واحدة، ونوع آخر ينشأ كر وأنثى داخل جنين واحد. كان حميدو وحميدة جنينا واحداً، ينمو داخل رحم واحدة، منذ البداية كانا شيئاً واحداً، أو خلية واحدة، ثم أصبح كل شيء ينقسم اثنين، والملامح انقسمت اثنين، أدق الملامح انقسمت اثنين، حتى العضلة الضئيلة الصغيرة تحت كل عين انقسمت، ولم يعد ممكنا لأحد أن يعرف حميدو من حميدة".
بالإضافة إلى ثنائية الجنس والجندر في الأداءات الحركية والإيحاءات الجسدية، فإن المؤدي (بشارة عطا الله) يختار تلك الأزياء والإكسسوارات التي تنتمي إلى عالم الذائقة المشتركة، الملتبسة بين الرجل والمرأة. لذلك، فإن الرسامة تراعي في الهيئة الحاضرة والمرسومة في البورتريه تلك الإيحاءات المتبادلة بين الجسنانية والجندر، أو بالأدق، تخلق بورتريه يطرح خياراً جنسانياً وجندرياً إضافياً، هو اقتراح المحايدة الجنسانية والجندرية التي لاتتحقق إلا في العمل الفني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟